عناصر الخطبة
1/الإيمان بالله وتوحيده أعظم الواجبات 2/تربية النبي لأصحابه قامت على الإيمان 3/وسائل صيانة الإيمان.اقتباس
لقد دل الشرع الحكيم على وسائل شتى تعين العبد على صيانة إيمانه بربه وتوحيده له؛ فمن ذلك: التعرّف على الله -تعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ويدل على ذلك قول الله -تعالى- في كتابه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن الإيمان بالله وتوحيده هو أعظم الواجبات على العباد، وأقرب الطرق إلى تحقيق حميد المراد، وأحسن الوسائل لبلوغ الحياة السعيدة، والتحلي بالخِلال الطيبة الحميدة.
فما أجمل الإيمان حين يستقر في القلوب، وتستشعره النفوس، وتتذوق حلاوته الجوارح، ويثمر في واقع الحياة عملاً صالحاً، ولساناً صادقاً، وخلقًا حسنًا وسلوكًا قويمًا، وهذا من أعظم البر الذي أشارت إليه الآية الكريم في قوله -تعالى-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[البقرة:177].
ولأهمية الإيمان وسمو منزلته أمر الله عباده بتحقيقه والاستمرار عليه، وحفظه من كل ما ينقضه ويفسده؛ فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً)[النساء:136].
أهيا المؤمنون: لقد دل الشرع الحكيم على وسائل شتى تعين العبد على صيانة إيمانه بربه وتوحيده له؛ فمن ذلك:
التعرّف على الله -تعالى- بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، ويدل على ذلك قول الله -تعالى- في كتابه الكريم؛ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[ فاطر: 28].
قال ابن رجب -رحمه الله-: "إنّ العلم النافع هو الذي يدلّ العبد على ربه، ويجعله موحّداً له، مستحياً منه حتى يصل إلى عبادته كأنّه يراه، وهذا هو الإحسان؛ أي: أعلى مراتب الإيمان".
ومنها: طلب العلم الشرعي والاجتهاد في تحصيله؛ فهو سبيل العبد إلى معرفة ربه وخالقه.
ومن وسائل صيانة الإيمان: التفكر في آلاء الله الكونية؛ وفي كل شيء يدل على الله، قال -تعالى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ)[ عمران،: 190]، وقال -تعالى-: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)[الغاشية:17-20].
يقول بعض أهل التفسير -رحمهم الله جميعًا- وهو ينقل عن عالمٍ من علماء الغرب، في كتابه الإنسان لا يقوم وحده اسمه كريسي موريسون، يقول: من دلَّ النحلة على خليتها إذا فارقتها؟ إنه الله الذي علَّم كل شيء؛ (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن:1-4]، الذي علم النحلة هو الله -جل الله في علاه-، قال -تعالى-: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)[النحل:68].
فهو المعلِّم -سبحانه -وآياته تشهد على وحدانيته، ولله در القائل:
وفي كل شيء له آيةٌ *** تدل على أنه واحدُ
فيا عجباً كيف يُعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحدُ!
ويقول الإمام أحمد في تعريف سهل لقدرة الباري -سبحانه-: "يا عجباً! هذه البيضة، أما سطحها ففضة بيضاء، وباطنها ذهبٌ إبريز! ألا تدل على السميع البصير"؟!.
قل للطبيب تخطفته يدُ الردى*** من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما *** عجزت فنون الطب من عافاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت *** شهداً وقل للشهد من حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ *** فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو *** تحيا وهذا السم يملأ فاكا
ومن ذلك: قراءة القرآن الكريم أو سماعه، وتدبّر آياته ومعانيه، وتفهم كلام الله فيه، والتأمل في وعده ووعيده، وترغيبه في الأعمال الصالحة، وترهيبه من الأعمال السيئة، قال -تعالى-: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)[ الأنفال: 2].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "قراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى في حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن".
وقال -أيضاً-: "فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه وتشيِّد بنيانه وتوطِّد أركانه".
فما أجمل أن نعود -عباد الله- إلى القرآن عودةً صادقة، مشفوعةً بذهن صافٍ يطلب التفهم والمعرفة، وقلبٍ منيب يبغي التأثر وزيادة الإيمان، ومن ثَم يَنقل ذلك إلى الجوارح في صورة أعمال صالحة خالصة، وبُعد عن اقتراف الحرمات، وركوب مطايا الموبقات!
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وبعد:
عباد الله: إن لصيانة الإيمان وسائل كثيرة غير ما ذكرناه، ومن ذلك -أيضًا-:
ذكر الله -تعالى- تعبداً وثناءً وتعظيمًا باللسان وبالجنان في السر والعلن، في مناسبات الزمان والمكان وغيرها؛ فذكر الله حصن حصين، وحرز أمين، وهو للمسلم كالماء للسمك؛ فلا حياة للقلب بدونه؛ كما لا حياة للسمك بغير الماء، قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28].
وكما أن ذكر الله للقلب حصن من الأعداء؛ فهو له كذلك جلاء مما يعتريه من الأدواء، قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله -عز وجل-".
ومنها: صحبة الصالحين، ومرافقة المؤمنين؛ فمجالسة هؤلاء الأخيار يحرس كنز الإيمان، ويزيده لمعانًا وضياء، وذلك أن مجالسهم مجالس ذكر وعظة، وطاعة وإنابة، وإرشاد وتهذيب، قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[الكهف: ٢٨].
وقال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ"(صحيح الجامع)؛ قال الخطَّابيُّ -رحمه الله-ـ: "وإنما حذَّر مِنْ صُحبةِ مَنْ ليس بتقيٍّ، وزَجَر عن مخالطته ومؤاكلته لكون المطاعمة تُوقِعُ الألفةَ والمودَّة في القلوب".
ومنها: الإكثار من الطاعات، وهجر السيئات؛ لأن ذلك يقوي جدار الإيمان؛ فلا يدع الشبهات تنفذ إليه فتستبيح حرمته، وتصيبه في مقتل.
ومنها: دحض الشبهات والافتراءات على دين الإسلام بالحجة البينة والدليل القاطع, وسؤال أهل العلم والذكر إذا اشتبهت الأمور, واختلط الحق بالباطل, والصحيح بالسقيم، قال -تعالى-: (إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء:83].
ومنها: الالتجاء إلى الله -تعالى-، وسؤاله الثبات على الإيمان، والاستعاذة به من انقلاب القلب إلى ما يكره الملك الديان؛ فقد صح عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقلنا له: يا رسول الله! أتخاف علينا وقد آمنا بك وصدقناك، وآمنا بما جئت به؟! فقال -عليه الصلاة والسلام-: نعم، إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء"(صححه الألباني).
فحافظوا -يا عباد الله- على إيمانكم؛ فهو رأس مالكم, وسبيل نجاتكم وفلاحكم في الدنيا والآخرة, واستعدوا للقاء ربكم بإيمان صادق وعمل خالص, جعلنا الله وإياكم من المؤمنين الصادقين، الثابتين على الحق المبين.
وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات