عناصر الخطبة
1/ الموت يذكرنا بنفسه 2/احذر الغفلة والتسويف 3/المحسوبيات لا تنفع في الموت 4/الموت يأتيك فجأة 5/فقد الولد وجزاء من صبر واحتسب 6/العبرة من ذكر الموت الاستعداد لهاهداف الخطبة
اقتباس
ليست العبرة بذكر الموت مجرد إدرار الدمع, وإنما العبرة والدرس المستفاد أن يعمل العبد عملا يجعله على فراش الموت متهللا ضاحكا, يقول ما قال بلال: "غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه". العبرة والدرس المستفاد أنه إذا أصبح في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة, هتف بها: "فزت ورب الكعبة...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله, أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد لله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، صلوا عليه وآله اللهم صل وسلم وزد وأنعم عليه وعلى آله وصحابته وعطرته, أما بعد :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
استوقفني ملك الموت! وهل يظهر ملك الموت لأحد حتى يستوقفه؟ نعم استوقفني ملك الموت فغير مجريات أحداثنا لتضيق هذه الخطبة فتتمحور حول هذا الحي الضيق دون عن العالم الإسلامي.
هو الموت الذي نتغافل عنه ويذكرنا بنفسه تارة بعد تارة, كرة بعد كرة, كلما حاولنا نتناساه بدا لنا في آية من آيات الله الكونية أو آية من آيات الله المتلوة, ليقرر لنا أن هذه الدنيا مهما بلغت ما هي إلا متاع زائل.
هذه الدنيا ما هي إلا حياة غرارة وكأس بالمنية دوارة, إن حلت أوحلت, وإن كست أوكست, وكم من ملك رفعت له فيها علامات فلما علا مات. (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ) [الحديد: 20] كمثل الزرع ألست ترى المرع أخضر ثم تراه مصفرا ثم يكون حطاما, هذا هو مثل الحياة الدنيا لتبقى الوصات الخالدة "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل", "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح " لأن الكأس دوارة وكلنا سيشرب منها.
حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري *** ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار
بَينا يَرى الإِنسان فيها مُخبِراً *** حَتّى يُرى خَبَراً مِنَ الأَخبارِ
حتّى متى أنت في لهو وفي لعب *** والموت نحوك يهوي فاتحا فاه
نعم هو الموت الذي يأتي بدروسه وعبره, على أشكال وعلى ألوان فقط ليذكرنا به؛ لأننا نحاول أو ننساه أو نتناساه, فينشدنا الدهر كله بصوت واحد ولسان واحد:
الموتُ في كلّ حينٍ ينشُرُ الكفنا *** ونحنُ في غفْلةٍ عمّا يُرادُ بنا
لا تطمئنَّ إلى الدنيا وبهجتها *** وإنْ توشّحْتَ مِنْ أثوابها الحسَنَا
أين الأحبّةُ والجيرانُ؟ ما فعلوا؟ *** أين الّذين همْ كانوا لنا سكَنا
سقاهمُ الموتُ كأساً غيرَ صافيةٍ *** فصيّرتْهمُ لأطباقِ الثّرى رُهُنا
الدرس المستفاد: انسَ ما شئت لتكن ذاكرتك ضعيفة فيما شئت إلا الموت, ولقاء الله تعالى لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوصيك صباح مساء قائلا: "أكثر من ذكر هاذم اللذات". ولما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن أكيس الناس قال: "أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا".
والموت فاذكره وما وراءه *** فمنه ما لأحد براءه
وإنه للفيصل الذي به *** ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان *** أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي بعده *** أفضل عند ربنا لعبده
وإن يك شراً فما بعد أشد *** ويل لعبد عن سبيل صد
الدرس المستفاد: أنه لا مجال للتسويف حان وقت العمل, دقت ساعة العمل، لا مجال للتسويف ولا للمماطلة ولا لسوف ولا لسين, ولا لأفعل، ولا لحين أكبر، ولا حين أبلغ الأربعين ولا حين أتزوج, ولا حين ينجب لي الولد..لا، لا قبل أن يأتي وقت لا ينفع فيه الندم ولا تغني فيه سوف ولا ينفع أن يتنجح العبد طالبا متوسلا (لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 100].
إلى كم ذا التراخي والتمادي *** وحادي الموت بالأرواح حادي
تُنادينا المنية كل وقت *** وما نصغي إلى قول المنادي
فلو كُنَّا جماداً لاتعظنا *** و لكنا أشد من الجماد
الدرس المستفاد: أن المحسوبيات لا تنفع في الموت, أن المناصب مهما بلغت لا تدفع عنك الموت، أن ملك الموت لا يعترف بالواسطة, لا يعرف المحسوبيات, لا يغني ملك ولا أمارة أمير ولا ثراء ثري.
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
لقد قالها الله لمحمد -صلى الله عليه وسلم- الذي لو كان الخلد في الدنيا حقيقا به أحد مصطفى به واحد دون العالمين؛ لكان أولاهم وأحراهم محمد -صلى الله عليه وسلم-, فقطع الله الرجاء وبتر الله الأمل قائلا: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) [الزمر: 30] (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) [آل عمران: 144] وجاء جبريل ليؤكد هذه الحقيقة فنفث في روع محمد -صلى الله عليه وسلم- قائلا: "يا محمد عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه" .
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب *** متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة *** عليه مضى طفل وكهل وأشيب
الدرس المستفاد: أنه لا توقيت مكاني ولا توقيت زماني للموت، الموت يأتيك فجأة يخترم المنايا اختراما, لو كان الناس في بروج مشيدة أو كان الناس في تواقيت يظنون أنها توقيت الفرح إلا أن الموت ليس له توقيت زمني ولا مكاني, لأنها في خمسة من الغيب استأثر الله بعلمها.
العلم الحديث يستطيع أن يحدثنا عن جنس الجنين بعد أشهر من تكوينه, العلم الحديث يستطيع أن يتنبأ بالخسوف أو الكسوف ويصدق في كثيرا من تنبؤاته, لكن هل يستطيع العلماء والعباقرة والفلاسفة والمفكرون والمنجمون هل يستطيع واحد منهم أن يحدث إنسانا عن ساعة وفاته أو مكان وفاته؟!.
في خمسة من الغيب استأثر الله بعلمها لتبقى لله وحده على وجه الحصر (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34].
مشيناها خطى كتبت علينا *** ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كتبت منيته بأرضٍ *** فليس يموت في أرض سواها
لا توقيت زماني، لا توقيت مكاني, لذلك كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومنتظر غدا لا يبلغه, لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره, قد يسبق الصغير الكبير, قد يؤجل السقيم ويعجل للصحيح.
يمضي الصغير إذا انقضت أيامه *** إثر الكبير ويولد المولود
والناس في قسم المنية بينهم *** كالزرع منه قائمٌ وحصيدٌ
الدرس المستفاد : أن الموت لا يمنع منه مانع (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) [النساء: 78], إذا مات الكبير والسقيم فإن ذلك مظنة الموت, لكن حين تخترم المنية صغيرا يافعا للتو شب وملأ عين والديه, فإنها الجمرة التي تقع على الكبد لا تطفئها العبارات ولا تطفئها الآهات.
وأولادُنا مثل الجوارح أيُّها فقدناهُ *** كان الفاجعَ البيِّنَ الفقْدِ
هذه أعرابية فرحت بوليدها ضمته إليها شمته طالما تغنت له بالأشعار:
يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد *** أهكذا كل ولد؟ أم لم? يلد مثلي أحد
فلما شب ويفع اخترمته المنية من بين يديها فقالت:
يا قرحة القلب والأحشاء والكبد *** يا ليت أمك لم تحبل ولم تلد
لما رأيتك قد أدرجت في كفن *** مطيبا للمنايا آخر الأبد
أيقنت بعدك أني غير باقية *** وكيف يبقى ذراع زال عن عَضُد
بكته وأرسلت الدمع مدرارا, بكى أبو الحسن التهامي ولده وأرسل الدمع مدرارا، بكى ابن الرومي بالأشعار ولديه وأرسل الدمع مدرارا، بكى الشعراء, بكى غيرهم.
بكيتك يا بني بدمع عيني *** فلم يغني البكاء عليك شيئا
وكانت في حياتك لي عظات *** وأنت اليوم أوعظ منك حيا
قيل لأعرابي ما أحسن عزاؤك في ابنك؟ قال: "إن مصيبتي فيه أمنتني من المصائب بعده".
لكنني أعزي الذين فقدوا أبناءهم, أعزيهم بعزاء رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يقول فيه: "إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي فيقول نعم, فيقول وهو أعلم أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: وماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله جل وعلا: ابنوا لعبدي بيت في الجنة وسموه بيت الحمد". وعن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن المطيبة الأفواه بالصلاة والتسليم عليه قال, يقول الله -عز وجل-: "ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة".
اللهم إنا نحتسب عندك كل صفي قبضته, إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم, استغفر الله, استغفر الله, استغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه يا طوبى للمستغفرين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إنعامه, والشكر له على تفضله وامتنانه, ولا إله إلا الله تعظيما لشانه, صل الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.
أما بعد:
هو الموت, مهما لونه الملونون أو تحدث عنه الشعراء, يظل تلك الفاجعة التي لا يخفف وطئتها تواليها, سبحان الله أرحام تدفع وأرض تبلع، ونحن نرى البلى كل يوم ونحمل الموتى وندفنهم مع ذلك تظل فاجعة الموت قوية.
أيها الأخوة: ليست العبرة بذكر الموت مجرد إدرار الدمع, وإنما العبرة والدرس المستفاد أن يعمل العبد عملا يجعله على فراش الموت متهللا ضاحكا, يقول ما قال بلال: "غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه".
العبرة والدرس المستفاد أنه إذا أصبح في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة, هتف بها: "فزت ورب الكعبة " وقال ما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى" وهو يستعجل لقاء الله تعالى.
في مورثنا عن الأئمة الثقات من سلف الأمة -رحمهم الله تعالى-, أن أحدهم لو قيل له تموت غدا لم يستطع أن يستزيد شيئا من العمل.
إذا العبرة أن تملأ ساعات الفراغ وأن تجتهد في الإقبال على العمل, صدقة وبرا وصلة وعلما وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر, بذل للندى كفا عن الأذى, صلاة وصيام, قيام وذكر وتمام حتى تلقى الله كما يحب أن يلقاك الله.
اللهم إنا نسألك وأنت الحي الذي لا يموت والقيوم الذي لا ينام, نسألك أن تحسن لنا الخواتيم, نسألك أن تحسن لنا الخواتيم, نسألك أن تحسن لنا الخواتيم .
اللهم اجعل أخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله, أحينا على لا إله إلا الله وأمتنا على لا إله إلا الله وابعثنا على لا إله إلا الله غير مغيرين ولا مبدلين يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا أجمعين وهب المسيئين منا للمحسنين, اغفر خطئنا وعمدنا وهزلنا وجدنا وكل ذلك عندنا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا, اللهم اغفر لنا ما قدمنا وأخرنا وأسررنا وأعلنا
التعليقات