عناصر الخطبة
1/ وجوب الحذر من الاغترار بالدنيا 2/ ضرورة الاعتبار برحيل عام وقدوم عام 3/ أحوال الناس في تنافسهم على حطام الدنيا 4/ زهد الصالحين في الدنيا ومتاعها 5/ بانقضاء الأعوام تنقضي الآجالاهداف الخطبة
اقتباس
كم رأينا في هذه الحياة من بنى، وسكن غيره! وجمع ثم أكل وارثه! وتعب واستراح من بعده! ألم يأن للغافلين اللاهين في هذه الحياة أن يدركوا حقيقتها وأن حياتها عناء، ونعيمها ابتلاء، جديدها يبلى، وملكها يفنى.. إن كثيراً من الناس -مع شديد الأسف- لا يزيدهم تعاقب الأيام وتتابع الأعوام وإمهال الله لهم إلا عناداً واستكباراً، وبعداً عن الله، ناسين أن الله يمهل ولا يهمل، غرهم طول الإمهال وخدعهم التسويف والأمل، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
الخطبة الأولى:
أما بعد: نعيش هذه الأيام، أيام عام هجري جديد، ووداع عام آخر قد تصرمت أيامه، وقُوضت خيامه كلمحة برقٍ أو غمضة عين، عام مضى وانقضى من أعمارنا ولن يعود إلى يوم القيامة.
رحل عامٌ مخلّفاً ذكرىً وموعظةً في قلوب المؤمنين أن هذه الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها فيها الظعن، فكم من عامرٍ عمّا قليل يخرب، وكم من مقيمٍ مغتبطٍ عمّا قليل يرحل.
لا تبقى على حالةٍ، ولا تخلو من استحالةٍ، تصلح جانباً بفساد جانب، وتُسرّ صاحباً بمساءة صاحب، فالركون إليها خطر، والثقة بها غرر، كثيرة التغيير، سريعة التنكير، شديدة المكر، دائمة الغدر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، عيشها نكد، وصفوها كدر، والمرء منها على خطر، إما نعمة زائلة، أو بليةٌ نازلة، أو مصيبة موجعة، أو ميتةٌ قاضية، ما هي إلا أيام معدودة، وآجال مكتوبة، وأنفاس محدودة، وأعمال مشهودة.
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرّت يوماً ساءت أشهراً وأعواماً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً، وما حصّلت للعبد فيها سروراً إلا خبّأت له شروراً ولا ملأت بيتاً فرحاً إلا ملأته ترحاً وحزناً. (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39].
عباد الله، لقد حذر الله -تبارك وتعالى- من فتنة الأموال والأولاد في هذه الحياة حتى لا ينشغل العبد بها عن الاستعداد لما أراد الله منه، وهو العبادة (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال:28].
ونهى جل وعلا عن النظر إلى ما في أيدي الناس لأن ذلك مدعاة إلى الركون إلى الدنيا والانشغال بها عن الدار الآخرة الباقية (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:131].
أيها المسلمون، إن الدنيا ظل زائل، وسراب راحل، غناها مصيره إلى فقر، وفرحها يؤول إلى ترح، وهيهات أن يدوم بها قرار، وتلك سُنة الله –تعالى- في خلقه، أيامٌ يداولها بين الناس، ليعلم الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، إنما هي منازل، فراحل ونازل، وهي بزينتها وبريقها ونعيمها إنما هي:
أحلامُ نومٍ أو كظل زائلٍ***إن اللبيب بمثلها لا يخدع
جعل الله ما عليها فتنة للناس ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، روى ابن ماجه والترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرّ على شاة ميتةٍ فقال لأصحابه: "أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟ قالوا: من هوانها ألقوها، قال: "والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء".
أيها الأحبة، الدنيا قنطرةٌ فاعبروها، ولا تنازعوا أهل الدنيا في دنياهم فينازعوكم في دينكم، فلا دنياهم أصبتم ولا دينكم أبقيتم.
تلكم هي الدنيا -عباد الله- التي شُغل بها كثير من الناس وغرّهم سرابها وبريقها وزينتها، فراحوا يتهافتون على جمعها ويتنافسون في اكتنازها، ورضوا منها بالإقامة والتمتع بشهواتها وملاذها، وتركوا الاستعداد ليوم الرحيل والعمل لدار القرار، ونسوا أنها في حقيقتها ما هي إلا معبر إلى الدار الآخرة، وميدان يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابق فيه المتسابقون. كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يتخوف الدنيا على أصحابه أن تبسط عليهم كما بسطت على من كان قبلهم، فيتنافسوها كما تنافسها القوم، فتهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم. قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء" (رواه مسلم).
أيها المسلمون، ومن يرى الناس اليوم وهم يتصارعون على هذه الدنيا ويتكالبون عليها يدرك لماذا يفقد البعض دينه ويضيّع الكثيرُ أهلَه وأولاده، وتنتشر الأحقاد وتُزرع الضغائن، وتعمّ البغضاء. وهذا مصداق ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كان همه الآخرة جمع الله شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له" (رواه الإمام أحمد).
عباد الله، عجباً لغفلتنا في هذه الحياة مع كثرة العبر والمواعظ، يضحك أحدنا ملء فيه، ولعل أكفانه عند القصّار ينسجها، ويلهو ويلعب وربما ملكُ الموت واقف عند رأسه يستأذن ربه في قبض روحه، يخيّل إليه أنه مقيم مغتبط وهو راحل مفتقد، يساق سوقاً حثيثاً إلى أجله، الموت متوجه إليه والدنيا تطوى من ورائه، وما مضى من عمره فليس براجع عليه، ولسان الحال كما قال النابغة:
المرء يرغـب في الحيـاة***وطول عيشٍ قد يضـرّه
تفنـى بشاشتـه ويبقى***بعـد حلو العيش مـرّه
وتسـوؤه الأيام حتـى***ما يرى شـيئاً يسـرّه
كم ودعنا من أب وأم، وكم نعينا من ولد وبنت، وكم دفنا من أخ وأخت، ولكن أين المعتبرون؟ فأكثر الناس إلا من عصم الله في هذه الحياة مهمومٌ مغمومٌ في أمور الدنيا، لكنه لا يتحرك له طرف ولا يهتز منه ساكن إذا فاتته مواسم الخيرات، أو ساعات تحرّي الإجابات، تراه لاهياً ساهياً غافلاً، يجمع ويطرح يزيد وينقص، وكأن يومه الذي يمر به سيعود إليه، أو شهره الذي مضى سيرجع عليه.
إن من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير في هذه الحياة إلى أجله، ينقص عمره، وتدنو نهايته، وهو مع ذلك لاهٍ غافلٍ لا يحسب ليوم الحساب، ولا يتجهز ليوم المعاد، يؤمّل أن يعمّر عمر نوح، وأمر الله يطرقُ كل ليلةٍ والواعظ يقول له:
يا راقد الليل مسروراً بأوله*** إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
كم رأينا في هذه الحياة من بنى وسكن غيره! وجمع ثم أكل وارثه! وتعب واستراح من بعده! ألم يأن للغافلين اللاهين في هذه الحياة أن يدركوا حقيقتها وأن حياتها عناء، ونعيمها ابتلاء، جديدها يبلى، وملكها يفنى، ونحن مع ذلك غافلين كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب. يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "أدركت أقواماً لا يفرحون بشيء من الدنيا أتوه، ولا يأسفون على شيء منها فاتهم، ولقد كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي يمشون عليه".
قدوتهم في ذلك محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي ارتسمت على لسانه نظرته إلى الدنيا بقوله في الحديث الصحيح: "مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها" (رواه الإمام أحمد والترمذي).
وأرشد صحابته بقوله لبعضهم: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" (رواه البخاري).
وهكذا كان السلف -عليهم رحمة الله- كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه لا ينام من الليل إلا قليلاً، يصلي ويسبح ويستغفر، يستدرك ما مضى من عمره ويستعد لما أقبل من أيامه، حتى ليصدق فيهم قول القائل:
إن لله عبـاداً فُطّنــا*** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علمـوا***أنها ليسـت لحـيّ وطنا
جعلوها لُجّةً واتخـذوا*** صالح الأعمال فيها سفنا
فتزودوا -رحمكم الله- من الأعمال الصالحة، ولا تغتروا بهذه الدنيا الفانية، واعلموا أنكم راحلون عما قريب ومفارقون لهذه الدنيا، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
كان الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثيراً ما يتمثل قول الشاعر:
لا شيء مما ترى تبقى بشـاشتـه***يبقى الإله ويفنى المـال والولـد
لم تغنِ عن هرمز يومـاً خزائنـه***والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح لـه*** والإنس والجن فيما بينهـا تـردُ
أيـن الملوك التي كانت لعزتهـا*** من كـل أوبٍ إليها وافد يفـد
حوض هنالك مورود بلا كذبٍ*** لا بد من ورده يوماً كمـا وردوا
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
أما بعد: اعلموا -رحمني الله وإياكم- أنه مع هذه الصفات السيئة للدنيا إلا أنها فرصة ثمينة ومزرعة للآخرة نفيسة، فهي موسم للطاعات وزمن للعبادات وميدان للتنافس في الصالحات، فيها يتزود المسلم للآخرة، ويعمل للباقية، وما فاز من فاز يوم القيامة إلا بما أسلف في الأيام الخالية، وقدّم في هذه الدنيا الفانية، فإن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنىً لمن تزوّد منها، وكثير هم الذين يذمون الدنيا، ويزعمون أنها السبب في الطغيان والبعد عن الطاعة، وما علموا أنها دار للاستزادة، فبها الطريق إلى الجنة يُبنى، وبها التزّود من الدرجات العلا، ولقد أحسن من قال:
يعيب الناس كلُّهم الزمانا***وما لزماننا عيب سـوانا
نعيب زماننا والعيب فينا***فلو نطق الزمان به رمانـا
أيها المسلمون، وفي توديع عام واستقبال آخر تعظم مسؤولية المسلم في محاسبة نفسه، فها نحن خرجنا من سنة ودخلنا أخرى، ووالله لكأنه بالأمس القريب حين دخل العام المنصرم، وها هو ينتهي وكأنه ما كان، وهكذا الدنيا.
وفي هذا -عباد الله- تذكير بانقضاء الآجال، وانتهاء الأعمار، والانتقال إلى الدار الآخرة حيث الجزاء والمحاسبة، والمنصرف إما إلى جنة وإما إلى نار.
كم يفرح المرء أحياناً بذهاب الليالي والأيام، لرغبة أو مطمع، ولكنه مع ذلك يجب أن لا ينسى أن ذلك يُنقص من عمره، ويدني إلى أجله، وأنها مراحل يقطعها من سفره، وخطوات يمشيها إلى قبره، فهل يفرح بذلك إلا من استعدّ للقدوم على الله بعمل صالح يُرضي الله عنه؟
فتذكروا -رحمني الله وإياكم- بانقضاء العام انقضاء الآجال، وبسرعة مرور الأيام دنو الآجال، وحلول هاذم اللذات، بتغير الأحوال في هذه الحياة زوال الدنيا وحلول الآخرة.
عباد الله، لقد رأينا من يملك هذه الدنيا الفانية، وقد رحل منها بكفن، ومن لا يملك منها شيئاً قد رحل بكفنٍ مثله، فالجميع لا شك متساوون في القبور، المعظّم والمحتقر، ولكن بواطن القبور مختلفة، إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النيران عياذاً بالله، فمن عمل في هذه الحياة صالحاً واستعد للقاء الله، واستثمر أوقاتها فيما يعود عليه بالنفع فرح يوم لا ينفع نال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم تتطاير الصحف وترتجف القلوب، وتتقلب الأفئدة، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
إن كثيراً من الناس -عباد الله- مع شديد الأسف لا يزيدهم تعاقب الأيام وتتابع الأعوام وإمهال الله لهم إلا عناداً واستكباراً، وبعداً عن الله، ناسين أن الله يمهل ولا يهمل، غرهم طول الإمهال وخدعهم التسويف والأمل، وشر الناس من طال عمره وساء عمله.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعملوا صالحاً ما دمتم في فسحة الأمل تنعمون بنعمتين عظيمتين مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ.
اللهم …
التعليقات