عناصر الخطبة
1/خطر الانتكاسة 2/أسباب الانتكاسة ودوافعها 3/من أخبار المنتكسين 4/نصائح غالية للمنتكسين 5/أسباب الثبات على هذا الديناهداف الخطبة
اقتباس
أيها الأحبة في الله: وكان ممن ركب الموجة الثائرة، وانضم إلى قوافل العائدين إلى الله: أناس لم يلامس الإيمان الحقيقي شغاف قلوبهم، ولم تعانق القناعات الراسخة شفافية أرواحهم، لكنهم أظهروا شيئا من سمات الالتزام، وأدوا بعضا من فرائض الإسلام؛ حتى إذا ما طال الأمد عليهم، وبعدت عليهم الشقة، إذا بهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر:3]. (الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص: 70].
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: فبالرغم من مظاهر الإغراء الصارخة، ووسائل الانحراف والفتنة التي يموج بها عالم اليوم!.
وبالرغم من ذلك الإسفاف المهين، والفساد العريض؛ فقد فوجئ العالم كله بصحوة شبابية عارمة، وعودة قطاع كبير من الناس إلى الإسلام، بقناعة تامة، ورغبة أكيدة.
بعد أن سأم الجميع حياة الترف والمجون، وأدركوا حجم الوهم والهون الذي كانوا يتخبطون فيه، ومقدار الانحطاط الذي صاروا إليه.
وأيقن الجميع بحتمية الصلح مع الله قبل أن لا يكون دينار ولا درهم: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89].
أيها الأحبة في الله: وكان ممن ركب الموجة الثائرة، وانضم إلى قوافل العائدين إلى الله: أناس لم يلامس الإيمان الحقيقي شغاف قلوبهم، ولم تعانق القناعات الراسخة شفافية أرواحهم، لكنهم أظهروا شيئا من سمات الالتزام، وأدوا بعضا من فرائض الإسلام؛ حتى إذا ما طال الأمد عليهم، وبعدت عليهم الشقة، إذا بهم يستوحشون الطريق، ويتباطؤون نقطة النهاية، وساعة الوصول، ومن ثم يفاجؤون الجميع بارتدادهم على أعقابهم، وتخليهم على التزامهم.
وبتعبير آخر: إذا بهم يسلكون طريق الانتكاسة، ويخطون خطوات الانحراف تحت مطارق الشهوات والفتن، وتحت هذه المغريات والمحن، ورغم قناعتنا التامة أن أولئك المتراجعين، أو سمهم بالمنتكسين، لا يشكلون أي نسبة تذكر أمام طوفان الالتزام الجارف، وتيار الوعي المتنامي، ولا تعد انتكاستهم بحمد الله لا تعد ظاهرة مخيفة تثير القلق، إلا أن واجب النصح، ولازم الوعظ لأولئك المتراجعين تحتمان علينا ضرورة التنويه بهذه القضية، خشية استفحالها، أو على الأقل بأن لا يصاب الملتزمون الجادون بإحباط لا مبرر له، نتيجة انتكاسة أشخاص لا يشكلون نسبة ذات بال، أو رقما ذا معنى ودلالة، وليثق الجميع أن دين الله باق، وأن رسالته ماضية، ولن يضر المنتكسون إلا أنفسهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ)[المائدة: 54].
"يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا".
أيها الأحبة في الله: يجدر بنا، ونحن نناقش هذه القضية المهمة، ونطرح هذا الموضوع البالغ الحساسية، خصوصا في ظل هذه الظروف والمتغيرات؛ يجدر بنا أن نسلط الضوء بكل تجرد وموضوعية على أسباب الانتكاسة، ودوافعها، وعوامل الانحراف، وبواعثه، اتقاءً لشرها، وحذرا من شباكها.
فأما السبب الأول والدافع الرئيس وراء انتكاسة البعض -نسأل الله العافية والسلامة والعون والثبات- السبب الأول: هو الغرور والعُجب.
آفتان -يا شباب الإسلام- كبيرتان كافيتان لتحطيم كل ما بناه الإنسان من استقامة، وصلاح طيلة فترة التزامه.
إنهما مرضان خطيران، وشران مستطيران، ينتهيان بالمبتلى إلى أوكار الرذيلة، ومواقع الخنا -والعياذ بالله تعالى-.
إن الإنسان -أيها الأحبة في الله- مهما بلغ من علم وفضل، ومهما حقق من التزام وصلاح، فهو عرضة للانتكاسة والضلال، والعصمة لمن عصمه الله.
وإليك –يا رعاك الله- إليك خبر هذا المنتكس من القرن الأول، أفضل القرون وأشرفها، لنعلم وتعلم أنت، ويعلم الصالحين جميعا: أنه لولا فضل الله ورحمة ما زكى منهم أحدا أبداً، وأنه لولا فضل الله ورحمة ما ثبت منهم من أحد أبداً: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء)[إبراهيم: 27].
عند البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رجل نصرانيًا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفجأة عاد نصرانيا، وكان يقول: "ما يدري محمد ما كتبت له".
فأماته الله، ودفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض بعد أن دفن، فقالوا: "هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه" فحفروا له، وأعمقوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض مرة ثانية.
وهكذا ثلاث مرات، إي –والله- ثلاث مرات يحفرون له، ويعمقون له في الحفر، فيصبح وقد لفظته الأرض.
انظر -حماك الله- هذا رجل نال شرف الصحبة، شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولازمه، ورأى الصحابة ولازمهم، وحفظ البقرة وآل عمران.
لقد تهيأت أمامه كل أسباب الشرف والاستقامة، تهيأت له أن يكون رجلا سويا، لكن لأمر ما ينتكس هذا الشقي، ويرتد على عاقبيه بإقرار همجي، وتصرف غير مسئول، فيعود إلى نصرانيته النجسة، وملته المنحرفة، فما لبث غير يسير حتى أهلكه الله، وأخزاه، فانتزع روحه الخبيثة إلى سقر.
وأما جسده النتن فإلى القبر، لكن القبر أبى، فإذا به يلفظ ذلك الجسد المشئوم كراهة لمصاحبته، وبغضا لمجاورته.
أرأيت -أيها الأخ المبارك- ضعف الإنسان، وشدة حاجاته، إلى عون الله.
إنه محتاج إلى عون الله وتوفيقه.
من كان يصدق: أن رجلا كان يمكن أن يكون صحابيا جليلا، فإذا به يصبح كافرا طريدا -عياذا بالله من ذلك، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الغواية بعد الهداية-.
أما السبب الثاني من أسباب الانتكاسة، فهو: الإخلاد إلى الأرض، واتباع الهوى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 175-176].
فالإخلاد إلى الأرض، واتباع الهوى، تكون قاسمة الظهر، وعثرة القدم.
ولعلك –أخي- لا زلت تذكر ذلك الذي أتاه الله علما وبصيرة وجلدا، فإذا به يصعر بخده، ويخلد إلى أرضه، ويتعاظم في نفسه، ويقدس هواه، وبدلا من أن يرتدي منازل العلماء العارفين، والأولياء المقربين، إذا به -والعياذ بالله- ينتكس على عاقبيه، ويتراجع إلى الوراء، يتراجع ألف خطوة، ولم يقف به تراجعه إلا على عتبات الكفر والالحاد والزندقة، فيصدر كتابه الفاجر، ومصنفه البائس، عنوان ذلك الكتاب: "الكون يحاكم الإله".
إنها ليست مجرد انتكاسة، إنها ردة وكفر وزندقة، سببها تقديس النفس، وتغليب الهوى، والإخلاد إلى الأرض، بزينتها ومتاعها الرخيص.
أما السبب الثالث من أسباب الانتكاسة -أعاذنا الله جميعا من شرها-، فهو: الحرص على الشرف والوجاهة، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي الذي رواه عن كعب -رضي الله عنه-: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم؛ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه" -صلى عليك الله يا علم الهدى-.
فكم أذهب الحرص على المال والشرف، من ديانة ضعفاء النفوس، الذين فضلوا الفانية على الباقية، والعرض الزائل على المتاع القليل، واتخذوا الدين قضية بيع وشراء، وكسب ودنيا: (فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ)[التوبة: 58].
إن الاستجابة لإغراء المال والشرف كفيل بإحداث شرخ عظيم في دين المرء، وفي استقامة المرء، وفي مبادئه، ومصادر حريته وعقله، ومحاصرة إرادته واختياره، ومن ثم انتكاسته وردته.
لذا كم كان كعب بن مالك حازما -رضي الله عنه-، وهو يتلقى كتاب ملك غسان! خطاب ملكي: "أما بعد: فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالْحَقْ بنا نواسك".
ماذا تراه صنع كعب، وهو يتلقى هذا الخطاب الغساني، خطاب من الديوان الملكي؟! في وقت هو أحوج ما يكون إلى المعين والمواسي والمحتوي، بعد أن ذاق الأمرين من قطيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، حتى ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وضاقت عليه نفسه التي بين جنبيه؟! ماذا تراه صنع كعب بخطاب ملك غسان يعرض عليه المال والشرف؟
إن كل الذي صنعه كعب بقناعة تامة، اسمعوها جيدا، صنعها بقناعة تامة، وإرادة جبارة، أنه تيمم به شطر التنور، فأحرق به ذلك الخطاب.
نعم أحرقه؛ لأنه يدرك تماما أن أي تصرف غير هذا سيكلفه الثمن غاليا، سيكلفه دينه وكرامته وأدميته ورجولته، لذا كان تصرفه غاية في الشجاعة والبطولة، لا يقوى عليه إلا الرجال الصادقون، ذو الإرادات الفولاذية، التي لا يتقبل الانصهار، أو الميوعة، أو التردد، أو الحيرة.
أيها المسلمون: ومن أسباب الانتكاسة أيضا: روغان البصر يمنة ويسرة، واستحلال النظر إلى الأجنبيات خاصة، والنظر سهم مسموم من سهام إبليس، يصيب القلب في مقتل، وكم انتكس البعض بسبب نظرة أعقبها عشق وغرام، وتعلق وهيام، ومن يجيز لنفسه النظر إلى الأجنبية بدعوى متابعة الأخبار مثلا، أو متابعة الأحداث سيسهل عليه فيما بعد متابعة الغرام، عبر المشهد السينمائي، والفيلم الخليع، حتى لا يكاد يصرف نظره عن امرأة قط بعدها أبدا.
وصدق المعصوم -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "ما تركت فتنة أضر على الرجال من النساء".
وتبارك الحكيم العليم الذي حرم النظر إلى الأجنبية، فقال: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)[النور: 30].
أيها المسلمون: ويمكن أن يلحق بسابقه تفريط الإنسان، أو تعريض الإنسان نفسه لمواقع الفتن؛ كالسفر إلى بلاد أجنبيه، دون مبرر مشروع مع افتقاره لدين وإيمان يردعانه عن الاستجابة للإغراءات المحيطة به، من كل جانب، وجواذب الانحراف التي تهاتفه بصوت الذي يخترق رياض القلب، إلى حيث يذبح الحياء، وتقتل الفضيلة، وتمسخ الكرامة، وتدفن الرجولة، تحت أقدام العاهرات.
كيف لا ينتكس الفتى؟! وكيف لا يضل الرجل! وهما يجوبان بلادا فيها كل شيء إلا الفضيلة؟! وفيها كل شيء إلا العفة؟! وفيها كل شيء إلا الأدب والحشمة؟!
(فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[الصف: 5].
ومن أسباب الانتكاسة أخيرا: الزواج من فاسقة، فلربما رأيت الشاب صالحا مستقيما على عزوبته، حتى إذا أنعم الله عليه بالزواج، إذا به يقص شريط التراجع، مفتتحا مسلسل الهزيمة والانتكاسة!.
ولماذا لا ينتكس وزوجته المائلة المميلة ترن على رأسه أربعا وعشرين ساعة: ما أجملك لو هذبت لحيتك؟ ما أوسمك أو خففت عارضك؟ ما أحلى ثيابك لو أطلتها؟! وما أقبحها لو شمرتها؟!
فيختال المسكين غرورا، ويصدق: أنه سيصبح جميل عصره، ووحيد دهره، مغترا بعبارات زوجته اللعوب، وإغوائها الدؤوب.
وقد أجلب عليه الشيطان بخيله ورجله، يجلب عليه الشبهة تلو الشبهة: ماذا لو أسعدت زوجتك؟ ماذا لو كسبت قلبها، وأثرت ودها، وحققت مرادها؟!
ولربما ذكره مقولة ابن عباس: "إني أحب أن أتجمل لامرأتي كما أن تتجمل هي لي".
وصدق الله حين يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) [التغابن: 14].
أيها الأحبة في الله: هذه بعض أسباب الانتكاسة، وجميعها وغيرها مما لم يذكر: اتباع خطوات الشيطان، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) [محمد: 25].
فكما قدمنا نؤكد مرة أخرى: أن الانتكاسة ليست ظاهرة، ولكنها حالات تستدعي الوعظ والتذكير، والنصح والتحذير.
يعز علينا –والله- أن نفقد شخصا واحدا، يعلن تراجعه واستسلامه أمام واقع رهيب، وتحت مطارق الفتن التي لا ترحم.
يعز علينا –والله- أن نرى مسبلا بعد أن كان مشمرا، أو حليقا بعد أن كان ملتحيا.
إنني أخاطبك -أيها المتراجع- بخطاب كله شفاف، وفيه الصراحة والإشفاق، أخاطبك بهذا الخطاب مشفقا عليك، وغيرة عليك، وعلى دينك:
اعلم -رعاك الله- أنك بعودتك إلى ماضيك بسيئاته، وأوزاره، وسواده، وظلامه؛ ستكون بذلك قد حكمت على نفسك بالشقاء!.
اسمعها جيدا: إنك حكمت على نفسك بالشقاء! وذلك أن السعادة التي تنشدها، واللذة التي تحلم بها، ستتولد عنها أزمة نفسية!.
سيترتب عليها انفجار بركان هائل من القلق، وذلك أن مساحة قلبك الصغير ستكون حلبة لصراع قوتين متنافرتين: قوة الرغبة والتفلت، لتفعل ما تريد، والتسيب من جهة، ونداء الفطرة، وصرخات الضمير من جهة أخرى.
وقبل أن تسترسل في الاستجابة لسوسة الشيطان، وداعي الهوى، تذكر –يا رعاك الله- هادم اللذات، يتربص بك ساعة من ليل أو نهار، تصبح بعدها نسيا منسيا، وتطوى صفحة بقاءك كما طويت صفحات غيرك، ممن استهوتهم الشياطين، فأصبحوا أثرا بعد عين: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)[الدخان: 29].
تذكر قبل أن تمضي قدما في الانتكاسة والتراجع: أنك الخاسر الوحيد، وأن ستدفع الثمن غاليا، وأنك تقود نفسك إلى مصير غير مشرف، ونهاية لا تعتز بها.
واعلم -حماك الله-: أنك ستفقد احترام الآخرين، وحتى أولئك الذين تظن أنهم سيفرحون بك بعد عودتك إليهم، من رفقاء السوء، ذلك أنك ستكون في أعينهم إنساناً مترددا، إنساناً متقلبا، لا تؤمن بمبدأ، ولا تثبت على طريق.
وثق تماما: أن ابتسامتهم في وجهك ساعة دخولك، ستعقبها تنصل لوضعك المتقلب، وترددك المحير، ساعة خروجك.
خذ -رحمك الله- من دنياك ما ينفعك، واحذر أن تكون أضحوكة الآخرين، ونكتة المستهترين.
وتذكر: والذكرى تنفع المؤمنين: (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا)[المزمل: 13].
تذكر: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات: 55-57].
تذكر: (وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ)[الزخرف: 39],
وأخيرا: احذر أن تكون: (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام: 71].
وأما أنت -أيها الأخ المبارك-، يا من لا زلت تنعم بالاستقامة، تحث الخطى إلى الجنة، رغم كثرة المثبطات، وكثرة الفتن والمغريات، أحدث قلبك، فاسمعني بقلبك قبل أذنيك: اعلم أنك تعيش في عزة ورفعة وتوفيق؛ لأنك -والذي نفسي بيده- تسير على طريق الأنبياء والمرسلين، وحسن أولئك رفيقا.
وخذ مني جملة من الأسباب تقيك -بإذن الله- من التراجع والانتكاسة، عض عليها بالنواجذ، استمسك بها بكل قواك، ترجمها في حياتك، تكن برحمة الله وفضله من الناجين والمفلحين، ومن السابقين على طريق الحق، أما الأمر الأول -أذكرها لك باختصار-، وهو: صدق اللجأ إلى الله، وحسن الاعتماد عليه، وهذا يوسف -عليه السلام- محاط بالجمال الفاتن، والإغراء الصارخ، وقد غلقت الأبواب، وأرخيت عنده الستور، ونداءات: (هَيْتَ لَكَ) [يوسف: 23] تصم الآذان، فماذا عساه أن يفعل؟
لجأ إلى ربه بصدق، وانطرح بين يدي مولاه برغبة وتواضع: (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ)[يوسف: 33].
لم يغتر بنفسه، ولم يعتمد على إيمانه، ولم يركن لخشيته، ولكن لجأ إلى ربه، لجأ إلى المكان الأعظم، والأمر الصادق: (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[يوسف: 34].
وأما السبب الثاني من أسباب الثبات على هذا الدين: مفارقة البيئة الفاسدة، ومغادرة رفقاء السوء، فإن من الخطأ السيء والبين، والتصرف اللا مسئول: أن يظل المهتدي الجديد مقيما في بيئة فاسدة قديمة، وبين رفقاء قدماء، الذي كانت له معهم صولات وجولات في الشر والعصيان والضلال، ذلك أن كل شيء في تلك البيئة الملوثة، سيظل يهتف به في كل حين، كي يعود إلى الزمان الغابر.
لذا كان تصرف ذلك العالم غاية في الحكمة، وهو يرشد قاتل المائة نفس إلى تغيير بيئته، ومغادرة أرضه، ليقطع جسور الاتصال بالماضي، ليبدأ صفحة جديدة، خالية من القتل، والدم والجريمة.
أما السبب الثالث: فهو التواضع، ولين الجانب، واتهام النفس، واجتناب الغرور؛ حدث ابن أبي مليكة قال: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم يخشى النفاق على نفسه".
وأما السبب الرابع: فهو التحصن بالعلم الشرعي، وأرقى أنواعه: العلم بالله، ومراقبته وخشيته؛ قال سفيان: "إنما العلم الخشية".
أما السبب الخامس: فإن لا تحمل نفسك ما لا تطيق، أعني من النوافل، فقليل دائم خير من كثير منقطع، وكان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- عمله ديمة، أي دائماً.
وأما السبب السادس، فهو: التفكر بمصارع الغابرين من الأمم، والدول، والوجهاء، والأعيان، والصغار، والكبار.
وأخيرا: تذكر الدار الآخرة، وشدة الموقف، وهول المطلع، ودقة الحساب.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها نفوسنا، وتلم بها شعثنا، وتذهب بها الفتن عنا، ونعوذ بالله بك أن نضل بعد إذ هديتنا.
التعليقات