اقتباس
وإذا جرينا على ما عليه الأكثر من جواز التعدد لحاجة، فللحاجة صور منها أن يكثر أهل المصر بحيث لا يسعهم مكان واحد، مسجداً كان أو غيره، وأن تبعد أطرافه بحيث يشق السعي منها إلى مكان واحد، وأن يوجد...
حكم إقامة جمعتين في بلدة واحدة
الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قد فرض الله على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، وفرض يوم الجمعة هو صلاة الجمعة متى استوفت شروطها؛ فإن لم تستوف شروطها فالفرض الظهر كباقي الأيام لا يخالف في ذلك أحد.
وقد اشترط الشافعي لصحتها ألا يسبقها ولا يقارنها جمعة في مكانها؛ أي: في البلد الذي أقيمت فيه. هكذا نص الشافعي، وعلَّله الأصحاب بأنه -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين من بعده لم يقيموا في البلد الواحد إلا جمعة واحدة، ولأن المقصود من الجمعة إظهار شعار الاجتماع، واتفاق الكلمة، وكونُها جمعة واحدة أفضى إلى هذا المقصود.
وقد دخل الشافعي بغداد وفيها يقام جمعتان، وقيل ثلاث، فلم ينكر على أهلها، فاختلف الأصحاب في الجمع بين نصه على عدم جواز التعدد وسكوته عن إنكار التعدد: فمنهم من قال: إن التعدد في بغداد كان لحاجة، ونصه محمول على ما إذا لم يكن هناك حاجة للتعدد ولم يعسر الاجتماع، وعليه أكثر الأصحاب، بل قال الروياني: إن مذهب الشافعي لا يحتمل إلا هذا، ومنهم من قال: بل كانت بغداد يشقها نهر إلى قسمين، وفي كل قسم جمعة، والتعدد حينئذ يجوز، وقال بعضهم: كانت قرى منفصلة ثم تلاصقت، والتعدد يجوز في هذه الحال، ومنهم من قال: إن مذهب الشافعي هو ما نص عليه من عدم جواز التعدد مطلقاً، وأما سكوته عن الإنكار على أهل بغداد فلأن المسألة اجتهادية، وليس للمجتهد أن ينكر على مجتهد في ذلك.
وإذا جرينا على ما عليه الأكثر من جواز التعدد لحاجة، فللحاجة صور منها أن يكثر أهل المصر بحيث لا يسعهم مكان واحد، مسجداً كان أو غيره، وأن تبعد أطرافه بحيث يشق السعي منها إلى مكان واحد، وأن يوجد بين أهله خصومات تؤدي إلى فتن لو اجتمعوا في مكان واحد، وأمثال ذلك.
وعلى هذا فإذا لم تتعدد الجمعة أو تعددت وعلم السابق لا يجوز إعادة الجمعة ولا الظهر، أما عدم إعادة الجمعة فلسبق جمعة صحيحة لها، وأما عدم جواز إعادة الظهر فلأن فرض اليوم هو الجمعة لا الظهر، وهذا بالنسبة لأهل الجمعة السابقة، أما أهل الجمعة المسبوقة، فإن قلنا بعدم جواز التعدد مطلقاً فعليهم إعادة الظهر، وإن قلنا بجوازه لحاجة، وكان هذا التعدد لحاجة، فيسن لهم إعادة الظهر، خروجاً من خلاف من يمنع التعدد مطلقاً، وإن كان هذا التعدد بلا حاجة فعليهم إعادة الظهر حتماً، لأن جمعتهم لم تستوف شرط صحتها، وهو عدم سبق جمعة صحيحة لها، فإن اقترنتا وجب عليهم جميعاً إعادة الجمعة، لأنه لم يسبق جمعة صحيحة وهم من أهلها، فإن شك في السبق والمقارنة أو علم السبق ولم ي علم السابق، وجب عليهم جميعاً إعادة الظهر، أما في حالة الشك فللاحتياط للخروج من عهدة التكليف بيقين كما شغلت الذمة بفرض الجمعة بيقين، فإنه يحتمل المقارنة فتكون جمعتهم كلهم باطلة، ويحتمل السبق، وكل من الطرفين يجوز أن يكون هو المسبوق، وأما في حالة ما إذا علم سبق ولم يعلم مَن السابق، فلأن كلاً منهما يحتمل أن يكون هو المسبوق، فيكون الفرض لا يزال في ذمته.
وعلى ذلك تكون الخلاصة: أنه إذا لم تتعدد الجمعة لا يجوز إعادتها جمعة ولا ظهراً، وإذا تعددت لغير حاجة، فإن سبقت إحداها وعلمت فهي المعتد بها، وعلى الآخرين إعادة الظهر، وإن قارنت وجب على الجميع إعادة الجمعة لبطلان الجمعتين بالمقارنة وإن سبقت إحداهما بيقين ولكن لم تعلم السابقة، وجب على الجميع إعادة الظهر، وإن شك في السبق والمقارنة وجب على الجميع إعادة الظهر.
وبهذا يتبين جهل من يرمي الشافعي بأنه يلزم مذهبهم أن تكون فرائض الصلاة ستاً، في أحد الأيام وقد جعلها الله خمساً، فهذا كلام لا يصدر إلا عن مسرف في المجازفة والافتيات على أئمة الدين بدون أن يتفهم كلامهم ويعرف مستندهم؛ فقد رأيت مما تقدم أنهم استندوا في وجوب أن تكون جمعة البلد الواحدة واحدة إلى ما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين بعده من أنهم لم يقيموا في البلد الواحد إلا جمعة واحدة، والحكمة في ذلك واضحة، وهي أن المقصود من الجمعة إظهار شعار الاجتماع واتفاق الكلمة، ولا شك أن تعدد الجمعة في البلد الواحد لا يفضي إلى هذا المقصود إفضاء وحدتها، فمن الذي ينكر ما في اجتماع أهل البلد الواحد كل أسبوع مرة في مكان واحد، يتعارفون ويتوادون، ويتعهد بعضهم بضعاً، ويجددون رابطتهم، من الفائدة العظمى التي لا يزال الدين يرمي إلى أمثالها.
وإذ قد ثبت عند الشافعي أن وحدتها شرط لصحتها بالدليل النقلي المسند بالنظر العقلي، فكل ما فقد شرط صحته من العبادات فهو غير مجزئ، وإذا لم تقع الجمعة مجزئة فالظهر واجب بإجماع المسلمين، والمراد بأهلها الذين لا يسعهم مكان واحد، مَن يغلب صلاتهم لها في البلد. وقيل من تجب عليهم، وقيل: من تصح منهم. واعتمد الرملي الأول. ثم العبرة في السبق بسبق الإمام بتكبيرة التحريم، أي: بتمام الراء من أكبر، وقيل: العبرة بسبق بدء الإمام بالتحريم: أي بهمزة الله. وقيل بالسلام، وقيل بالخطبة.
ولنتل عليك عبارة الأم التي هي أصل نص الشافعي في هذا الموضوع: "ولا يجمع في مصر وإن عظم أهله وكثر عامله ومساجده إلا في المسجد الأعظم، وإن كانت له مساجد عظام لم يجمع فيها إلا في واحد، وأيها جمع فيه أولاً بعد الزوال فهي الجمعة، وإن جمع في آخر سواه بعده لم يعتد الذين جمعوا بعده بالجمعة، وكان عليهم أن يعيدوا ظهراً أربعاً"، ثم قال: "وإن أشكل على الذين جمعوا أيهم جمع أولاً، أعادوا كلهم ظهراً أربعاً".
والله سبحانه أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
المصدر: مجلة نور الإسلام العدد 33 ربيع الأول1352هـ.
التعليقات