عناصر الخطبة
1/ حب الوطن فطرة وغريزة في القلب 2/ مكانة الوطن في الإسلام 3/ حقيقة المواطنة ومقتضيات الانتماء للوطن 4/ خطر الإنصات لدعاة التخريباهداف الخطبة
اقتباس
إن حب الوطن شعور تخفق له القلوب، وشوق تتحدث به الأفئدة، وحنين يكمن في الوجدان. حب الأوطان طرق قرائح الشعراء، وحرك شغاف القلوب، ومودة وألفة يتزين بها كرام النفوس، وأصحاب العقائد السليمة، والفطر المستقيمة. حب الأوطان خالط مشاعر...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب السموات والأرض ورب العالمين، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ فضله ومننه، وعظيم جزائه، وكبير عطائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه وشريعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله -تعالى- ربكم واشكروه على نعمه الكثيرة المتعددة واشكروه على نعمة الإسلام والإيمان.
عباد الله: الإنسان مخلوق فطره الله -تعالى- على حب من أحسن إليه، ومن آواه وساعده ونصره، وكان معه بعد الله -تعالى- ولو كان جماداً لا ينطق.
ومما فطر الله -تعالى- العباد عليه: حب الوطن، والمستقر والحنين إلى الأرض التي تربى عليها، والتطلع إليها مهما بعد فلا بد من الحنين؛ لأن محبة الأوطان والانتماء للأمة والبلدان شيء غريزي وطبيعي طبع الله النفوس عليها.
إن حب الوطن شعور تخفق له القلوب، وشوق تتحدث به الأفئدة، وحنين يكمن في الوجدان.
حب الأوطان طرق قرائح الشعراء، وحرك شغاف القلوب، ومودة وألفة يتزين بها كرام النفوس، وأصحاب العقائد السليمة، والفطر المستقيمة.
حب الأوطان خالط مشاعر الأنبياء، وود وجد في قلوب الصحابة والأصفياء.
ومن أعجب العجب: أن حب الأوطان تغلغل في دواخل الحيتان تحت الماء، ورفرفت له أجنحة الطير في السماء.
وحينما يولد الإنسان في بقعة من الأرض، وينشأ فيها فيشرب من مائها، ويتنفس من هوائها، ويحيا بين طرقاتها وأزقتها، فإنه يرتبط بها ويحبها ويواليها، ويكفي لجرح مشاعر إنسان أن تشير إليه بأنه لا وطن له.
أيها المسلمون: الأوطان حبها منقوش في القلوب، وموالاتها محفورة في الأفئدة، فلا يهدمها إلا عدو حاقد، أو فاسق مارق، أو جاحد للنعمة.
ولا يساوم عليها إلا من فقد دينه ومروءته وشرفه، ولا يخون أرضه وأهله إلا خبيث خاسر.
لقد ربط الله -تعالى- في القرآن بين حب الوطن والديار، وبين حب النفس، فقال: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ) [النساء: 66].
بل ربط بين الدين وحب الوطن، فقال: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].
لقد تأثر رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- عندما أخرجه قومه من مكة -شرفها الله-، وكان ذلك قاسياً عليه وهو ابتلاء من ربه -جل وعلا-، يقف رسول الله على الحزورة (مرتفع صغير) ويقول: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" (رواه الترمذي بإسناد صحيح).
وواساه الله -تعالى- فقال: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) [محمد: 13].
ولما استوحش فراق الوطن سأل ربه -عز وجل- أن يحبب إليه المدينة، قائلاً: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" (رواه الشيخان)، فكان إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته (أي أسرع بها) يقول ابن حجر: "فيه دلالة على فضل المدينة وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه".
أيها المسلمون: الوطن مستقر الإنسان في حياته، والبلد موضع رأسه، وراحة فؤاده، فهو نعمة ومنّة من المولى -جل وعلا- تتطلب هذه النعمة شكراً وثناءً على المنعم -جل وعلا-، ويتأكد الشكر والعرفان حينما يمنّ الجليل -جل وعلا- على الإنسان ببلد آمن مطمئن، ووطن مستقر؛ كما قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 3 - 4].
وخاصة في أزمان الدنيا المتأخرة التي أصبح الأمن فيها شحيحاً أو منعدماً، فإذا وجد الوطن الآمن فهو درّة بين البلدان.
ألا وإن الله -تعالى- قد منّ علينا بفضله ومنته ببلدنا الآمن، ووطننا المستقر، فلتكن هذه دافعة لنا إلى شكر ربنا مقنعةً لنا بأن الخير كله من خالقنا ورازقنا، فلنحذر من معصيته فما عنده لا يطلب إلا بطاعته.
أيها المسلمون: إن المواطنة الصادقة لتعبر عن نفسها، فتجد المواطن الصادق يفرح لوطنه، وينشط للبناء، ويتفاءل بمستقبله، ويحزن لبلده، ويتألم لألمه ومصابه.
وإن المواطنة الصادقة تتطلب البراهين والأدلة؛ لأنه بها يتميز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والراضي من الساخط، والمتقلب من الثابت الراسخ: (وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة: 220].
وإن المواطنة الصادقة لتدفع صاحبها للبناء والتعمير الحسي والمعنوي، والترميم والتعديل والستر والنظر بالتفاؤل والثقة والاستبشار، وحب الخير، وهذه المواطنة تسقط زيف الشعارات والرايات.
ومن مقتضيات الانتماء للوطن: محبته، والافتخار به، وصيانته، والدفاع عنه، والنصيحة له، والحرص على سلامته، واحترام أفراده، وتقدير أهله، وطاعة ولاة أمره.
ومن مقتضيات المواطنة الحقة: القيام بالواجبات والمسؤوليات، كل في مكانه مع الأمانة والصدق.
ومن مقتضيات حب الوطن ومتطلبات هذا الحب: احترام نظمه وثقافته وعقيدته وملته ومرافقه وموارده ومكتسباته، وعوامل بنائه ورخائه، والحذر من كل ما يؤدي إلى نقصه.
أيها المسلمون: إن شكر الله -تعالى- على نعمة الوطن الأمن يكون بالعمل بطاعته، والاهتمام بشريعته، ورفع رايات الدين خفاقة عالية، كما يكون شكر النعمة بحراسة الأوطان، فيجعل المواطن نفسه حارساً لبلاده، ولا ينتظر من وكل بالحراسة والأمن ليقوم بالحراسة.
وأكبر ما تحرس به البلدان هو: الدين الحق، والعقيدة الصحيحة، لندرتها اليوم، ولأنها هي دين الله الحق، ولكثرة الأعداء لهذه العقيدة من أهل البدع والخرافة، والطرق المشرقة والمغربة، فإذا سلمت البلدان بعقيدتها الصحيحة (عقيدة الوحي)، فقد أفلحت، ونجت من الظالمين، وإن استسلمت للبدعة والخرافة، فلا تسل عن دمارها وخسارتها وانتكاستها، هذا وقد قضت البدعة على مجتمعات، وأفسدت أنفساً، وجمدت عقولاً، وأظلمت نفوساً، وطردت سنناً.
وتكون شكر النعمة بالأوطان الآمنة بحراستها من دعاة العقائد الفاسدة: عقيدة الخوارج دعاة الفرقة والتكفير الهدام الذين يهدمون ويخربون، ويفسدون في الأرض، ببيان فاسد معتقدهم، وتحذير الناس منهم، والرد على مفترياتهم وتخريفاتهم، وخطورة ما يدعون إليه.
إن الجناية على الوطن لهي من أعظم الجنايات بعد الجناية على الدين الحق، ذلكم أن هذه الجناية تضر بالناس أجمعين، يحصل بسببها القتل والهرج، وتذهب النعم، وعلى رأسها: نعمة الأمان بعد نعمة الإيمان، وتعطلت بسببها المصالح والمنافع.
إنه ما خان أحد وطنه كخيانة من ذهب يطعن في ولاته وأنظمته، ويسخر من كل شيء يتعلق بوطنه، يقدحون في أوطانهم التي تربوا فيها وترعرعوا، وأعطاهم الله -تعالى- كل خير، فلما اشتدت سواعدهم كانت أول رمية لأوطانهم انتقاصاً واتهاماً واستعداءً للعدو، ومعاونة له يقابلون أوطانهم بالفكر المدمر الذي أغلظ القلوب، وأقسى النفوس، فهانت عندهم الأوطان، بل هان عليهم قتل النفس التي حرم الله -تعالى-.
أيها المسلمون: إن حب الأوطان يهونه ويقلل من شأنه الإنصات لدعاة التخريب، وتصديقهم، والغرور بهم، ويذهب الشعور بمقام الوطن الالتفات إلى دعاة الشر المفسدين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، الذين امتلأت قلوبهم حقداً وضغينة على الوطن وولاته وأهله، الذين زين لهم الشيطان أعمالهم، لقد أساء أقوام على بلدانهم حين أطاعوا عدوانهم، وصدقوا الحاقدين عليهم، الذين لبسوا لهم جلود الضأن من اللين، وهم يحملون قلوب الذئاب، قالوا لهم: إنا سنأتيكم على ما يربحكم، ويجلب لكم الراحة، فإذا بالوعود تتبخر، وتنهب خيرات البلد، ويدمر كل شيء.
كم بكى من فاقد لوطنه؟ وكم من لوعة في النفوس من فقد الأوطان؟ وكم من قلب يحن إلى وطنه الذي حال بينه وبينه الأعداء والظلمة؟ وكم من نفس ماتت بعيداً عن مسقط رأسها بعد أن جاهدت عمراً طويلاً لتصل فلم تصل؟
فاشكروا الله -يا أهل هذه البلاد وغيرها من ديار المسلمين- على نعمة الوطن الأمن والبلد المستقر بحراسته وحمايته، والتكاتف مع ولاته، والإعراض عن المخربين والمفسدين، سدوا الأبواب في وجوههم، واجعلوا الشوك في طرقاتهم: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون: 4].
بارك الله لي ولكم...
التعليقات