عناصر الخطبة
1/ظاهرة انتشار الدين 2/أسباب وقوع الناس في الديون 3/وصايا للمقدمين على الديوناقتباس
الديون ظاهرةٌ كبلت أيدي الكرماء وأخافت قلوب الأمناء. الديون ظاهرة اجتماعية اكتسحت البيوت إلا من رحم الله؛ ولذا يلزمنا جميعاً أن نقوم بواجب النصيحة للآخرين: نحذرهم من مفاسد الديون في الدنيا...
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا، عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأناديكم بنداء الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]؛ أما بعد:
أيها المسلمون: الديون، وما أدراكم ما الديون؟ داءٌ يفتك بالكثيرين ممن تساهلوا واستدانوا من هذا وذاك لغير حاجة ماسة أو ضرورة مُلحة.
إن الديون ظاهرةٌ كبلت أيدي الكرماء وأخافت قلوب الأمناء. الديون ظاهرة اجتماعية اكتسحت البيوت إلا من رحم الله؛ ولذا يلزمنا جميعاً أن نقوم بواجب النصيحة للآخرين: نحذرهم من مفاسد الديون في الدنيا وسوء عاقبتها في الآخرة.
أيها الإخوة في الله: لماذا تكاثرت الديون على الناس؟ ولماذا غرق الكثيرون فيها؟
إن من تأمل واقع الناس، علم أنهم وقعوا في ما وقعوا فيه لأسباب عديدة منها:
أولاً: خداع البنوك وشركات التقسيط للناس وتشجيعهم على الاقتراض، وهذا الخدمات المالية لا تريد منها هذه الشركات إلا التكسب الآمن وبعدها ليتورط من يتورط من أرباب الأُسر، إنهم يخادعون الناس فيعلنون أن القروض الشخصية ستجعل حياة الفرد أكثر رفاهية وما هي إلا شهور ثم يكتشف أنه في مستنقع لا يدري كيف الخلاص منه !وفي دراسة أجرتها إحدى المجلات المتخصصة تبين أن ثلاثين بالمائة من المقترضين من شركات التقسيط غير قادرين على السداد لظروف طارئة عليهم وأربعين بالمائة هم من الممتنعين أو المتأخرين في السداد.
ثانياً: التساهل في استخدام البطاقات الائتمانية والتي تشجع المفلس على الشراء للكماليات وتحفزه لبعثرت الأموال في كلِّ واد, وما هي إلا أيام فإذا بالراتب يُقتص منه المبالغ تلك وزيادة فوائد ربوية تزداد يوماً بعد يوم. ونصيحتنا إليك أخي المسلم أن لا تقترب من قروض الربا أبداً, فمهما ضاقت بك الحيل فلا تجعل الحرام مخرجك منها، وتذكر الحديث الرهيب الذي يزجر عن أكل الربا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية"(رواه الإمام أحمد وصححه الألباني).
أيها الإخوة: وثالث أسباب كثرة الديون: عدم قناعة بعض الناس بالقليل والبحث عن التفاخر والرفاهية الزائدة وقد نهى الله عن ذلك، كما في قوله تعالى: (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه:131].
رابعاً: الإسراف والتبذير؛ فكثير من الناس يلزمون أنفسهم بأمور تكلفهم الكثير من الأموال وتثقلهم بالديون كمثل السفر السنوي في كل إجازة إلى دول الشرق والغرب، أو أداء العمرة في رمضان سنوياً وهكذا الحج سنوياً، أو إقامة الولائم الفاخرة بكثرة وكل ذلك يزيد الديون ويضخمها.
خامساً: المفاهيم الخاطئة التي يزعمها بعض من لا خلاق لهم، ممن يرون أن من لا ديّن عليه فهو ليس بذكي أو لا يعرف الرجولة، ويعتبرون أن مماطلة المقرضين لهم شطارة ودهاء، وفي ذلك قال الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله-: "أقول أن هذا بلا شك أنه خطأ وأن العز والذل تبع الدّين وعدم الدّين فمن لا ديّن عليه هو العزيز, ومن عليه ديّن فهو الذليل؛ لأنه في يوم من الأيام قد يطالبه الدائن ويحبسه وما أكثر المحبوسين الآن في السجون بسبب الديون التي عليهم".
سادساً: الانقياد للعادات والتقاليد المذمومة قد تجر إلى الديون: حدث أحد الفضلاء أنه انتقل هو زوجته من قريته إلى مدينة بعيدة وذلك من أجل فرصة وظيفية.. قال: استقر بي الحال إلى سكن مناسب وراتب جيد ولكن بعد حين ظهرت لي مشكلة لا أظن أن لها حلاً، فلقد ركبتني الديون وضاعت علي رواتبي بسبب إكرام الضيوف القادمين من قريتي، وكلما زار أحد منهم هذا المدينة أقمت له الوليمة بالذبيحة والذبيحتين,.. قال: فلما رأيت الديون قد تكاثرت علي قدمت استقالتي من هذا العمل ورجعت إلى قريتي أرجو السلامة من هذه الأمواج المتلاطمة، ويقال لهذا الرجل وأمثاله أن الشرع يطالب المسلم أن يُكرم ضيفه ولكن دون عادات الإسراف هذه, قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الْفُرْقَانِ:67].
سابعاً: المجازفة في مشروعات خاسرة؛ فلمجرد أن فلاناً من الناس نجح في مشروع تجاري تجد آخرين يجمعون الأموال من هنا وهناك ثم يتسابقون للقيام بنفس المشروع، وغالباً ما تكون عاقبتهم الخسارة ومن ثمَّ غرقهم في الديون. ولا شك أن التوفيق بيد الله إلا أن عدم دراستهم للجدوى الاقتصادية سببٌ من أسباب فشلهم فينبغي النظر إلى حاجة الناس وعدد المنافسين في السوق ومناسبة الموقع ومجموع التكاليف الشهرية ونسبتها إلى صافي الأرباح وهكذا.. أما أن يقترض المرء ويتورط فهذا مما لا يفعله عاقل ولا يقول به من الأكياس قائل.
هذا وللكلام بقية فنسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
أيها المسلمون: جاء في الأثر: "الديّن همٌ بالليل مذلة بالنهار"، قال القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: "وإنما كان شيناً ومذلة لما فيه من شغل القلب والبال والهم اللازم في قضائه والتذلل للغريم عند لقائه وتحمل منته بالتأخير إلى حين أوانه".
أخي المسلم: وحتى لا تغرق في الديون تذكر هذه الوصايا:
أولاً: قبل أن تُقدم على الاقتراض من الآخرين استشعر الأحاديث المفزعة في عاقبة الديون، ومن ذلك ما صح في السنة النبوية، ومنها:
1- عن صهيب الخير -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيما رجل يدين ديناً، وهو مجمع أن لا يوفيه إياه، لقي الله سارقاً"(رواه ابن ماجه، وقال الألباني: حسن صحيح).
2- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أخذ أموال الناس يريد إتلافها، أتلفه الله"(رواه البخاري).
3- عن ثوبان مولى رسول الله، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من فارق الروح الجسد، وهو بريء من ثلاث، دخل الجنة من الكبر والغلول والدَّين"(رواه ابن ماجه).
4- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "نفس المؤمن معلقة بدينه، حتى يقضى عنه"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
5- عن أبن عمر؛ قال: قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من مات وعليه دينار أو درهم قُضي من حسناته، ليس ثم دينار ولا درهم"(رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
6- وعن محمد بن جحش -رضي الله عنه- قال: كنا جلوساً عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرفع رأسه إلى السماء ثم وضع راحته على جبهته، ثم قال: "سبحان الله، ماذا نُزل من التشديد؟ فسكتنا وفزعنا فلما كان من الغد، سألته: ما هذا التشديد الذي أنزل؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قُتل في سبيل الله ثم أُحيي ثم قُتل ثم أُحيي ثم قُتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يُقضى عنه دينه"(رواه النسائي، وحسنه الألباني).
8- وعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يُغفر للشهيد كلًّ ذنب إلا الدّين"(رواه مسلم).
أما الوصية الثانية فهي: لا تقترض إلا مضطراً:
إن الواقع يشهد أن كثيراً من الناس يقترض دون اضطرار لذلك، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم أن اقترض، اقترض طعاماً احتاجه، ورهن درعه عند المُدين ليضمن براءة ذمته، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترى طعاماً من يهودي إلى أجل ورهنه درعاً من حديد.
قال ابن المنير: "وجه الدلالة منه أنه -صلى الله عليه وسلم- لو حضره الثمن ما أخره، وكذا ثمن الطعام لو حضره لم يرتب في ذمته ديناً، لما عُرف من عادته الشريفة من المبادرة إلى إخراج ما يلزم إخراجه".
ولعل من فوائد الرهن أنه يدعو المستدين إلى أن يكون جادّاً في سداد دينه مُعجلاً غير مؤجل.
ثالث الوصايا: عليك بكثرة الدعاء أن يغنيك الله بفضله عمن سواه، واستعذ بما استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في قولـه: "اللهم إني أعوذ من ضَلَع الدّين وغَلَبة الرجال"(رواه البخاري)، وجاء عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في الصلاة ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم – أيّ الدّين- فقال رجل: يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل إذا غِرم كذب, ووعد فأخلف".
أخيراً: ينبغي أن تكون الديون التي عليك همّك الأول، فتوفر ما تستطيع توفيره من أجل سدادها، هذا ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كان لي مثل أحد ذهباً ما يسرُّني أن لا يُمر عليَّ ثلاث وعندي منه شيء إلا شيءٌ أرصده لدين"(رواه البخاري).
ويجب أن تشارك الأسرة في ترشيد المصروفات، وتقلل من النفقات مراعاة لظروف راعيها وولي أمرها.
اللهم إنا نعوذ بك من المأثم والمغرم, اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجُبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال.
عباد الله: صلوا على نبيكم فلقد أمركم الله بذلكم اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
التعليقات