عناصر الخطبة
1/ حادثة تروي حكمة الله 2/ فوائد تربوية من القصة 3/ قيمة الأمنيات الشريفةاهداف الخطبة
اقتباس
إنها قدرة الله العظيمة في إنطاق مَنْ لا يقدر على النطق، وفي إفهام من يعسر عليه الفهم، فمن الذي أنطق هذا الرضيع أصلاً، إنه الله القادر المقتدر على كل شيء، ومن الذي جعله قادرًا على أن يتكلم بكلام مفهوم!! إنه الله القادر العليم سبحانه، ومن الذي أمره بترك الثدي ثم يتكلم ثم يقبل على الثدي مرة أخرى!! إنه الله القادر المدبر سبحانه.
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
نقف -أيها الإخوة المؤمنون- في هذه الخطبة مع حادثة تروي حكمة الله، وهذه الحادثة ليست أسطورة ولا موضوعة ولا خيالية ولا مبتدعة ولا مؤلفة، بل هي حادثة صادقة في خبرها ووقوعها وأحداثها وفي سندها الذي رواها، حادثة هي من قصص النبوة الصحيحة السند، من وحي النبوة الذي امتدحه ربنا سبحانه وزكّاه فقال: (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى).
أقول هذه المقدمة لكي يطمئن قلبك -أيها المستمع الكريم- لما سيروى لك، وتسعد نفسك للاعتبار لا للتشكيك فيما سيروى لك، وليجتمع عقلك على التدبر فلا يتشتت مستغربًا وقائع تلك الحادثة التي ربما لو قالها أيّ قائل آخر فإنك ستشكك وتستغرب، ولكنك اليوم تستمع إلى وحي النبوة وهو يقص عليك حادثة صحيحة، يربي فيك من خلالها معرفة الله سبحانه، ويريك من خلالها التطبيق العملي لأسماء الله وصفاته، فهذا من منهج نبينا سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، أنه كان يُعرِّف ربَّه سبحانه للعباد من خلال ما يرويه لهم من قصص فيها العبر التي يزدادون بها معرفة وإجلالاً وعبودية لربهم سبحانه، ونحن في هذا الموقف الخطابي إنما نقتدي به -صلى الله عليه وسلم-.
ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "بَيْنَا صَبِىٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ -أي قوية- وَشَارَةٍ -أي هيئة ولباس- حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ، قَالَ: وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا، وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ سَرَقْتِ، وَهِىَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ -أي أقبلت على الرضيع تكلمه-، فَقَالَتْ: حَلْقَى -كلمة تُقال لاستنكار الشيء واستعظامه-؛ مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ سَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا: زَنَيْتِ، وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقْتِ، وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا".
أيها الإخوة: دعونا نتأمل في هذه القطعة المباركة من كلام النبوة، الصدق الذي لا باطل فيه، نتأمل فيها تأملاً نقصد منه التعبد لله، والتفكر في قصص النبوة، والاعتبار من كلام الوحي ووقائع الحياة.
أيها المؤمنون والمؤمنات: هذه الحادثة تَدّلك على القدرة العظيمة لله العظيم -سبحانه وتعالى-.
نعم، إنها قدرة الله العظيمة في إنطاق مَنْ لا يقدر على النطق، وفي إفهام من يعسر عليه الفهم، فمن الذي أنطق هذا الرضيع أصلاً، إنه الله القادر المقتدر على كل شيء، ومن الذي جعله قادرًا على أن يتكلم بكلام مفهوم!! إنه الله القادر العليم سبحانه، ومن الذي أمره بترك الثدي ثم يتكلم ثم يقبل على الثدي مرة أخرى!! إنه الله القادر المدبر سبحانه.
نعم، إن هذا الرضيع الذي لا يقدر على النطق أصلاً إنما تكلم بقدرة الله التي لا يعجزها شيء، فربك سبحانه كما أنطقك -أيها الإنسان المتكلم بلسانك- هو نفسه القدر سبحانه على أن يجعل أعضاءك تتكلم وليس فقط لسانك، قال القادر المقتدر سبحانه: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)، وقال -عظمت قدرته سبحانه-: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا)، فهذه قدرة ربك الذي تؤمن به في إنطاق ما لا ينطق، وفي إنطاق مَنْ لا ينطق، وهذه هي صفاته وأثرها، وهذه هي أسماؤه ومعانيها، وهذه هي المعرفة الحقيقية لربك سبحانه، وهذه هي تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- لنا في معرفة ربنا سبحانه وزيادة إيماننا.
أيها المؤمنون والمؤمنات: هذه الحادثة تعلمنا قيمة الأُمْنِيات الشريفة؛ كل إنسان له أماني في هذه الحياة، وكل واحد منا قد يتمنى أشياءً مستقبلية تقع له أو لغيره، فهذه من طبائع النفس الإنسانية، ولكن هذه الحادثة تعلمنا أن الأمنيات في ديننا قيمة إسلامية، لا بد أن تكون هذه الأمنيات سليمة وصحيحة، ومبنية على واقع، وموافقة للشرع، وفيها تلمس لما يرضي الله، ولما يحبه الله سبحانه، والواقع يشير إلى أن بعض المسلمين قد يذهب بعيدًا فيما يتمناه لنفسه أو لأولاده وأحبابه، حيث تنحصر أمنيات بعضهم في المطالب الدنيوية العالية والمسرفة، وتميل أمنيات بعض الآباء والأمهات لأولادهم عن الشرع ميلاً عظيمًا، حيث يتمنون لأبنائهم أن يكونوا كاللاعب الفلاني أو المطرب أو الممثل العلاني، أو كذلك الطاغية، وهذا المسؤول وصاحب المنصب الظالم، وغيرهم ممن هو غارق في شهواته وفي ملذات الدنيا ومعاصيها دون أن يحسب للآخرة حسابها، فتأتي هذه الحادثة لتصحح لنا قيمة ما نتمناه لأنفسنا أو لأبنائنا، بأن نتمنى لهم أن يكونوا مثل ذلك الصالح أو العالم أو المجاهد أو التاجر الأمين، ومثل تلك العابدة والداعية والحافظة للقرآن والمربية للأجيال والبارة بوالديها والمصلحة لأسرتها، وغيرهم ممن ترجو لهم فلاحًا في آخرتهم.
وتأمل معي جانبًا من أمنيات نبيك الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- حينما قال كما في صحيح مسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ"، وحينما تمنى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن يكون عنده رجال ملء الغرفة التي كان يجلس فيها كلهم رجال من مثل أبي عبيدة -رضي الله عنه-.
أيها المؤمنون والمؤمنات: هذه الحادثة تعرفنا بقدر الناس بميزان الله، نعم، هذه الحادثة تقول لك: إن قدر الناس الحقيقي ومنزلتهم الواقعية التي يستحقونها هي فقط حينما يوضعون في ميزان الله فيوزنون به ويقاسون بالحق الذي فيه، بذلك يُعطَى كل واحد قياسه الحقيقي دون مبالغة ولا تكبير ولا إطراء ولا مجاملة، ففي هذه الحادثة ظهر فيها ذلك الرجل بذلك المقام المادي الدنيوي الظاهري الذي دفع تلك المرأة أن تتمنى أن يجعل الله مستقبل ابنها كمستقبل هذا الرجل، ولكن هذا الرجل بكل ما يمتلكه من مظاهر دنيوية مبهرة ومبهرجة وفاتنة لما وضع بميزان الحق سبحانه فإذا به لا وزن له ولا قدر ولا مكانة، بل هو هباء منثور؛ لأن واقعه أنه مُتجبّر وظالم ودنيوي وخاسر في الآخرة، على عكس المرأة المظلومة في حياتها الدنيا ولكنها فالحة وفائزة في حياتها الأخرى، ولذلك قبل الطفل بحالها كمظلومة ولم يقبل بحال الرجل كظالم متجبر.
ولذلك كم نحن اليوم بحاجة إلى أن نضع الناس في ميزان الشرع قبل أن نحكم عليهم وقبل أن نجعل ظاهرهم هو الحكم على قدرهم ومكانتهم، وموازين كثير من الناس اليوم أصابها خلل عقيم، حيث ترفع مكانة من لا يستحق ذلك شرعًا، ولكن لأجل منصبه أو جماله أو نجوميته أو احترافه أو غير ذلك من الموازين المادية الصرفة، وبالمقابل يخفض قدر من يستحق ذلك شرعًا رغم أنه يخدم دينه وأمته ويقدم ويبذل الكثير، ولذلك حذرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من مثل هذا الانحراف في موازيننا وتقديرنا للأشخاص بعيدًا عن ميزان الله، فجاء في الحديث الصحيح عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: مَرَّ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ- رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ-: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟!"، قَالُوا: رَأْيَكَ فِي هَذَا، نَقُولُ: هَذَا مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُخَطَّبَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ-، وَمَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ-: "مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟!" قَالُوا: نَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ، لَمْ يُنْكَحْ، وَإِنْ شَفَعَ لاَ يُشَفَّعْ، وَإِنْ قَالَ لاَ يُسْمَعْ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ-: "لَهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا".
أيها المؤمنون والمؤمنات: هذه الحادثة تربينا على التسليم لحكمة الله، هذه الحادثة التي يقصها عليها نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- إنما يربينا من خلالها على الاستسلام لأقدار الله وأقضيته، يربينا من خلالها على معرفة اسم الله "الحكيم" وأنه سبحانه يعطي لحكمة ويمنع لحكمة، وأن اختياره سبحانه لبعده أفضل من اختياره لنفسه، يربينا -صلى الله عليه وسلم- أن نفوّض الأمر لله تعالى فيما نرجوه من شأن مستقبلي، فندعوه ونرجوه سبحانه ونطلب منه سبحانه أن يختار ما لنا فيه الخير لنا ولزوجاتنا ولأبنائنا وبناتنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا.
إنه الله سبحانه، له الحكمة البالغة، قد يمنعك ما تحب وله الحكمة البالغة، وقد يعطيك ما تكره وله الحكمة البالغة، هو المعطي والمانع، وفي عطائه ومنعه الحكمة هو الرزاق وفي رزقه الحكمة، فانظر كيف كشف الله على لسان هذا الطفل الرضيع الذي لا ينطق عن حكمته سبحانه في عدم استجابته لدعاء الأم، واستجاب ووقعت استجابته سبحانه وقضاؤه على عكس دعائها تمامًا، وهو ما ألهمه الله للرضيع أن ينطق به، إنه الله ربنا سبحانه كما وصف نفسه فقال -جل ثناؤه-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، فأنت -أيها المسلم- قد ترى موقفًا ما في ظاهر ما تتحير به العقول وتتردد فيه النفوس، فمثلاً ربما ترى شخصًا أعمى وطفلاً لا يبصر، وربما تتساءل عن الحكمة، وقد يتسرب إلى نفسك الشك والحيرة في قضاء الله هذا، ولكن اعلم أن الله لا ينقصه أن يعطي هذا الأعمى عينين، ولكنه الابتلاء في الدنيا، والجزاء العظيم في الآخرة، فاسمع لحكمة الله: عن أبي هريرة يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يقول الله: من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له بثواب دون الجنة". ولك أن تقيس عليه غيره من الأمثال.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
نعم -يا أيها المؤمنون العارفون بالله-، هذه حادثة قصيرة يرويها لنا النبي المعلم -صلى الله عليه وسلم- تنطوي على الكثير من الدروس والعبر والحكم، وقفنا بفضل الله على شيء منها، ونرجوه سبحانه أن يجعل لنا في هدي النبوة كل العبرة والنصح والمعرفة الصادقة بربنا واليقين به سبحانه، وأن نتخذ من منهج نبينا -صلى الله عليه وسلم- سبيلاً إلى التعلم والتعليم وتربية الأجيال.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا يا رب العالمين.
التعليقات