عناصر الخطبة
1/الثقة في الله تبدد كل المخاوف 2/آثار الثقة بالله على الفرد والمجتمع 3/بعض مظاهر حسن الظن بالله في حياة الأنبياء والصالحين 4/المفهوم الصحيح لحسن الظن بالله تعالىاقتباس
حُسن الظن بالله لا يعني التواكل أو الركون إلى الكسل وترك العمل، بل هو قوة دافعة، تُحفِّز الإنسانَ على الجِدِّ والاجتهادِ، ومن مقتضياته: أن يبذل المرءُ جهدَه، ويستفرغَ وسعَه لخدمة دِينه وأُمَّتِه، وبناءِ وطنِه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الكريم المنان، عظيم السلطان، واسع العلم والإحسان، يقضي بالحق عدلًا، ويفعل ما يشاء فضلًا، أحمده -سبحانه- وأشكره، على واسع رحمته، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أمره نافذ، وحكمه قاطع، ووعده صادق، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله هاديًا وبشيرا، وجعله للخلق نذيرًا، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، الذين جاهدوا في سبيل الله صبرًا، واحتسبوا في مرضاته أجرًا.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي زاد القلوب، وسراج الدروب، ومفتاحُ كلِّ خيرٍ، بها تُنار البصائرُ، وتطمئنُّ الأرواحُ، وتستقيمُ الجوارحُ، في خضمِّ تقلُّبات الحياة، وتحدياتها، يجد الإنسان نفسَه في حاجة إلى شعور يبدد القلق، ويمنحه الطمأنينةَ والسكينةَ، وتبعد عنه الخوف والشك، مفتاح هذا الشعور هو حُسن الظن بالله، الذي ينبع من الثقة بحكمة الله في التدبير، والإيمان بأن كل ما يجري في هذا الكون يسير وفقَ نظام دقيق، والذي يملأ القلب يقينًا بأن الخير حاضر، حتى في أشد المصائب، وأن وراء كل محنة حكمة ورحمة، سواء أدركناها في الحال أو تجلت لنا في المآل، ومن امتلأ قلبه بالثقة برحمة الله وعدله وحكمته، رأى الفرج قريبًا، حتى في أحلك الظروف.
المؤمنُ الحَسَنُ الظنِّ بربِّه يمضي قُدُمًا في مسيرة حياته بثقة واطمئنان، موقنًا أن الله يَعُدُّهُ لمستقبلٍ مشرقٍ، يعيش بالأمل، في رحمة الله وعطاياه، التي تفوق الوصفَ، وتتجاوز التوقُّعاتِ، فتُحرِّكُه قوةُ الإيمانِ إلى السعي والإبداع بشجاعة وتفاؤل.
من سنة الحياة الابتلاء الذي يأتي فجأة ليختبر الصبر ويزيد اليقين، وهنا يبرز حسن الظن بالله، قوةً تحول المحنة إلى منحة، والحزن إلى حكمة.
المؤمن الواثق بربه يدرك أن الابتلاء عابر، وأن الصبر يعقبه نعمة ترفع قدره، أو درس يقربه إلى الله.
التوكل على الله غذاء حُسن الظن بالله، ومصدر عظيم للقوة المعنويَّة، التي تحمي الإنسان من اليأس والإحباط في مواجَهة الهموم، ومن توكل على الله بصدق تشرب قلبه الثقة بأن الله لن يخذله، بل يرى في الفتن طريقًا للنجاح، وفي العقبات سلما للارتقاء، وفي المحن صقلا للذات، يروي لنا القرآن الكريم مشاهد تجسد حسن الظن بالله، في أبلغ صوره؛ فها هي مريم الصديقة في أشد لحظات الضيق، حين ألجأها المخاض إلى جذع النخلة، تقول من شدة الكرب: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)[مَرْيَمَ: 23]، وكان حسن ظنها بربها راسخًا في فؤادها، فاستعاذت بالرحمن من القادم عليها قائلة: (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)[مَرْيَمَ: 18]، فتتنزل عليها رحمة الله في قوله: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)[مَرْيَمَ: 24-26]، وفي مشهد يفيض بعظمة الإيمان، وحسن الظن بالله، تتجلَّى قصة نبي الله إبراهيم -عليه السلام- حين ألقي في النار، في موقف بدت فيه الظواهر كلها تشير إلى الهلاك المحتم، لكنَّه بإيمان عميق، ويقين مطلق احتمى بحسن التوكل على الله قائلًا: "حسبي الله ونعم الوكيل"، فتحولت النار بأمر الله بردًا وسلامًا، شاهدة على عظمة التوكل وثمرات حسن الظن بالله.
ويتجلى معنى حسن الظن بالله في حياة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يوم الهجرة، حين كن في الغار، مع صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه- وقد حاصرهم الخطر، حتى قال أبو بكر -رضي الله عنه- بوجل: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا"، فأجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بطمأنينة اليقين: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما"؛ ليؤكد أن القلوب العامرة بحسن الظن بالله لا تهتز أمام الخوف وازداد هذه السكينة رسوخًا حين قال: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التَّوْبَةِ: 40]، في هذا الموقف درس خالد في التوكل والإيمان، بأن الله لا يخذل عباده الصادقين.
حُسْنُ الظنِّ باللهِ ليس قاصرًا على الأفراد، بل هو زاد الأمة بأسرها، ومصدر قوتها، في مواجَهة أصعب التحدِّيات، ففي غزَّة بدر حين كان المسلمون قليلي العدة والعتاد، وقفوا أمام جيش المشركين الذين فاقهم أضعافًا مضاعفة، ومع ذلك نصرهم الله؛ لأنهم وثقوا به، وأيقنوا أن القوة والتمكين بيده وحده.
وفي أعقاب غزوة أُحُد، حين توعَّد المشركون بالقضاء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يزدهم ذلك إلا ثباتًا ويقينًا، وصفهم الله بقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 173-174]، وهكذا خطت هذه المواقف دروسًا خالدة في الإيمان والتوكل الصادق؛ ليظل حسن الظن بالله شعلة تنير طريق الأمة في الملمات.
الإيمان العميق، وحُسن الظن بالله، هما السر الكامن وراء صمود الأمة وثباتها، أمام أقسى الأزمات وأشد المحن، فعلى مر التاريخ واجهت الأمة الإسلاميَّة تحديات جسامًا، هزت أركانها، لكنها خرجت منها أكثر قوة وتماسكا، كان يقينها بربها كالنجم الهادي يضيء دربها، ويمنحها الطمأنينة ويعجل بنصرها، هو النور الذي يبدد ظلمات اليأس، ويفتح لها آفاق الأمل بمستقبل أكثر إشراقًا، ويولد ثقة راسخة بقدرة الله وحكمته، ويعمق في القلوب يقينًا بأن النهضة والعزة قادمتان لا محالة، وأن الله سيبدل حالها من ضعف إلى قوة، ومن انكسار إلى تمكين، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[مُحَمَّدٍ: 7].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الرحيم الكريم، العليم الحكيم، الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأتقَن كلَّ شيء صُنعًا، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الحكم وإليه المآل، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أصدق الناس إيمانًا، وأكملهم إحسانًا، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، الذين ساروا على هديه، فأشرقت بهم الدنيا، وزالت بهم الغمة.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
حُسن الظن بالله لا يعني التواكل أو الركون إلى الكسل وترك العمل، بل هو قوة دافعة، تحفز الإنسان على الجد والاجتهاد، ومن مقتضياته: أن يبذل المرء جهده، ويستفرغ وسعه لخدمة دينه وأمته، وبناء وطنه، ففي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها"(رواه البخاري في الأدب المفرد)، والغرس هنا رمز للإصرار على البناء والعمل، وأداء الواجب، إيمانًا بأن الخير باق، ولو غابت النتائج عن الأعين، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطَّلَاقِ: 2-3].
ألَا وصلُّوا -عبادَ اللهِ- على رسول الْهُدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صل على محمد وعلى آله، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمر اللهمَّ أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهمَّ هذا البلد آمِنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين، اللهمَّ إنَّا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهمَّ إنَّا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهمَّ أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصَّر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الْهُدَى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهمَّ إنه قد حل بفلسطين من البلاء والضر ما أنت عليم به وقادر على كشفه، اللهمَّ ارفع عنهم البلاء الذي نزل بهم يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ إنهم حفاة فاحملهم، وجياع فأطعمهم، وعراة فاكسهم، ومظلومون فانتصر لهم، اللهمَّ انصرهم على عدوك وعدوهم الصهاينة المعتدين، اللهمَّ وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، وانفع بهما الإسلام والمسلمين يا ربَّ العالمينَ، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين، للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
التعليقات