الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر
1- لقد أمر الله تبارك وتعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه في آيات محكمات من كتابه الكريم منها: قوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وقوله تعالى: ﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 67]، وقوله جل ذكره: ﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [القصص: 87].
والأصل في خطاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم دخول أمته معه فيه إلا ما دل الدليل على اختصاصه به دون الأمة، فإن الأمة لا تدخل معه في تلك الخصوصية، كما قال تعالى في شأن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأحزاب: 50].
والدعوة ليست مما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما ورد من أمر الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة فإن الأمة شريكة له في ذلك الأمر تبعًا له، فإنها مكلفة تبعًا له صلى الله عليه وسلم في القيام بوظيفة الدعوة، فكما أن الدعوة واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهي واجبة على الأمة بحسب الحال.
2- ولذا خاطب الله تعالى عامة المؤمنين خطابًا صريحًا بقوله: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
والخير هو الإسلام كله، بدليل حديث حذيفة رضي الله عنه في الصحيح، وفيه: فجاءنا الله بهذا الخير ـ يعني: الإسلام ـ فهل بعد هذا الخير من شر؟... الحديث[1].
فقد أمر الله تعالى الأمة في هذه الآية بالدعوة إلى الإسلام، والأصل في الأوامر الوجوب على من خُوطب به بحسب الحال والقدرة، ومما يؤكد ذلك أن الفعل في الآية جاء مقترنًا بلام الأمر، فدل على تأكيد الأمر، ووجوب القيام بوظيفة الدعوة إلى الله بحسب الأهلية والقدرة، فلابد من قيام طائفة من المؤمنين بمهمة الدعوة إلى الله تعالى، بحيث يحصل بقيامهم المقصود، وإلا أَثِم الجميع على التقصير في الواجب.
3- كذلك فإن الدعوة إلى الله تعالى تلتقي مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدرجة الثانية، وهي درجة التغيير باللسان إذا لم يستطع باليد، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطِع فبلسانه»[2]، وهو الجهاد باللسان الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث الخلوف: «ثم إنها تخلف خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن...الخ»[3].
فإن التغيير باللسان دعوة إلى فعل الواجب الذي ظهر تركه، وترك المُحرَّم الذي ظهر فعله، بذكر دليل وجوب الفعل أو وجوب الترك، ووعظٍ بالترغيب والترهيب، ومجادلةٍ بكشف الشبهات، وإقامة الحق بالحجج الواضحات، والبراهين الساطعات، وإذا كان تغيير المنكر باللسان واجبًا على من لم يستطع التغيير بيده واستطاع بلسانه، فذلك من أدلة وجوب الدعوة على المعيَّن بحسب أهليّته وقدرته.
فهذه الأدلة ونحوها مما جاء في معناها من نصوص الكتاب والسنة مما لا يتسع المقام لذكره فيها أبلغ الدلالة على فرض الدعوة إلى الله تعالى فرضًا كفائيًا - أي: على عامة الأمة -، إن قام به من يكفي ويتحقق بهم المقصود سقط الإثم عن الأمة، وإلا أَثِم الجميع.
فلابد أن تتصدى للدعوة إلى الله تعالى طائفة من الأمة يحصل بها المقصود؛ بحيث تكون في حق الباقين سنةً عظيمة وقربة جليلة، ويكون القائم بها من المسارعين في الخيرات السابقين إلى المغفرة والجنات: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4]
فإن قول الله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ [آل عمران: 104] ، وقوله: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110] ، مع ما في سياقها من التعريض بكفرة أهل الكتاب الذين لم يقوموا بذلك، وبذكر عقوبة الله البليغة لهم بسبب تركهم النهي عن المنكر، كما في قوله تعالى ﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ [المائدة: 78، 79] ، أي: تركوا البيان والوعظ والزجر وقت الحاجة، أي: تركوا الدعوة إلى ترك المنكر.
ففيما اشتملت عليه الآية من ذكر عقوبة السابقين التاركين للأمر والنهي، وفي ضمنه تحذير للاحقين من التقصير في هذا الواجب، أبلغ الدلالة على وجوب الدعوة إلى الله تعالى على الأمة عامة، وأنه يجب على المسلمين عامة أن يقوموا بإعداد وتأهيل وتكليف طائفة منهم تقوم بواجب الدعوة والأمر والنهي، تحصل بهم الكفاية، وأن يعينوهم بكل ما يلزم - حسب الإمكان - لتحقيق هذا الواجب العام عليهم، وهو الدعوة إلى الله تعالى، وهداية عباده إليه، وإعلاء كلمته وإظهار دينه، وإقامة حجته، ومحاربة الشرك والبدع والأهواء وكبائر الذنوب، والأخذ على أيدي أهل هذه الذنوب وأطرهم على الحق أطرًا، وقصرهم عليه قصرًا، وإلا أثم الناس جميعًا، فلا سلامة من الإثم، ولا أمن من عقوبته إلا بقيام طائفة من الأمة بهذا الواجب العظيم، بحيث تتحقق بقيامهم به غايات الدعوة ومقاصدها.
ولا شك أن هذه الأمور غير حاصلة بوجه كافٍ في هذا الزمن، فإن الجهد المبذول في الدعوة غير كافٍ، والإمكانات الحاصلة غير مُستغَلة، وعظيم المسؤولية على قدر عظم الحاجة والإمكان، فالواجب عظيم، والتفريط كبير، والإمكانات كثيرة، والوسائل ميسرة، والميدان واسع، ونسأل الله تعالى الإعانة على الخير، والعفو عن التقصير، وفي المطالب التالية إشارة إلى مهمات من ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[1] أخرجه البخاري برقم (3606)، ومسلم برقم (1847).
[2] أخرجه مسلم برقم (49).
[3] أخرجه مسلم برقم (50).
التعليقات