عناصر الخطبة
1/ تحريم الظلم وبيان عاقبته 2/ من صور ظُلْمِ العاملين 3/ من مفاسد تأخير الحقوق 4/ وُجوبُ كونِ المسلمين قدوةً حسَنةً 5/ الهدي النبوي في معاملة الخدم 6/ ثمرات المعاملة الصالحة للعامليناهداف الخطبة
اقتباس
إن المجتمع المسلم يجب أن يظهر بالصورة الحقيقية التي جاء بها الإسلام، وهي الوفاء، وأداء الحقوق، والالتزام بها؛ لأن المجتمع المسلم يجب أن تُنقل عنه صورةٌ حسنةٌ طيبة في الوفاء والتعامل الحسَن، كما أمرنا اللهُ بذلك، ورسولُه صلى الله عليه وسلم، هذا الواجب على الجميع، الله جل وعلا يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، وهؤلاء يُخلون بالعقود بأمور ..
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ: فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى.
عباد الله: إن الإسلام يتشوَّف دائماً إلى مجتمعٍ متكافلٍ متعاونٍ متماسك، يسود بين أتباعه الأخوة والمودة، ويقوم على أساس العدل، بعيداً عن الظلم والحيف والجور.
وإن من أعظم ما يقوِّض تماسك الأمة ويفسد الحال بين أفرادها الظلمَ، بمختلف صوره وألوانه، وفي شريعة الله تحريم الظلم، في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالله -جل وعلا- بكمال عدله تنزه عن الظلم فقال -جل جلاله-: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس:44]، وقال تعالى وتقدس: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46]، وقال -جل جلاله-: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف:49].
وجاء تحريم الظلم في السنة النبوية، ففي الحديث القدسي الذي يرويه نبينا عن ربنا -جل جلاله- قال: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم محرماً فلا تظالموا"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله".
وبيَّنت السنة عاقبة الظلم، وأن عاقبته وخيمة، وعذابه أليم، وقد حذَّر الله الظالمين وتوعدهم أعظم وعيد، قال -جل وعلا-: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم:42].
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الله بالمرصاد للظالمين يمهلهم ثم يأخذهم على غِرة أخذ عزيز مقتدر، وفي الصحيح يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم تلا قوله: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102]، (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:57].
والظلم ظلماتٌ يوم القيامة، "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة"، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن دعوة المظلوم مستجابة؛ لأنه مظلوم فدعاؤه على ظالمه مستجاب، يقول -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: "واتق دعوة المظلوم! فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- عن انتصار الله للمظلوم على ظالمه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثةٌ لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والمسافر، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول: وعزتي! لأنصرنَّك؛ ولو بعد حين".
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- عن حقيقة الإفلاس يوم القيامة، فسأل أصحابه، "أتدرون من المفلس فيكم؟"، قالوا يا رسول الله: المفلس فينا من لا دينار له ولا متاع، قال: "ولكن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وضرب هذا، وأكل مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن قضيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من سيئات المظلوم فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار".
وقال أيضاً: "من كان عنده مظلمةٌ لأخيه من عِرضٍ أو شيء فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم"، إن كان عملٌ صالح أُخِذ منه بقدر مظلمته، وإلا أُخِذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طُرِح في النار.
أيها المسلم: هذه عاقبة الظلم في الدنيا والآخرة، فمن اتقى الله في نفسه وتبصر في نفسه ترفع عن الظلم مادام قادراً عليه.
أيها الإخوة: ومن أنواع الظلم ظلم الخدم والعمال والكفلاء والمستأجرَين بأنواع الظلم والعدوان الصادرة من بعض أولئك، فمن هذا الظلم تكليفهم ما يغلِب عليهم ولا يستطيعون القيام به، وتهديدهم إن قصروا بقطع شيءٍ من المرتب أو نحو ذلك، وهذا من أنواع الظلم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إخوانكم خوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فلا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم".
ومن أنواع ظلمهم أيضاً تأخير مستحقاتهم والمماطلة بها إلى أن تمضي الشهور العديدة وهم يطلبونها ولا يحصلون عليها؛ لأن هذا الكفيل وهذا المسؤول وصاحب المؤسسة لا يبالي بالضعفاء والمساكين، ولا يقيم لهم وزناً، ولا يخشى عقوبة الله، إما لقوة نفوذه، أو لأنه يستطيع التحايل والتلاعب على هؤلاء، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مطل الغني ظلم"، أي تأخير القادر على الوفاء ظلمٌ لذلك الإنسان المستحق للوفاء، ظلمك إياه أن أخَّرت مستحقه وهو يستحقه، أخرته عليه شهوراً عديدة، يعتبر هذا ظلمٌ منك وعدوان.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ليُّ الواجد يُحِلُ عِرضه وعقوبته" أي امتناع القادر على الوفاء يُحِل عقوبته وسبه، لأنه ارتكبَ إثماً عظيماً وأخَّر ما يجب عليه إيفاءه.
ومن أنواع الظلم جُحدان الحقوق وإنكارها، والتنصل من هذه الحقوق، ودعوى أنه قد أعطى ولم يعطِ، وهذا يقع من بعض الأفراد، أو من بعض المؤسسات والشركات فلا يبالون، وربما استغلوا جهل الجاهل فوقَّع على أمورٍ لا يعلم حقيقتها يدينونه بها والله يعم أنهم كاذبون.
ومن أنواع ظلم العامل أيضاً عدم توفير الأمور الأساسية له من مسكنٍ أو غذاء أو أمورٍ صحية يخالف بذلك أفعاله السيئة فيتنكر لكل هذه الحقوق.
ومن أنواع ظلمهم الإتِّجار بهم كما يفعله بعض أولئك، فيتَّجرون بالخادمات أحياناً، يأتي بها على أن المرتب ألف ريالٍ أو نحو ذلك ثم يؤجرونها للآخرين بأضعاف تلك الأجرة ويأخذون الزائد ويعطونها أقل من ذلك عن جهلٍ منها وعدم علمٍ بحقيقة الأمور، وهذا خطأٌ ومخالفٌ لشريعة الله، فإن أولئك أحرار وليسوا أرقاء لك تتصرف فيهم كيف تشاء، والله خلق آدم وذريته أحراراً، وإنما الرق طارئٌ بأسباب الكفر والضلال، وإلا فالأصل أنهم أحرار، لهم حقوقهم الواجبة.
فكونك تأخذ الخادمة بأجرٍ معين ثم تؤجرها على آخرين بأضعاف تلك الأجرة وتأخذ هذا الأجر الزائد لك، إن هذا ظلمٌ وعدوان، فالأفراد والمؤسسات والشركات لا يجوز لهم التلاعب بهذا؛ بل يُعطى العامل حقه، وإن أُجِّر لغيره أُعطيَ ما يستحق، إلا برضىً منه وطيب من نفسه؛ أما هذا التحايل وهذه المماطلات بأولئك فتلك صورةٌ خاطئة ينبغي للمسلم البعد عنها.
إن المجتمع المسلم يجب أن يظهر بالصورة الحقيقية التي جاء بها الإسلام، وهي الوفاء، وأداء الحقوق، والالتزام بها؛ لأن المجتمع المسلم يجب أن تُنقل عنه صورةٌ حسنةٌ طيبة في الوفاء والتعامل الحسَن، كما أمرنا اللهُ بذلك، ورسولُه -صلى الله عليه وسلم-، هذا الواجب على الجميع، الله -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1]، وهؤلاء يُخلون بالعقود بأمور.
ومن إخلالهم بالعقود أن يتفق مع العامل على أجرٍ معين فإذا تمكن منه ماطله بذلك، وحاول أن يفرِض عليه التنازل عما اتفقا عليه لأجل مصلحته، فيتفق معه مثلاً على أجرٍ ثم يحاول أن ينزله إلى أقل من ذلك، والعقد القائم بينهم معروف، لكن هذا الظالم يريد أن يخل بهذا العقد، وهذه معصيةٌ لله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة:1].
ومن تلاعب أولئك أنهم يستقدمون أحياناً عمالاً لمؤسسات وهمية ومصانع وهمية لا حقيقة لها ولا وجود لها على أرض الواقع، فيأتي هذا العامل وينتظر العمل في هذه المؤسسة أو في هذه المزرعة أو في أماكن معينة وإذا صاحبه قد أخبره بخلاف الواقع، وخلاف الواقع مصانع وهمية وأعمالٌ لا أرضية لها في أرض الواقع، فماذا يعمل؟ يتركهم فوضى في الشوارع يكتسبون، ثم هو لهم بالمرصاد عند كل وقت فيستغل شيئاً من أجرتهم وينافسهم على مصالحهم.
يبثهم في الشوارع يعملون على ما يشاءون، لكن هو لهم بالمرصاد في كل شهر يمتص من رواتبهم، يقتص من رواتبهم ظلماً وعدواناً، وينافسهم في أعمالهم، ويضايقهم في معيشتهم، لماذا؟ لأنه استقدمهم!.
نعم، استقدمتَهم فخُذ منهم قدر ما أنفقت، خذ منهم قدر ما أنفقت وبذلت، أما أن تجعلهم أرقاء لك في كل الأعوام، لا يسافرون إلا بتسليم، ولا يجدد لهم الإقامة إلا بأخذ شيء من أموالهم، هذا ظلمٌ وعدوان، وأكل مالٍ بغير حق، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [النساء:29]، هذا باطل وخطأ وأخذ مال بغير حق.
العمل شرفٌ لأهله، وعزٌ لأهله، وأنت أيها المغفل الذي لا تستطيع العمل ولا التنفيذ، وأنت نائمٌ على فراشك بعمالٍ جئت بهم تستغل معيشتهم، وتضايقهم في أرزاقهم، وتقتطع من حقهم ظلماً وعدواناً، هذا أمرٌ لا يجوز إقراره ولا البقاء عليه، ينبغي أن تأخذ قدر ما أنفقت، وما زاد على ذلك فاعلم أنه ظلمٌ في حقك، وأكل مالٍ بغير حق، وحرامٌ عليك!.
كيف ترضى لنفسك بالدون والهوان؟ هؤلاء يأكلون من عرق جبينهم، يكدحون ويتعبون ويشرفون أنفسهم بالعمل، وأنت مهمتك أن تكون لهم بالمرصاد، تقتص من حقوقهم وتأخذ من أموالهم بغير حق؟! هذا كله ظلمٌ وعدوان.
ومن أنواع ظلمهم -أيضاً- السب والشتم والأقوال البذيئة وتعييرهم بألقابهم، أو سب بلادهم، أو ضربهم بغير حق.
ومن ظلمهم أن بعض هذه المؤسسات يؤخرون رواتب العمال سنةً أو أكثر، ثم يقتطعونها من زكاة أموالهم، ويعطونهم من زكاة أموالهم حقوقهم، وهذا ظلمٌ وعدوان؛ لأن الزكاة حقٌ للفقير والمسكين، ولا يمكن أن تكون الزكاة تسقط الواجب عليك، وهذا خطأ، الحقوق الواجبة لا تسقطها الزكاة، كما أن نفقة أولادك لا تكون من زكاة مالك، والنفقة على الأبوين لا تكون من زكاة مالك، فكيف ترضى أن تعطيهم زكاة مالك لتسقط الحقوق الواجبة لهم؟.
إن تأخير الحقوق يسبب مفاسد عظيمة، منها أن الكفيل قد يكون فقيراً لو تراكمت الشهور عليه لعِجز أن يؤديها، فالواجب أن يؤديها كل شهرٍ بشهره حتى يسلم من التبعات.
ثم بعضهم يسأل: العامل ترَك عندي مرتب سنة أو سنتين وغادر ولا أعرف مكانه ولا أستدل على عنوانه، إذن ما الحال؟ كل هذا نتيجة للظلم والعدوان وعدم التبصر.
إنَّ الواجب تقوى الله في هذه الأمور كلها، وأن نعطيَ كل ذي حقٍ حقه، وأن يكون المسلمون صورةً حيةً بتطبيق شريعة الإسلام، وأن ينقل عن المجتمع المسلم أنه مجتمعٌ مسلمٌ حقاً في أقواله وأعماله؛ لأن هذا هو الواجب، إن أيَّ خطأ يقع من العمَّال لاشك أنه قد يكون سببه من العامل ذاته، وقد يكون سببه من صاحب العمل وإهماله.
أيتها المرأة المسلمة: إن خدمكِ في بيتك أنتِ مسؤولة عنهم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيتها"، فأنتِ راعيةٌ على مَن في البيت، اتقِي الله في مَن تحت يدك، كوني قدوةً صالحة، احذري الظلم والعدوان، والكلمات البذيئة، والكلمات السيئة، اتقي الله في ذلك.
ثم أيضاً راعي البيت وشأنه، وإياكِ أن تجعلي ثِقل البيت على هؤلاء المستخدمين، ثم تلومين ما حصل وما حصل! أنتي مسؤولة عن البيت وشؤون البيت والمنزل، أنتِ المسؤولة عن الأطفال كلهم، أنتِ المسؤولة والمؤتمنة، فاتقي الله في الأمور كلها، وعامليهم معاملةً حسنة،...، بدعوتهم إلى الله، ليروا منَّا أخلاقاً طيبة، وتعاملاً حسناً، ودعوةً صادقة، بالأخلاق والكرامة والفضيلة.
إنَّ المسلم يمثِّل الإسلام في أقواله وأعماله وسلوكه، حتى إذا رآه الغير ورأوا سلوكه الحسن وأخلاقه الفاضلة نقلوا تلك الصورة الحسنة، وتأدَّبوا وتخلَّقوا بأخلاقنا، أمَّا إنْ قابلناهم بسوء العمل، أو رأوا منَّا تهاوناً في أمور ديننا، وتساهلاً في محارمنا، وعدم مبالاةٍ بأخلاق إسلامنا، فإن تلك هي المصيبة العظيمة!.
فالمسلمون يجب أن يمثلوا الإسلام في أخلاقهم وأعمالهم وتصرفاتهم ليكونوا دعاةً إلى الخير، دعاةً إلى الهدى، أسأل الله أن يثبت الجميع على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، إنه على كل شيءٍ قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ.
أما بعد: فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله: يقول -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله: ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمُه خصَمْتُه: رجلٌ أعطى بي ثم غدر، ورجلٌ باع حراً ثم أكل ثمنه، ورجل استأجر أجراء ثم استوفى حقه ولم يعطهم أجرهم"، هؤلاء الثلاثة الله خصمهم يوم القيامة، فاحذر أخي أن تكون مثلهم، أعط الحقوق لأهلها، وتخلص منها في حياتك قبل أن تلقى الله بها يوم القيامة تتمنى الخلاص ولا ينفعك ذلك.
أيها المسلمون: إن هدي الإسلام هو الهدي الحق في التعامل مع العامل، فكما يجب على العامل تقوى الله وأداء العمل بإخلاص وأمانة فيجب على رب العمل أن يقابل ذلك بالوفاء بما استلزمه من الحقوق والواجبات.
ولنجعل من هدي سيد البشر، سيد الأولين والآخرين محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- نبراساً لنا في تعاملنا مع الآخرين، يقول أنس -رضي الله عنه-: "خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، والله! ما قال لشيءٍ فعلتُه: لمَ فعلتَه، ولا لشيءٍ تركتُه لمَ تركتَه"، خدمه عشر سنين فنقل تلك الصورة الحية عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع من خدمه.
أيها المسلم: إن أداءك الحقوق وتخلصك منها من أسباب تفريج الكربات، ونجاةٌ من المهالك والمضايق، في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار، يقول الثالث منهم: "اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم حقهم إلا واحداً ترك الذي له وذهب، فأخذته فاستثمرته، ثم جاءني بعد حِين وقال: يا عبد الله أعطني حقي، قلت: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق كله لك، قال: أتستهزئ بي؟ قلت لا، قال فاستاقه كله، ولم يترك شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، قال: فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون من الغار".
فالمضائق والشدائد إنما ينجِّي منها الأعمال الصالحة الخالصة لوجه الله تعالى، قال أبو مسعود البدري: كنت أضرب غلاماً لي في السوق، فإذا بصوتٍ يقول: "اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود"، قال: فالتفتُّ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا أبا مسعود، اللهُ أقدَرُ عليك من قدرتك على هذا"، قال: فألقيت السوط، وقلت: يا رسول الله، والله لا أضرب بعده أحداً.
هكذا أدَّب محمدٌ أصحابه، ورباهم على القِيم والشيم والفضائل، فلنتقِ الله في أنفسنا، ولنأخذ من هدي نبينا نبراساً لنا في أمورنا كلها؛ لنكون من السعداء، أعطِ العامل حقه مسلماً أو غير مسلم، فالحقوق محفوظةٌ لجميع الخلق بعيداً عن الظلم والعدوان.
أسال الله أن يوفقني وإياكم لصالح القول والعمل، إنه على كل شيءٍ قدير، واعلموا -رحمكم اللهُ- أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ، ومن شذَّ شذَّ في النار.
وصَلُّوا -رَحِمَكُم اللهُ- على عبد الله ورسوله محمد، كما أمركم بذلك ربُّكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمد...
التعليقات