عناصر الخطبة
1/ رغبة البشر في الزعامة وحبهم للتصدر والظهور 2/ مفاسد الحرص على الإمارة والرياسة 3/ معايير الاختيار الشرعية 4/ متى يترشح المرء للعمل العام؟ 5/ أفضل القائمين بالعمل العام القوي الأمين.اهداف الخطبة
اقتباس
كل من رغب في النفع العام لأمته أو مجتمعه، وعرف من نفسه الكفاية والأمانة والحفظ، وشهد بذلك العقلاء الحكماء القريبون منه الذين يعرفون قدراته ويعرفون الواقع، وكان لديه العلم والعمل ما يفوق ما عند غيره، وكان قصده الإصلاح وهمه الارتقاء، ولم يكن همه إرواء غليله وإرضاء شهوته في الزعامة؛ فإن مثل هذا يُقدَّم ويسأل الله الإعانة، ومثله يُختار. وعلى هذا يكون المعيار الشرعي للاختيار: القوة كفاءة وقدرة وعلمًا ومعرفة، والأمانة والخوف من الله....
الخطبة الأولى:
الحمد لله المطّلع على مكنونات القلوب وما أضمرت، الرقيب على كل جارحة بما اجترحت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنفع قائلها في يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وأخرت، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بدعوته إلى الله وجهاده في سبيل الله علت راية التوحيد وانتشرت، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه التابعين ومن تبعهم بإحسان ما أشرقت شمس وغربت.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].
أيها المسلمون: من طبيعة الإنسان المشاحَّة وحب التغلب على الآخرين، ومن ثَم فلا غرابة أن حرص منذ كان على تولِّي الإمارة، وتقلد الولايات، حتى أفضى به ذلك إلى نزاعات وخلافات، وأدخله في مصائب ومشكلات، بل وجرَّه إلى حروب وعداوات سقطت بسببها دول وحكومات، وضاعت أمجاد، وتبددت أمنيات.
وكما وجد هذا الأمر الذي هو أشبه بالداء في الولايات العامة والمناصب العالية فقد تسلل إلى المجتمعات الصغيرة والولايات اليسيرة، وسيطر على بعض النفوس، وغدا هاجسًا لها، حتى صار همّ الفرد أن يسود على بضعة أفراد أو ينال منصبًا أيًّا كان اسمه ورسمه، دون تفكير بتوابع ذلك وخطورته على الذمة في العاقبة ولا انتباه؛ لأن كل ولاية كبرت أو صغرت فهي أمانة، وهي يوم القيامة خزي وندامة، إلا لمن سلمه الله وأنجاه؛ ولأن الحرص على الإمارة أيًّا كان نوعها يُفسد دين المرء بقدر حرصه، ويضيع نصيبه في الآخرة، فقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من عواقب التطلع إلى الإمارة والبحث عن الزعامة فقال: "ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف والمال لدينه" (رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني).
والمعنى أن الفساد الحاصل للعبد جراء حرصه على المال والشرف أشدّ من الفساد الحاصل للغنم التي غاب عنها رعاتها، وأرسل فيها ذئبان جائعان يفترسان ويأكلان، فإذا كانت الغنم في هذه الحال لا يسلم منها إلا قليل؛ فإن الحريص على المال والشرف لا يكاد يسلم له دينه.
وأما حين تكون الإمارة أو الولاية مقصودة للتعالي والتكبر ورؤية النفس فوق غيرها أو تتخذ مسلكًا للإفساد، وتضييع الحقوق؛ فتلك خسارة الدار الآخرة التي هي دار الحياة الحقيقة الجديرة بالاهتمام بها والتي لا رافع فيها إلا التواضع والتطامن وترك الإفساد. قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:83].
ولعظم الأمر، وثقل شأن الولاية، وكون كثير من الناس غير حقيق بها ولا قادر على النهوض بها، فقد وردت نصوص تنهى عن سؤالها وتمنيها، وتحذر من ذلك، وتبين عاقبة ذلك، وتنهى عن تولية مَن سألها، أو حرص عليها.
قال -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الأمارة؛ فإنك إن أُعطيتها عن مسألة وُكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها" (متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة" (رواه البخاري في صحيحه).
نعم أيها المسلمون: التزعم محبوب للنفس في الدنيا، كلٌّ يتطلع إليه ويطلبه، وما من أحد إلا من رحم الله إلا وهو يرى نفسه أهلاً للقيادة، ولكن الأمر كما وصفه الحبيب -صلى الله عليه وسلم- حلو في أوله مغر في بدايته، ولكنه بعد الموت وحين لقاء الله يصبح حملاً ثقيلاً وإصرًا وبيلاً حين يتعرض المتزعم للسؤال والحساب والعقاب، ويتعلق الأمر بحقوق من تزعم المرء فيهم، ووعدهم بأن يكون لهم أبًا، وعنهم منافحًا، وأن يحقِّق لهم هدفًا يصبون إليه، ويصل بهم إلى غاية يريدونها، ثم نسيهم، وولاهم ظهره فوا حسرته حين يقفون متظلمين أمام رب العالمين، ويا خسارته حين يأخذون حقوقهم من حسناته، فيفلس، أو يلقون من سيئاتهم على ظهره فتعظم خسارته.
أيها المسلمون: لقد أصبح الناس اليوم لا يتورعون أن يسألوا الإمارة، ويطلبوا الزعامة، وجعلوا يتسابقون إلى ذلك، ويتنافسون فيه حتى وصل الأمر إلى كثير منهم إلى أن يتشبع بما لم يعط، ويصف نفسه بما ليس فيها، قليلاً أو كثيرًا.
كفى بذلك زورًا، وكفى بذلك غرورًا، وكفى بذلك خداعًا للنفس وتغريرًا، وعلى عكس ما كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعلوا؛ صارت الدعايات تؤثر في الناس فيتجهون إلى مَن يمدح نفسه ويدعمون من يملك جذبهم بمعسول الكلام وحلو الوعود ويختارونه.
أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أحكم الناس وأعلمهم وأخشاهم لله وأتقاهم- فقد جاءه رجلان، وسألاه الإمارة، فقال كما في الصحيحين قال لهما -صلى الله عليه وسلم-: "إنا لا نولِّي هذا مَن سأله ولا من حرص عليه".
والسبب في عدم توليته -صلى الله عليه وسلم- من سألها أن الذي يسألها ويحرص عليها، ويتشوف لها غالبًا ما يكون غير صالح لها، وحرصه يدل على حبِّه الشديد للدنيا، وطمعه في زهرتها، وإرادته العلو فيها، هذا عدا كونه مدح نفسه وأعلى شأنها في هذا الجانب، وهو نوع اتكال منه عليها، وإعجاب بقدراته، وغرور بإمكاناته، وانقطاع عن الاستعانة بالله –عز وجل- والتي لا غنى لعبد عنها طرفة عين، ولا توفيق له في كبير ولا صغير من الأمر إلا بمعونة الله -جل جلاله-.
إخوة الإسلام: هذا التعظيم السابق ذكره، والتخويف في المسئولية والولايات جاءت في حق الرجال الذين يخالطون الناس، ويحضرون المجامع العامة، فكيف يكون في النساء اللاتي شرع الله أن تكون ولاية تزويجهن ومسئوليتهن عن أنفسهن في ذلك الأمر ليس بيدهن ولكن بيد الرجال.
قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "لا نكاح إلا بولي"، وشرع الله لهن الستر والقرار في البيوت، وعدم الاختلاط بالرجال، فلا شك أن الأمر في حقهم أعظم.
أيها المسلمون: إن لمن لا يستحقون تولي شؤون الناس علامات، لو تأملوها لعرفوا كل امرئ على حقيقته، كذلك الذي يسب الآخرين، ويشتغل ببيان عيوبهم، ويشتعل قلبه بالغيرة منهم، فيحاول التقليل من شأنهم كلما سنحت له فرصة، أو ذلكم الذي يكثر الشكوى من عدم نيله لمنصبٍ ما، فتراه يكثر السؤال عن الأسس والمعايير التي تمكِّنه من تقلد بعض المناصب أو ذلكم الباحث عن واسطة يتوصل بها إلى منصب أو كرسي، أو ذلكم الكسول الفاشل في عمله الصغير ووظيفته المحدودة غير المشارك بجد عندما يكون مرؤوسًا، والمتهرب من التكاليف التي لا بروز له فيها، ومثلهم المنفرد برأيه المصرّ عليه الذي لا يتنازل عنه وإن ظهرت له أدلة بطلانه وإن خالفه الآخرون كلهم.
أولئك وأشباههم لا يستحقون الولاية، ولا يستحقون ثقة الناس ولا يستحقون الترؤس عليهم.
ألا فليتق الله كل مَن يظن أن المناصب تشريف، وليعلم أنها تكليف ثقيل، ومسئولية ضخمة، وعبء باهظ فادح، ليست والله لبسًا لأفخر الثياب، ولا لجميل المشالح، ولا تقدم للصفوف للتصوير، ولا لإبراز الذات، ولكنها حقيقة لمن أراد أن يقدِّمها بحقها هي التضحية بالوقت، وبذل للمال وإيثار للنفس والراحة الشخصية في سبيل مصلحة الآخرين ونفعهم.
وكل تقصير فيما تولاه المرء وهو يقدر على إتمامه؛ فإن ذلك تضييع للواجب وخيانة للأمانة قال -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري ومسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أمير عشرة إلا يُؤتى به يوم القيامة مغلولاً لا يفكه إلا العدل أو يوبقه الجور" (رواه أحمد وغيره وصححه الألباني).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الأحزاب: 72- 73].
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم وأنعم عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: حينما يُذم التطلع إلى الإمارة وحب الزعامة والرئاسة، وينهى عن الوقوف للقيادة، فليس ذلك قتلاً للطموح أو الأمجاد، أو تفضيلاً لدنو الهمة والقعود عن المعالي أو تشجيعًا للخمول والعجز والكسل، أو دعوة للتهرب من حمل المسئولية، وترك العمل، والتخاذل عن الواجبات، أو نهيًا عن قيام ذوي الكفاية بفروض الكفايات، أو ترك اغتنام الفرص فيما يقرِّب إلى الله، أو يحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة.
ولكنها دعوة إلى التفريق بين الاهتمام بحقوق الناس، والحرص على نفعهم وبين تعظيم النفس وإعطائها أكبر من حجمها.
فالمؤمن ناصح لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا يطلب الرئاسة، ولا يسعى إلى الزعامة لمجرد نيل حظوظ دنياه وبلوغ مشتهاه، وهو يكره التصدر والإمارة والشهرة بطبعه لإخلاصه وبعده عن الرياسة، ولكنه في الوقت نفسه صاحب مبادرة إلى كل ما ينفع، فارس ميدان إذا تعين عليه التصدر، وقد حكى الله من دعاء المؤمنين قولهم (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 72]، وقوله -سبحانه وتعالى- عن يوسف عليه السلام (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 51].
وهكذا فكل من رغب في النفع العام لأمته أو مجتمعه، وعرف من نفسه الكفاية والأمانة والحفظ، وشهد بذلك العقلاء الحكماء القريبون منه الذين يعرفون قدراته ويعرفون الواقع، وكان لديه العلم والعمل ما يفوق ما عند غيره، وكان قصده الإصلاح وهمه الارتقاء، ولم يكن همه إرواء غليله وإرضاء شهوته في الزعامة فإن مثل هذا يُقدَّم ويسأل الله الإعانة، ومثله يختار.
وعلى هذا يكون المعيار الشرعي للاختيار القوة كفاءة وقدرة وعلمًا ومعرفة والأمانة والخوف من الله، أما الاختيار على أساس القبيلة والعمومة والعصبية والصداقة والمصالح، فتلك معايير جاهلية دنيوية، وهي شهادات زور من أصحابها لمن لا يستحقون.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم..
التعليقات