الخطبة الأولى:

الحمد لله ذي العظمة والكمال، والإحاطة والجمال، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَن كملتْ صفاته وحسنت أسمائه وهو الإله المتفرد بالربوبية والجلال.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي اصطفاه على العالمين، وجعله إماماً وسيداً للأولين والآخرين، وختم به الأنبياء والمرسلين، اللهم صل عليه وعلى آله وصحابته وأتباعهم الى يوم الدين.

أما بعد؛ فاتقوا الله أيها المؤمنون...

عباد الله: به تطيب الحياة، وباللهج به تُرفع الدرجات، به تَسمى مَلِكُ الأملاك، وابتدئ القرآن به، ربنا -سبحانه- يحب الحمد، وتسمى بالحميد، وجعل أول آية في كتابه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وجعل حمده من أشرف الأذكار، وأفضل الأقوال؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله تملأ الميزان"؛ فمن يستحق الحمد إلا الله؟

ربما رأيت من يفيض في مدح فلان وفلان، فيقول ما فيه وما ليس فيه، فإن كان ما قال في وجهه حقاً فقد استحق أن يحثى في وجهه التراب، وإن كان مدحه بكذب فقد عصى رب الأرباب، ولو خلا من هذا وهذا؛ فالمخلوق لا يخلو من قصور، فإن حمدت منه خلقاً كرهت آخر..

أما الله -جل جلاله- وتقدست أسماؤه؛ فهو المحمود على كل أحواله، وفي جميع فعاله وأقواله، وفي شرعه وقدره وقضائه، في شدة العبد ورخائه، في سرائه وضرائه، في ليله ونهاره، أجل فمن نحن لولا الله، ما العبد لولا الرب، وما بنا من فضل وإنعام فهو من الله ذي الإكرام..

وهو الحميد فكل حمد واقعٌ *** أو كان مفروضا مدى الأزمان

ملأ الوجود جميعه ونظيره *** من غير ما عدٍّ ولا حسبان

هو أهله سبحانه وبحمده *** كل المحامد وصف ذي الإحسان

عباد الله: لماذا نحن نحمد الله؟ ما لذي يدعونا إلى أن نقول بألسنتنا وقلوبنا الحمد الله؟

نحن -أيها الكرام- نحمد الله على أسمائه وصفاته؛ فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل، وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وجلال وإكرام فالله مستحقه لا سواه.

نحمده؛ لكمال أفعاله وإتقان تدبيره، فهو كلُ يومٍ في شأن، يغفر ذنباً ويفرج كربا ويكشف غمّا وينصر مظلوما ويأخذ ظالما ويفك عانيا ويغني فقيرا ويجبر كسيرا ويشفي مريضا ويُقيل عثرة ويستر عورة، ويُعِزُّ ذليلا ويُذل عزيزا ويعطي سائلاً، ويداول الأيام بين الناس، ويرفع أقواماً ويضع آخرين، وهو المتصرف في الأمور كلها، وتصرفُه دائرٌ بين العدل والإحسان والحكمة والمصلحة والرحمة فلا يخرج تصرفه عن ذلك.

ونحن نحمد الله على نعمه وآلائه، تفضّل علينا، جعلنا عبيداً له خاصة، وكرّمنا فجعلنا من بني آدم، وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً، نحمده لأنه المستحق للحمد، نناديه فيسمعنا، ندعوه فيجيبنا، يبتلينا فيرفعنا، نحمده فيأجرنا، وهو من للحمد دلّنا ووفقنا.

حبّب إلينا الإيمان وهدانا له وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر، في حين أنك ربما رأيت الكافر أو المبتدع قد ظل عن الحق وزُيّن له سوء عمله فرآه حسناً.

نحمد الله؛ لأنه كتب في قلوبنا الإيمان، فلم يجعلنا من عسكر الشيطان أو عبّاد الأوثان، سمّانا المسلمين قبل تخليقنا، وذكرنا قبل أن نذكره، وأعطانا قبل أن نسأله، وتحبب إلينا بنعمه مع غناه، تابع علينا النعم وداوم الألطاف واستمر في الإكرام، ولو عدّ العادُّ النعماء لانقطع وعجز عن الإحصاء.

نحمد الله؛ لأنه التّوّاب، مَن عصاه فتح له الأبواب، وتلطف إليه بأحسن وأرقّ خطاب؛ (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ * إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

يُذنِب العبدُ سنين عدداً، ويُسرِف على نفسه في الصبح والمساء، فيبادر للتوب، فيغفر الرب، ولو عاد لعاد الرب، فتُهدم الذنوب وتغفر الزلات، فالحمد لله غافر الخطيئات.

نحمد الله؛ لأنه الحليم، سبقت رحمته غضبه، ولو آخذ العباد بما كسبوا ما بقي على الأرض من دابة.

نحمد الحميد؛ لأنه حين ابتلى لطف، وحين مسّ عبده بالضُرِّ خفّف، وهو قادرٌ على أن يجعل العبد يتقلب في المصائب، لكنه يتابع بين سراءٍ وضراء، ولا تدوم حياة الشقاء؛ فمن صبر على البلاء رَفَع في الجنة ثوابه، ومن حمده على قضائه رضي عنه -سبحانه-.

في الحديث أنه -عليه السلام- قال: «إِذَا قَبَضَ اللَّهُ ابْنَ الْعَبْدِ قَالَ لِمَلاَئِكَتِهِ: مَا قَالَ عَبْدِى قَالُوا: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ. قَالَ: ابْنُوا لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ».

نحمد الله؛ لأننا نتفيأ أمناً في الديار، ورخاء في العيش، وعافية في الأبدان، "ومن أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".

كم ترى ممن يتمنون الأمن الذي أنت فيه، والرغد الذي تتقلب فيه، فله الحمد على فضله وما بكم من نعمة فمن الله..

كم ترى في الأرض من أصمٍ وأنت تسمع، من أعمى وأنت تبصر، من معاقٍ وأنت صحيح، من مجنونٍ وأنت عاقل، كم في الناس من عقيمٍ وأنت موهوب، من فقيرٍ لا يجد ما يطعم وأنت تتمتع بشتى الأصناف، كم ترى ممن بُلي بضيق النَفَس وأن تتمتع بالهواء بلا مشقة، ولو ضاق نفسُك دقيقة، أو حُرمت الماء يوماً لعلمت أيَ نعمة هي عندك، فلله الحمد على نعمائه..

ونحمد الله -أيها الكرام- لأننا بالحمد نكسب الثواب؛ فالحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض ثواباً.

نحمده؛ لأننا بالحمد نغرس قيعان الجنة، ولا يغيب عن الأذهان قول المصطفى -عليه السلام-: "رأيت إبراهيم ليلة أسرى بي فقال يا محمد أقرئ أمتك السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وإنها قيعان وغراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر".

نحمد الله؛ لأن الحمد أحب الكلام إليه، وكم هو شرف أن تتقرب إليه بأحب الكلام إليه

فسل نفسك -يأيها المبارك-، ما قدرُ الحمد من كلامك، وما قدره في قلبك وفؤادك، غبنٌ أن ترى الله يتابع عليك النعم وأنت تتسخط ولا تشكر الله، غبن أن ترى الفقير يشكر ربه، وأن ترى المريض يحمد مولاه، وأنت أيها الصحيح المعافى، الطاعم الكاسي تغفل عن الحمد بلسانك وفؤادك..

اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم وفقنا لحمد، اللهم صل على محمد..

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ جلَّ الله منْ واقِ *** الكلُّ يفنى ووجهُ الواحدِ الباقي

لك الحمد والنعماء والفضلُ ربَّنا *** فلا شيءَ أعلَى منك مجَداً وأمجدُ

مليكٌ علَى عرش السَّماء مهيمنٌ *** لعزّته تعنو الوجوه وتسجدُ

إذا زينةُ الدنيا من المالِ أعرضت *** فأَزيَنُ مِنها عِندنا الحَمْدُ والشُّكْرُ

أما بعد: المؤمن يحمد الله على كل حال، فهو إذا استيقظ حمد الله أن أبقاه حياً وقال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»، وإذا عطس حمد الله، وإذا خرج من الخلاء حمد الله، وإذا لبس جديداً حمد المولى أن كساه وقال: "الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة".

المؤمن إذا رأى مبتلى قال: «الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، وهو موعود حينها بأن يعافيه الله من ذلك البلاء كائنا ما كان».

المؤمن إذا أصبح قال: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك، فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر» وهو بهذا قد أدى شكر يومه.

المؤمن إذا طعم أو شرب حمد الله، وهو يضع نصب عينه قول نبيه: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها».

فالحمد لله على كل إنعامه، وسارّ إفضاله، وسابغ عطاءه، والحمد له أن وفقنا لحمده، فما منّا شيء، يوفقك لأن تحمده، ويأجرك على ما وفقك له.

إذا كانَ شكرِي نعمةَ الله نعمةً *** عليَّ له في مثلها يجب الشُّكرُ

فكيفَ بلوغُ الشّكر إلاَّ بفضلهِ *** وإنْ طالت الأيَّام واتَّصل العمرُ

إذا عم بالسراء عم سرورها *** وإن مسّ بالضراء أعقبها الأجر

وما منهما إلا له فيه نعمةٌ *** تضيق بها الأوهام والبر والبحر

فحمداً لك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وسبحانك ربنا ما شكرناك حق شكرك وما قدرناك حق قدرك وما حمدناك حق حمدك، وعزائنا وسلوتنا أنك رحيم ترحم المقصرين وكريم تقبل من المقلين، وأنت الله رب العالمين.