عناصر الخطبة
1/نعمة اللسان 2/أهمية ضبط الكلمة ووجوب حفظ اللسان 3/المراد ب\"حصائد الألسنة\" 4/حفظ السلف للسان وخوفهم من حصائد الألسنة 5/بعض آفات اللسان وأخطرها 6/خطر التصنيف والتنابز بالألقاب وكيفية السلامة من ذلكاهداف الخطبة
اقتباس
اعلم أن اللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير الجِرم عظيم الإحسان أو الجُرم. فباللسان يوحد الله، وبه يصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبه تبايع الحكام، ويتبايع الأنام، ويحكم القضاة، وتستحل الفروج. ولأهمية هذا الأمر تـ...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ....
أما بعد:
أيها المسلمون: فقد اختص الله الإنسان بالإكرام، وامتن عليه بنعمة البيان، فقال: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 1 - 4].
وفي سورة البلد يعد الحق -تبارك وتعالى- جملة من نعمه على ابن آدم، فيقول وهو أصدق القائلين: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد: 8 - 10].
قال أبو حامدٍ -رحمه الله-: "اعلم أن اللسان من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير الجِرم عظيم الإحسان أو الجُرم".
وصدق رحمه الله، فباللسان يوحد الله، وبه يصلى على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبه تبايع الحكام، ويتبايع الأنام، ويحكم القضاة، وتستحل الفروج، قال صلى الله عليه وسلم عن النساء: "إِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ".
ولأهمية هذا الأمر تكاثرت الأدلة من الكتاب والسنة على أهمية ضبط الكلمة، ووجوب العناية باللسان، بل جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لك أهم الأمور، فقال لما سأله معاذ، فقال: يَا رَسُولَ الله أَخبِرنِي بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني منٍ النار؟ قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيْمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيْرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ".
ثم أخبره بأركان الدين، وبعض شعائره، ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ، وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذروَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
فَأَخَذَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بِلِسَانِهِ، وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فقال معاذ: يا نَبِيَّ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ" أَو قَالَ: "عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ؟!".
قال الإمام ابن رجب -رحمه الله-: "هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحسبه هو أصل الخير كله، وأن من ملك لسانه، فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه".
والمراد ب"حصائد الألسنة" جزاء الكلام المحرم وعقوباته، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات، ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيرا حصد الكرامة، ومن زرع شراً حصد الندامة.
ولأجل ذلك اشتد فرق الصالحين وخوفهم من تلك الحصائد، فحزموا أمرهم، وخزنوا ألسنتهم وألجموا أفواههم، فلم ينبسوا بالحرام ببنت شفة، وكانوا مع ذلك يحاسبون أنفسهم ويتهمون عملهم، ويستغفرون مولاهم
روى مالك عن زيد أسلم عن أبيه: أن عمر دخل على أبي بكر، وهو يجبذ لسانه، فقال عمر: "مه، غفر الله لك، فقال أبو بكر: هذا الذي أوردني الموارد".
وكان ابن مسعود: "يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض شيء أحوجَ إلى طول سجن من لسان".
أيها المسلمون: أشد حصائد الألسنة ضرراً وخطراً ما كان من سيء الكلام، ذا تعلق بالله وآياته ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن القليل منه كثير، واليسير فيه عند الله كبير، ولهذا غضب الله -تعالى- على نفر استهزأوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وقالوا: "ما رأينا مثلَ قُرَّائِنا هؤلاءِ أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ ألسُنًا، ولا أجبَنَ عندَ اللقاءِ، فقال الله: (أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التوبة: 65 - 66].
قال ابنُ عمرَ: "كأني أنظرُ إليه متعلقًا بنسعةِ ناقةِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-، وإن الحجارةَ تنكُبُ رجلَيه، وهو يقولُ: إنما كنا نخوضُ ونلعبُ. فيقولُ له رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: (أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ؟) ما يلتفتُ إليه وما يزيدُه عليه".
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمع أبي رجلاً يقول: ينزل الله -عزّ وجلّ- إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، قال: فارتعد أبي، واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخرص، فلما حاذاه، قال: يا هذا رسول الله أغير على ربه -عزّ وجلّ- منك، قل كما قال رسول الله.
ولما حدّث الإمام أحمدُ أصحابه عما وقع له في فتنة القول بخلق القرآن لم يستطع أن يكمل الكلام، وقال: لقد احتجوا علىّ بشيء لا يقوى قلبي، ولا ينطق لساني أن أحكيه.
ومن أجل ذلك ورد النكير الكبير على من أطلق الكلام دون خطام، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ من سخطِ اللهِ، لا يُلقي لها بالًا، يهوي بها في نار جهنَّمَ".
ومما يجب النهي عنه: كثرة الجدل والخصومة، فإنها توغر الصدر، وتهيج الغضب، وتورث الحقد، فإن كنت ممن يكثر الجدل والخصومة، فراجع نفسك، قال صلى الله عليه وسلم: "أَبغَضُ الرجالِ إلى اللهِ الألَدُّ الخَصِمُ" [متفق عليه].
ومن آفات اللسان: الفُحش والبذاء، فإنه قبيح منهي عنه، وصاحبه ملوم مذموم، قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والفُحش، فإن الله لا يحب الفُحش ولا الفحش"..
قال ابن قدامة -رحمه الله-: واعلم أن الفحش والبذاء هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ما يكون ذلك في ألفاظ الجماع، وما يتعلق به، فإن أهل الخير يتحاشون تلك العبارات، ويكنّون عنها.
ومن أخطر آفات اللسان: الغيبة والنميمة، قال الإمام النووي -رحمه الله-: "اعلم أن هاتين الخصلتين من أقبح القبائح، وأكثرها انتشارا في الناس، حتى ما يسلم منهما إلا القليل من الناس".
وقال رحمه الله في تعريف الغيبة: هي ذكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلْقه أو سواء ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز.
وقد نقل القرطبي الاتفاق على أن الغيبة من الكبائر، لما جاء فيها من الوعيد الشديد في القرآن والسنة، قال الله -تعالى-: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات: 12].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "حرم الله الغيبة كما حرم الميتة".
وأما النميمة، فهي نقل كلام الناس بعضهم في بعض على جهة الإفساد، وهو من الكبائر، قال المنذري: "أجمعت الأمة على تحريم النميمة، وأنها من أعظم الذنوب عند الله -عز وجل-".
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام" [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
وعن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن رَسُول اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- مر بقبرين، فقال: "إنهما يعذبان" ثم ذكر سبب العذاب، فقال: "أما أحدهما: فكان يمشي بالنميمة" [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
ومما يؤسف له -أيها المسلمون- انتشار الغيبة والنميمة بين الناس، حتى صارت كثير من المجالس مرتعاً تؤكل فيه اللحوم، وتُنهش فيه الأعراض، واستمرأ الناس ذلك فغاب العاذل، وقلّ النكير، مع أنه أمر يغضب الرب، ويُكسب الذنب، ويراكم السيئات، ويأكل الحسنات، قال صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما المفلِسُ؟" قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ، فقال: "إنَّ المفلسَ من أمَّتي من يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حسناتُه، قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطُرِحت عليه، ثمَّ طُرِح في النَّارِ".
نسأل الله عفوه وعافيته وهداه.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، موفقين مسددين، وأمتنا موحدين، واكتبنا مع الشاهدين.
اللهم آمين.
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
أيها المسلمون: فمما حذّر الله منه عباده: السبابُ والتنابزُ بالألقاب، قال عز وجل: (وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) [الحجرات: 11].
وقال صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" [متفق عليه].
وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "المستبان ما قالا، فعلى البادي منهما حتى يتعدى المظلوم".
والمعنى: أنه إذا وقع سباب بين اثنين، فإن إثم ذلك السباب الواقع من الطرفين يتحمله البادي منهما، حتى يتعدى المظلوم في سبابه.
أيها المسلمون: إنه لمما يحزن القلب، ويؤذي النفس ويورث الأسى، ما نراه في مجتمعات المسلمين اليوم من التحزب والاصطفاف، وتعالي نبرة الخصومة والسباب، وتصنيف الناس إلى شيع وأحزاب، فهذا يُزن بالفسق، وذاك يوصم بالبدعة، والثالث يرمى بالانتساب إلى أهل الأهواء، والرابع تصدر عليه صكاك الخروج من دائرة أهل السنة، ويطرد ظلماً من السلفية.
وهذا -يا عباد الله- من البلاء الكبير، والشر المستطير، وهو مشين إن صدر من سفهاء الأحلام، فكيف إن صدر من له كان بصر بالعلم، وأثر في الخير، ثم صار همه الأول تصنيف الناس وسبابهم، والتنقيب عن معايبهم، بدعوى حب السلف، والدفاع عن السنة، فأساؤوا وتعدوا وظلموا وطال تصنيفهم وسبابهم، علماء أجلاء، ولاهم ولاة الأمور، واجتمعت على تزكيتهم كلمة المسلمين، فإلى الله وحده المشتكى؟!
ألا إن من علاج هذه الفتن: اعتزال الخصومة، وتربية النفس والولد والتلميذ على الترفع عن هذه السفاسف، لا سيما فيما يذيع بين الناس شره، وينتشر شرره كقنوات الإعلام، ووسائل التواصل، لنحصر هؤلاء السبابين في دوائرهم المغلقة ودهاليزهم المظلمة كما يُحصر المريض في غرف الحج.
وعلى من بسط الله يده أن يكبح جماح النفس البشرية التي وصفها الله بالظلم والجهل بسن الأنظمة الواضحة المستمدة من الشريعة، وعقوبة المعتدي بالعقوبات الرادعة، حتى يؤوب الناس إلى رشدهم، ويمتثلوا قول إمامهم وقدوتهم صلى الله عليه وسلم: "وكونوا عباد الله إخوانا".
فإن التصنيف والتحزيب والسباب والخصومة سبب للتقاطع والفرقة والكراهية والبغضاء، وهي أمور يكرهها الله ورسوله، وتأباها القواعد الشرعية، والأنظمة المرعية، والعقول السليمة، والفطر المستقيمة.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وأعذهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا ...
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المجاهدين، وانتصر لعبادك المستضعفين، يا قوي يا متين.
اللهم وفق عبدك خادم الحرمين الشريفين لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين...
اللهم اجعله هادياً مهدياً، صالحاً مصلحاً، موفقاً إلى كل خير، مصروفاً عن كل شر.
اللهم أطل على الطاعة والعافية عمره، وفي العدل وبالحق ولايته، واجعل عهده قرة عيون الموحدين، وغيظ قلوب المفسدين، وانفع به وبإخوانه وأعوانه البلاد والعباد، يا رب العالمين.
اللهم آمين.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
التعليقات