عناصر الخطبة
1/ مكانة من يحب لأخيه كما يحب لنفسه 2/ أهمية مجاهدة النفس على هذا الخلق 3/ فضل منافسة الناس على الخير مع مشاركتهم له في الخير 4/ أن يكون الناس أفضل منك تلك منزلة عظيمةاقتباس
وينبغي للمؤمن أنْ لا يزال يرى نفسَه مقصِّراً عن الدَّرجات العالية، فيجتهد في طلب الفضائل، ويزداد منها، وينظر إلى نفسه بعينِ النَّقص، وينشأ مِنْ هذا أنْ يُحِبَّ للمؤمنين أنْ يكونوا خيراً منه؛ لأنَّه لا يرضى لَهم أنْ يكونوا على مثلِ حاله، كما أنَّه لا يرضى لنفسه بما هي عليه، بل يجتهد في إصلاحها...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...........
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله جل في علاه واذكروا نعمته عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا؛ ألا فلنحافظ على هذه الأخوة بالتسامح والتعاطف ومحبة الخير للجميع.
معاشر المسلمين: لقد وثق الإسلام عرى الأخوة بين المؤمنين، وأكثر من النصوص في ذلك، وترجم ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- عمليا، بل صرح بأعظم من ذلك فبين أن إيمان العبد لا يكمل الكمال الواجب حتى يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه.
الله أكبر! ما أعظمه من أدب وأجله من خلق حيث يتعامل المسلم مع أخيه وكأنه نفسه بل كأنهما شيء واحد لا يفترق.
أخرج البُخاريُّ ومُسلِمٌ في صحيحهما من حديث أنسِ بنِ مالكٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأَخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفسه". هذا الحديث خرَّجاه في "الصحيحين" من حديث قتادة، عن أنسٍ، ولفظُ مسلم: "حَتَّى يُحِبَّ لجاره أو لأخيه". وخرَّجه الإمام أحمد، ولفظه: "لا يبلغُ عبدٌ حقيقةَ الإيمان حتَّى يحبَّ للناس ما يُحِبُّ لنفسه من الخِير".
المقصودُ أنَّ مِن جملة خِصال الإيمانِ الواجبةِ، أنْ يُحِبَّ المرءُ لأخيه المؤمن ما يحبُّ لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، فإذا زالَ ذلك عنه، فقد نَقَصَ إيمانُهُ بذلك، وإذا كان النقص من كماله الواجب فدل على أنه يأثم بذلك!!
فقل لي -بربك-: هل نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا من الخير الدنيوي والأخروي؟ لنتفقد أنفسنا ولنحكم بعد ذلك على إيماننا.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أحبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عن النَّارِ ويُدخَلَ الجنة فلتدركه منيَّتُه وهو يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، ويأتي إلى الناسِ الذي يحبُّ أنْ يُؤْتَى إليه".
وأخرج مسلم أيضا من حديث أبي ذرٍّ، قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذرٍّ، إني أراكَ ضعيفاً، وإني أحبُّ لك ما أُحبُّ لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولَّينَّ مالَ يتيم". وإنَّما نهاه عن ذلك، لما رأى من ضعفه. وهو -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ هذا لكلِّ ضعيفٍ؛ وإنَّما كان يتولَّى أمورَ النَّاسِ؛ لأنَّ الله قوَّاه على ذلك، وأمره بدعاء الخَلْقِ كلِّهم إلى طاعته، وأنْ يتولَّى سياسةَ دينهم ودنياهم.
عباد الله: إن النفس تحتاج مجاهدة لتستقيم على الصراط، وإن محبة الخير للمسلمين كما تحب لنفسك أمر يحتاج مجاهدة عظيمة خصوصا في أمور الدنيا.
كان محمَّدُ بنُ واسعٍ يبيع حماراً له، فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه، وهذه إشارةٌ منه إلى أنَّه لا يرضى لأخيه إلاَّ ما يرضى لنفسه، وهذا كلُّه من جملة النصيحة لِعامة المسلمين التي هي مِنْ جملة الدين.
ويدل على ذلك ما أخرج الشيخان في صحيحهما من حديث النعمان بنِ بشير، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: "مَثَلُ المؤمنينَ في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثلُ الجسدِ، إذا اشتكى منه عُضوٌ، تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمى والسَّهر"، وهذا يدلُّ على أنَّ المؤمن يَسُرُّهُ ما يَسرُّ أخاه المؤمن، ويُريد لأخيه المؤمن ما يُريده لنفسه من الخير، وهذا كُلُّه إنَّما يأتي من كمالِ سلامةِ الصدر من الغلِّ والغشِّ والحسدِ؛ فإنَّ الحسدَ يقتضي أنْ يكره الحاسدُ أنْ يَفوقَه أحدٌ في خير، أو يُساوَيه فيه؛ لأنَّه يُحبُّ أنْ يمتازَ على الناسِ بفضائله، وينفرِدَ بها عنهم، والإيمانُ يقتضي خلافَ ذلك، وهو أنْ يَشْرَكَه المؤمنون كُلُّهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أنْ ينقص عليه منه شيء.
وقد مدح الله تعالى في كتابه من لا يُريد العلوَّ في الأرض ولا الفساد، فقال: (تلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً) [القصص:83]، والذي لا يحب لإخوانه ما يحب لنفسه فيه خصلة ممن يريدون العلو في الأرض.
قال بعضُ الصالحين مِن السَّلف: "أهلُ المحبة لله نظروا بنور الله، وعطَفُوا على أهلِ معاصي الله، مَقَتُوا أعمالهم، وعطفوا عليهم؛ ليزيلوهُم بالمواعظ عن فِعالهم، وأشفقوا على أبدانِهم من النار".
اللهم اجعلنا ممن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله..........
أما بعد:
فيا معاشر المؤمنين: لا يكون المؤمنُ مؤمناً حقاً حتى يرضى للناسِ ما يرضاه لنفسه، وإنْ رأى في غيره فضيلةً فاق بها عليه فيتمنى لنفسه مثلها؛ فإنْ كانت تلك الفضيلةُ دينية كان حسناً، وقد تمنى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لنفسه منْزلةَ الشَّهادة.
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسدَ إلاَّ في اثنتين: رجل آتاهُ الله مالاً، فهو يُنفقهُ آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجُلٌ آتاهُ الله القرآن، فهو يقرؤهُ آناءَ الليل وآناءَ النهار".
ومع هذا كُلِّه، فينبغي للمؤمن أنْ يحزنَ لفواتِ الفضائل الدينية، ولهذا أُمِرَ أنْ ينظر في الدين والدنيا إلى مَنْ هو دونه، وأنْ يُنافِسَ في طلب ذلك جهده وطاقته؛ كما قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمتَنَافِسُونَ) [المطففين:26] ولا يكره أنَّ أحداً يُشارِكُه في ذلك، بل يُحِبُّ للناس كُلِّهم المنافسةَ فيه، ويحثُّهم على ذلك، وهو من تمام أداءِ النَّصيحة للإخوان.
قال الفضيلُ: "إنْ كُنتَ تحبُّ أنْ يكونَ الناسُ مثلَك فما أديتَ النَّصيحة لأخيك، كيف وأنت تحبُّ أنْ يكونوا دونك؟!".
يشير إلى أنَّ أداء النَّصيحة لهم أنْ يُحبَّ أنْ يكونوا فوقَه، وهذه منزلةٌ عالية، ودرجةٌ رفيعةٌ في النُّصح، وليس ذَلِكَ بواجبٍ، وإنَّما المأمورُ به في الشرع أنْ يُحبَّ أنْ يكونوا مثلَه، ومع هذا فإذا فاقه أحدٌ في فضيلة دينية اجتهد على لَحاقه، وحزن على تقصير نفسه، وتخلُّفِهِ عن لحاق السابقين، لا حسداً لهم على ما آتاهُم الله من فضله -عز وجل-، بل منافسةً لهم، وغبطةً وحزناً على النَّفس بتقصيرها وتخلُّفها عن درجات السابقين.
وينبغي للمؤمن أنْ لا يزال يرى نفسَه مقصِّراً عن الدَّرجات العالية، فيستفيد بذلك أمرين نفيسين:
الاجتهاد في طلب الفضائل، والازدياد منها، والنظر إلى نفسه بعينِ النَّقص، وينشأ مِنْ هذا أنْ يُحِبَّ للمؤمنين أنْ يكونوا خيراً منه؛ لأنَّه لا يرضى لَهم أنْ يكونوا على مثلِ حاله، كما أنَّه لا يرضى لنفسه بما هي عليه، بل يجتهد في إصلاحها.
وقد قالَ محمدُ بنُ واسع لابنه: "أمَّا أبوكَ، فلا كثَّرَ الله في المسلمين مثلَه". وهذا من تواضعه -رحمه الله- وازدرائه لنفسه وإلا فهو من خيار التابعين رحمهم الله.
ولكن نستفيد من ذلك أن من كان لا يرضى عن نفسه؛ فكيف يُحبُّ للمسلمين أنْ يكونوا مثلَه مع نصحه لهم؟ بل هو يحبُّ للمسلمين أنْ يكونوا خيراً منه، ويحبُّ لنفسه أنْ يكونَ خيراً ممَّا هو.
قال ابنُ عبَّاسٍ: "إني لأمرُّ على الآية من كِتاب الله، فأودُّ أنَّ النَّاسَ كُلَّهم يعلمُون منها ما أعلم"، وقال الشافعيُّ: "وددتُ أنَّ النَّاسَ تعلَّموا هذا العلمَ، ولم يُنْسَبْ إليَّ منه شيء"، وكان عتبةُ الغلامُ إذا أراد أنْ يُفطر يقول لبعض إخوانه المطَّلِعين على أعماله: "أَخرِج إليَّ ماءً أو تمراتٍ أُفطر عليها؛ ليكونَ لك مثلُ أجري".
أما أمور الدنيا فلا تنبغي المنافسة فيها، فضلا عن حسد الآخرين عليها؛ فما أمور الدنيا بأهل أن يتنافس عليها المؤمنون، ولهذا ذمها الله وقلل من شأنها وحذر منها.
اللهم وفقنا لهداك...
التعليقات