عناصر الخطبة
1/ الاعتبار بمرور الأيام 2/ التزود بالعمل الصالح 3/ أهمية التخطيط للحياةاهداف الخطبة
اقتباس
عام كامل تصرَّمَتْ أيامُه، وتتابعت ساعاته، فبالله عليكم ماذا أودعنا خلال هذا العام المنصرم؟! هذا العام إنما هو خزائن تودع فيها الأعمال وتغلق لتفتح يوم القيامة، كما قال عليه الصلاة والسلام-: "مَن توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك"، قال: كتب في رق ثم جعل عليها طابع، فلم ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله المحمود بجميع المحامد تعظيمًا وتشريفًا وثناءً، الحمد لله المتصف بصفات الكمال عزة وقوة وكبرياءً، به نصول، وبه نجول، وبه نأمل دفع الكروب.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جلّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، أفضل هذه الأمة جهادًا وفداءً، وأعظمهم قدوة واصطفاءً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه الذين ضربوا أروع الأمثلة صفاءً ووفاءً، وطهرًا ونقاءً، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم اهتداءً واقتفاءً.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: أوصيكم بتقوى الله -عز وجل- فهي وصية الله تعالى للأولين والآخرين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ) [النساء:131].
أيها المؤمنون: أيام قلائل ونودع هذا العام الهجري، وهي كلمات نقولها في نهاية كل عام يمر علينا.
إن هذا العام الذي تصرّمت عنّا أيامه قد حوى في خزائن لحظاته وساعاته الأعاجيب من الأشياء التي قد تشهد لنا يوم القيامة أو تشهد علينا، وسبحان من يغير ولا يتغير! (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ) [النور:44]، وقال -جل وعلا-: (وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [ال عمران:140].
وقال -سبحانه وتعالى-: (وهو الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62]. قال ابن كثير -رحمه الله-: "جعل الله الليل والنهار يتعاقبان توقيتًا لعبادة الله -عز وجل-، فمن فاته عمل بالليل استدركه بالنهار، ومن فاته عمل بالنهار استدركه بالليل".
وقد جاء في الحديث الصحيح: "إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل". قال قتادة -رحمه الله-: "فأروا الله تعالى خيرًا في هذا الليل والنهار؛ فإنهما مطيتان تحملان الناس إلى آجالهم، تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتجيئان بكل موعود إلى يوم القيامة".
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون يتبعونها، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا".
نسيرُ إلى الآجال في كُلِّ لحظةٍ *** وأعمارُنا تُطْـوى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
تَرَحَّلْ من الدنيا بزادٍ مِنَ التُّقَى *** فعُمْرُكَ أيـامٌ وهُـنَّ قلائـل
وما هـذه الأيامُ إلا مـراحلٌ *** يحثُّ بها حادٍ إلى الموت قاصِدُ
وأعْجَبُ شيءٍ لو تأمَّلْتَ أنَّها ** منازلُ تُطْـوَى والمسـافِرُ قاعد!
عام كامل تصرّمت أيامه؛ كل يوم يمر، بل كل ساعة تمضي، وكل لحظة وثانية تمر علينا، إنما هي تقربنا من الأجل.
يسرُّ المرء ما ذهب الليالي *** وكــان ذهابُهن له ذَهابًا
أيها الإخوة الكرام: إن العقلاء يتبصرون في تصرم أيامهم ولياليهم، ويعلمون أن كل لحظة وثانية ودقيقة -فضلاً عن كل ساعة ويوم وشهر وسنة- تسير بهم وتقربهم إلى ربهم.
لقي الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- رجلاً فسأله: كم مضى من عمرك؟! قال الرجل: مضى من عمري ستون سنة، فقال له الفضيل: فإنك منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تبلغ إليه. قال الرجل: آه! فما العمل؟! قال: خذ من صحتك لمرضك، ومن فراغك لشغلك، وتصدّق من مالك، وابذل من بدنك. وجعل يوصيه بالعمل الصالح، سواء ببدنه أو ماله أو خبرته أو وقته أو غير ذلك.
روى البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- له: "يا ابن عمر: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن فراغك لشغلك".
ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ النَّاسِ يغدو، فبائعٌ نفسَهُ؛ فمُعتِقُها أو موبِقُها"، ما معنى هذا الحديث؟! يغدو: يخرج في الغداة في الصباح، فالناس جميعًا يخرجون في الصباح، وإنك إذا نظرت إليهم في طرقاتهم أو نظرت إلى بيوتهم لوجدت البيوت في الصباح تفتح فيخرج الرجل ويخرج الشيخ الكبير وتخرج الفتاة وتخرج الطفلة، هذا يحمل أولاده، وهذه معها متاعها، وهذا ربما خرج مسرورًا، وهذا خرج حزينًا، هذا خرج يتجهز لعرس، وهذا خرج ليعزي في ميت، هذه خرجت مسرورة مع زوجها في سفر، وهذه خرجت مطلقة مبعدة إلى أهلها، الناس يغدون جميعًا، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "كُلُّ النَّاسِ يغدو، فبائعٌ نفسَهُ"، يعني صارف عمره، وممضٍ وقته خلال هذا اليوم، فهم ينقسمون إلى قسمين: "فمُعتِقُها" من النار بعمل الصالحات، "أو موبقها".
وإنك لترى ذلك في الناس، يذهب الرجلان، هذا إلى مكة يتعبد وذاك إلى بلد خارج المملكة ليكفل أيتامًا أو يبني مسجدًا أو يدعو إلى الله تعالى؛ بينما الآخر سافر ليعاقر خمرًا أو ليقع في فاحشة أو ليعقد صفقات ربوية، فالأول قد أعتق نفسه والثاني قد أوبقها.
ولقد أخبرنا النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن المرء سيُسأل عن أربعة أشياء: "عنْ عُمُرِهِ فيما أفناهُ، وعنْ جسدِه فيما أبْلاهُ، وعنْ مالهِ مِنْ أيْنَ أخذهُ وفيما أنْفَقَهُ، وعنْ عِلمِهِ ماذا عَمِلَ بهِ".
"عن عمره"، يعني هذه الأيام التي تمضي، عن كل دقيقة مرت عليك، وعن كل ساعة مضت، ماذا فعلت فيها؟! وعن المال الذي اكتسبته، والمال الذي أنفقته، وعن الشباب، وخصّ الشباب بالذكر لأنه قوة بين ضعفين، بين الطفولة والشيخوخة، كما قال الله -عز وجل-: (اللَّه الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْف ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْد ضَعْف قُوَّة ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْد قُوَّة ضَعْفًا وَشَيْبَة يَخْلُق مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيم الْقَدِير) [الروم:54]، وعن علمه، وعن مصدر اكتساب ماله وكيفية إنفاقه له.
فالإنسان إذا علم أنه سيسأل عن عمره عرف فعلاً بركة هذا الزمان الذي يمر عليه وأهميته؛ لذلك، إذا اشتكى أهل النار منها قيل لهم: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) [فاطر:37]، يعني: أولم نعطكم أعمارًا مرّت عليكم كان يستطيع أحدكم أن يتذكر وأن يتأمل في حاله؟! (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37].
أيها الإخوة الكرام: عام كامل تصرمت أيامه، كم عزّ في هذا العام أقوام بعد ذل! وكم ذل فيه أقوام بعد عز! وكم ترملت فيه من امرأة! وكم تيتم فيه من طفل! وكم مريضٍ تعافى، وسليمٍ ووري التراب! أهل بيت يشيعون ميتًا، وآخرون يزفون عروسًا؛ فرحٌ بمولود، وعزاء على مفقود، عبرات من شوق اللقاء، وعبرات من آلام الفراق، أفراح انقلبت أتراحًا، وأتراح انقلبت أفراحًا، واحد يتمنى دوام يومه ليتلذذ بفرحه، وآخر يتمنى زوال يومه لينتهي حزنه!!
نحن في هذه الدنيا نتقلب بين خير وشر، وقد وصف الله تعالى دنيانا فقال: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ) [آل عمران: 185]، المتاع هو ما يأخذه المسافر لسفره؛ ماذا سوف يضع المسافر في متاعه؟! لن يحمل معه الكراسيّ ولا غرفة نومه ولا مكتبته ولا الكثير من ممتلكاته، سيأخذ ما كان ضروريًا، ثم قال -عز وجل-: (إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، لم يقل: (إلا متاع) فقط؛ انما متاع يغر به الإنسان أيضًا!!
وينبغي على الإنسان -أيها الإخوة الأفاضل- أن يوازنَ بين حياتي الدنيا والآخرة، فكما أوصى النبي -عليه الصلاة والسلام- بأن يتخفف المرء من الدنيا، إلا أنه -عليه الصلاة والسلام- نهى مِن أصحابه مَن أراد أن يحرم نفسه من المتع، قال لأبي ذر: "إن لنفسك عليك حقًّا... فأعْطِ كُلَّ ذي حقٍّ حقَّه".
نحن لا ندعو الناس إلى أن لا يتلذذوا بشيء من الدنيا؛ لكن النعم التي أعطاك رب العالمين إما أن تستعملها فيما يقربك إليه من طاعات، أو أن تستعملها في مباح لا يؤاخذك الله تعالى به.
أيها الناس: إن الشربة التي نشربها ثم نتبولها تقول لنا: إنما الدنيا متاع؛ إن اللباس الذي نلبسه ثم ننزعه لنستبدله بغيره يقول لنا: إنما الدنيا متاع؛ إن الصيف والشتاء اللذين يتعاقبان علينا يقولان لنا: إنما الدنيا متاع؛ إن الأشخاص الذين نراهم ونصافحهم ونحبهم ونجالسهم ثم نفقدهم يقولون لنا: إنما الدنيا متاع؛ إن المقابر التي ندفن فيها أحبابنا وفلذات أكبادنا تقول لنا: إنما الدنيا متاع، إن المال الذي نكتسبه بكدِّنا وتعبنا ثم يزول عنا في طرفة عين يقول لنا: إنما الدنيا متاع.
إن لله عبـادًا فُطَـنًا *** طلَّقوا الدنيا وخافوا الفِتَنَ
نظروا فيها فَلَمَّا علِموا *** أَنَّهـا ليستْ لِحَيٍّ وطَنًا
حسِبوها لُجَّةً واتَّخذوا *** صالحَ الأعمالِ فيها سُفُنًا
أيها الكرام: عام كامل تصرمت أيامه، وتتابعت ساعاته، فبالله عليكم: ماذا أودعنا خلال هذا العام المنصرم؟! هذا العام إنما هو خزائن تودع فيها الأعمال وتغلق لتفتح يوم القيامة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن توضأ ثم قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، قال: كتب في رقّ ثم جعل عليها طابع، فلم يكسر إلى يوم القيامة".
هذه الأيام التي مضت خزائن، هناك من أودع فيها ذِكرًا واستغفارًا وصدقة وإنفاقًا مباحًا؛ وهناك من أودع فيها فحشاء ومُنكرًا وبغيًا: (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 81-82].
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل أعمارنا حجة لنا لا علينا، وأن يجعل صحتنا وأموالنا وأبداننا وأعمارنا رافعة لقدرنا عنده، ومقربة إليه، ومباعدة لنا عن النار، وأن يجعلنا ممن يستثمرون حياتهم في طاعته، وأن يبعدنا عن معصيته.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله الجليل العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: إن هذا العام الذي نستقبله ينبغي على الإنسان أن يتهيأ لاستقباله، وأن لا يعيش المرء هكذا سبهللاً يُمضي أيامه كما اتفق دون تخطيط ولا ترتيب.
لقد كان من هدي رسولنا وحبيبنا -صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا أراد شيئًا تهيأ له، وتجهز له، ونظر في المصالح والمفاسد، ونظر في كيفية الاستفادة منه.
إذا أراد السفر سأل عن الطريق، وعمّا يعرض فيه، ولما أراد الهجرة اتفق مع دليل يدله على الطريق، وحدّد المكان الذي سيأوي إليه حتى يذهب عنه طُلابه من أهل مكة، وعمل -عليه الصلاة والسلام- أمورًا تدل على التخطيط. وكذلك كان السلف.
ونحن اليوم نسمع بالخطط الخمسية والعشرية، أي التي تمتد إلى خمس أو عشر سنوات، فمن أراد أن ينفع نفسه وأمته بعمل من الأعمال فلا بد أن يخطط له.
وللأسف -كما يقول الباحثون- فإن الذين يخططون لحياتهم لا يتجاوزون ثلاثة أشخاص من كل مائة شخص! إذا سألتَ أحدنا: ماذا تود قراءته في العام الجديد؟! فسيقول لك: ما تيسر.
الإنسان الذي يضع خطة يحاسب بها نفسه إذا قصرت هو الذي إذا انتهى عنه هذا العام قال: نعم ولله الحمد، أنا خلال هذه السنة حفظتُ عشرة أجزاء من القرآن الكريم، وأسلم على يديَّ كذا من العمال، وفعلتُ كذا من الأمور التجارية، ونحو ذلك مما خطط له منتفعًا بهدي ديننا.
أسأل الله تعالى أن يستعملنا جميعا في طاعته.
اللهم...
التعليقات