حالنا بعد رمضان

محمد بن سليمان المهوس

2024-04-11 - 1445/10/02
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/المداومة على العمل الصالح بعد رمضان

اقتباس

وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَلاَ يَكُونُ مِمَّنْ يَبْنِي وَيَهْدِمُ، وَيُصْلِحُ ثُمَّ يُفْسِدُ كَحَالِ الْمَرْأَةِ الْخَرْقَاءِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي تَغْزِلُ طُولَ يَوْمِهَا ثُمَّ تَنْقُضُهُ وَتُفْسِدُهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) [النحل: 92] وَهَذَا كِنَايَةٌ وَمَثَلٌ لِنَقْضِ الْعَهْدِ.

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

 

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71 ].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: انْقَضَى مَوْسِمُ رَمَضَانَ وَذَهَبَ بِمَا فِيهِ مِنَ الأَعْمَالِ؛ وَعَمَلُ الإِنْسَانِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ لاَ يَنْقَطِعُ إِلاَّ بِمَوْتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْومُهَا وَإِنْ قَلَّ» [متفق عليه].

 

وَكَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ؛ أَيْ: دَاوَمُ عَلَيْهِ؛ وَقَالَ عَلْقَمَةُ: سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ؟ قَالَتْ: «لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً – أَيْ مُسْتَمِرٌّ وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَطِيعُ» [متفق عليه]. وَقَوْلُهَا : كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً بِمَعْنَى : مُسْتَمِرٌّ .

 

وَعَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاةُ مِنَ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَي عَشْرَةَ رَكْعَةً» أَيْ : يَقْضِي وِتْرَهُ شَفْعًا .

 

وَعَنْهَا قَالَتْ: فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ، فَتَحَسَّسْتُهُ فَإِذَا هُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ، يَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي لَفِي شَأْنٍ وَإِنَّكَ لَفِي آخَرَ. [ رواه مسلم ]

 

وَسَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ صَحَابَتُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَبَقِي عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الْمَوْتِ .

 

وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الفَجْرِ: «يَا بِلاَلُ، حَدِّثْنِي بأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلاَمِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بيْنَ يَدَيَّ في الجَنَّةِ» قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا، في سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلاَّ صَلَّيْتُ بذلكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لي أَنْ أُصَلِّيَ [رواه البخاري].

 

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، قَالَ: «تَضَيَّفْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ سَبْعًا، فَكَانَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ يَعْتَقِبُونَ اللَّيْلَ أَثْلاَثًا: يُصَلِّي هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا».

 

وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ بَعْدَ رَمَضَانَ، وَلاَ يَكُونُ مِمَّنْ يَبْنِي وَيَهْدِمُ، وَيُصْلِحُ ثُمَّ يُفْسِدُ كَحَالِ الْمَرْأَةِ الْخَرْقَاءِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي تَغْزِلُ طُولَ يَوْمِهَا ثُمَّ تَنْقُضُهُ وَتُفْسِدُهُ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) [النحل: 92] وَهَذَا كِنَايَةٌ وَمَثَلٌ لِنَقْضِ الْعَهْدِ.

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لِلْمُدَاوَمَةِ عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ثِمَارٌ عَظِيمَةٌ، وَآثَارٌ جَسِيمَةٌ، مِنْ أَهَمِّهَا: دَوَامُ اتِّصَالِ الْقَلْبِ بِاللهِ، وَالتَّعَلُّقِ بِهِ، وَالاِسْتِئْنَاسِ بِهِ؛ فَيَكُونُ قَلْبُهُ هَمُّه كُلُّهُ فِي اللهِ، وَحُبُّهُ كُلُّهُ لَهُ، وَقَصْدُهُ لَهُ، وَبَدَنُهُ لَهُ، وَأَعْمَالُهُ لَهُ، وَنَوْمُهُ لَهُ، وَيَقَظَتُهُ لَهُ، وَحَدِيثُهُ وَالْحَدِيثُ عَنْهُ أَشْهَى إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ حَدِيثٍ، وَأَفْكَارُهُ تَحُومُ عَلَى مَرَاضِيهِ وَمَحَابِّهِ لِيَحْصُلَ عَلَى السَّعَادَةِ التَّامَّةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ؛ كَمَا قَالَ خَالِقُهُ وَمَوْلاَهُ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً  وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97]، وَقَالَ تَعَالَى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30].

 

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقْد آذَنْتهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» [رواه البخاري].

 

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَ الْجَمِيعِ الصِّيَامَ وَالْقِيَامَ وَجَمِيعَ الأَعْمَالِ، وَأَنْ يُبَلِّغَنَا رَمَضَانَ أَعْوامًا عَدِيدَةً، وَأَزْمِنَةً مَدِيدَةً.

 

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِرَبِّكُمْ، وَتَابِعُوا الإِحْسَانَ بِالإِحْسَانِ، وَعِيشُوا دَهْرَكُمْ فِي رِضَا الرَّحْمَنِ، فَالْمُوَفَّقُ مَنِ اغْتَنَمَ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَجَعَلَ الْعَامَ كُلَّهُ رَمَضَانَ، يُسَارِعُ فِيهِ إِلَى الْخَيْرِ وَيُسَابِقُ إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنَّ الإِقْبَالَ عَلَى اللَّهِ لَيْسَ لَهُ زَمَانٌ وَلاَ مَوْسِمٌ .

 

قَالَ تَعَالَى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ  ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الحديد: 21].

 

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا»  [رواه مسلم].

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life