فضل محمد البرح
أُصِيبَ بحادثٍ مروِّع على إثره تمرَّغتْ سيارتُهم الَّتي يقلُّونها ظَهْرًا لِبَطْن، ونأَت بهم خارجَ الخطِّ على الأرض الرمليَّة، وقذفَت بهم السيارةُ مِن نوافذِها، انتهَت السيَّارةُ، وهُم لَم يُصابوا إلَّا بجروح طفيفة، سبحان الله! هذا ما حدَّثني صاحبُ الحادِث عند لقائي به.
الحمدُ لله، وكلُّ هذا بقضاء الله وقدَرِه.
وبعد فراغنا مِن الحديث امتطيْنا السيَّارة وتحرَّكْنا، فبيْنما نحن نسير إذ فوجئْنا بزحمة سيَّاراتٍ في الطَّريق، وكلَّما اقتربْنا قليلًا اشتدَّ الزِّحامُ أكثرَ، أحسسْتُ أنَّ هذا حادثٌ مِن نوعٍ آخَرَ، وبالفِعل لَم يخْطئ الإحساسُ في ذلك، وعند قُرْبِنا مِن الحادث بين سيارتَين، قال لي مَن بجواري: أما ترى ذلك الرَّجُلَ بداخل السيَّارة لا يحرِّك إلَّا رأسَه، ولَم يستطع الخروجَ مِن السيَّارة لشدَّة الحادث، ولمَّة السيَّارة له!
وقد اجتمعَ الإسعافُ حوْلَه وهم يُحاولون إخراجَه، فالتفتُّ إليه قائلًا: إنَّ الله تعالى جعَل القدَرَ مُتَنَفَّسًا لِبني آدم حتَّى يخفِّفوا مِن آلامِهم، وهَوْلِ مصيبتهم، فيعلموا أنَّه بقضاء الله وقدَرِه.
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22].
فيرضَوا ويُسلِّموا.
﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156].
فالاحتجاج بالقَدَر يكُون على مثْل هذه المصائِب والآلام، ولا يجُوز الاحتِجاجُ به على المعايِب والآثام، بل تجب التَّوبة منها، ويُلام فاعِلُها؛ فالصَّبرُ على ما يُقَدِّره الرَّبُّ على العبْد، ولا صنع له فيه - فرضٌ، والرضا فيه مُستَحَبٌّ، والتسخُّط والتضجُّر ليس مَسْلَكَ الصَّالحين.
قال ابنُ القيِّم: "فإنَّ مراتب النَّاس في المقدور ثلاثة: الرِّضا وهو أعلاها، والسخط وهو أسفلها، والصَّبر عليه بدون الرِّضا به وهو أوْسطها، فالأُولى للمقرَّبين السَّابقين، والثَّالثة للمقتصِدين، والثَّانية للظَّالمين، وكثيرٌ مِن النَّاس يَصْبر على المقدور فلا يَسخَط وهو غيرُ راضٍ به؛ فالرِّضا أمْرٌ آخر"؛ "مدارج السَّالكين" (1 /111).
وهنا يَتَرَسَّخ الإيمانُ في عقيدة المسلِم بالقدَر خيرِه وشرِّه، ويُسْتَشَفُّ التَّسليم المطْلق مِن العبد لربِّه، فالقَدَرُ سِرُّ الله في خَلْقِه، جعَلَهم مُعَرَّضين للابتِلاء بنوعيه: الخير والشَّرِّ، فيُعطي مَن يشاء ويَمنع مَن يشاء، ويُعزُّ مَن يشاء ويُذلُّ مَن يشاء، فلله الحكمة البالغة في تصرُّفاته وأفعاله، فقد جعل الدُّنيا دارَ ابتِلاء والجَنَّةَ دارَ نعيم، ولا يُمْكن أن ترتفِع خاصِّيَّتهما؛ مِن أن يَزول عن هذه الحياة الدُّنيا المتاعب واللُّغوب، والتعرُّض للأذى، حينَها ستكون دارَ نعيم، وليستْ دار امتحانٍ واختبار.
ولن يُعفيَ القدَرُ عبدًا سَلَكَ بنفسِه طريقَ المهالك وتجاوَزَ الحدودَ، ونأى بنفسِه عن الأخذِ بالأسباب بحجَّة القدَر؛ فإنَّ هذا ليس مِن الدِّين في شيء؛ إذِ الاحتجاج بما وَقع مِن القدَر غيرُ الاحتجاجِ بما سيقع مِن المصائب والآلام، فالأوَّل ليس فيه إلَّا التَّسليم، والآخر تُدفع أقدارُ الله بأقْدارِ الله تعالى - من الأخذ بالأسباب والعمل الصَّحيح، وهذا عينُ التَّوفيقِ بين قدَر الله تعالى وشرْعه؛ شرع الله الَّذي حثَّ ورغَّب بكل ما يكون فيه مصلحة للعباد، وزجَر وشنَّع كلَّ ما مِن شأنِه أنْ يؤدِّي إلى فسادِ وخرابِ مَصالحِهم.
فإنَّ السرْعة والتهوُّر في السَّير، وعدَم الأخذِ بوسائل السَّلامة قفزٌ على أسباب النَّجاة، وتجاوُزٌ للشَّرع، في الوقوع والتردِّي فيما يُسخِط الرَّبَّ تعالى، وتعْريضُ النَّفسِ والغيرِ للخَطَر النَّاتجِ عن عدَم ضبطِ النَّفس والتقيُّدِ بما يكُون سببًا لحفظ البشريَّة.
وليس على الإنسان جريرةٌ ولا مَلامةٌ إذا وقع في أحضانِ المصيبةِ بَعد ذلك، إنْ هو الْتَزَمَ بالأخْذ بالأسباب المشْروعة الَّتي بمقْدُورِه، وتَلَبَّس بالمعصية بعد الإقْلاع عنها والتَّوبة.
كثيرة تلك التي تَحُلُّ بالعبد غيرَ ما ذُكر مِن الآلام والمصائب، كالمرض وفقدانِ بعضِ أجزائه وأطرافه، وألَم الفِراق لموتِ أحبابِه وأقاربِه، والاضطِهاد بالبُعْد عن الأوطان، ومُفارَقة الخلَّان، أو يراها بين العباد مِن مفارقاتٍ جعَلَها اللهُ تعالى سِرَّهُ في قَدَرِه وقضائه؛ أنْ جعَل منهم الغنيَّ والفقيرَ، والقويَّ والضَّعيفَ، والظَّالم والمظلوم، والسَّقيم والصَّحيح، بل جعَل التفاوُتَ بينهم أمرًا لا يرتفع عنهم؛ لحكمةٍ بالغةٍ قضاها في شؤون خَلْقِه، ليس للعبد إلَّا أنْ يُقِرَّ بها ويسلِّم، ويمشي على وَفق سُنَنِ الله تعالى في هذا الكون لا يَتخطَّاها، ويأتيها مِن غير أبوابها، حينها يكون العبد قد مَنَحَ نفسَه مُتَنَفَّسًا، وكان على قَدْرٍ مِن الرَّاحة حينما تخالجه التَّساؤلات، وتَدْلَهِمُّ عليه النوازل.
التعليقات