عناصر الخطبة
1/ التربية بالقدوة ضرورة ملحة 2/ وجوب التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- 3/ معيار القدوة ومقياسها 4/ أهمية صناعة القدوات في المجتمع 4/ أثر الفعل أبلغ في النفس من أثر القول 5/ عناية السلف بأدب النفس والاقتداء بالصالحين 6/ أثر موت ستيف جوبز على شبابنا 7/ كارثيات الحادي عشر من سبتمبر 8/ التذكير بنعمة الأمن 9/ خطورة الدعوة للتقريب بين السنة والروافضاهداف الخطبة
اقتباس
صناعة القدوات ليست أمراً سهلاً، إنه التزام بالمنهج، وتطبيق للقواعد، وموافقة القول للعمل، صناعة القدوات فيها كثير من التضحيات والترفع عن العادات، يقول الأوزاعي: "كنا نمزح ونضحك، فلما صرنا يُقتدى بنا خشيت ألا يسعنا التبسم".. وهذه أم الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة يقول عنها مالك: "كانت أمي تعمّمني، وتقول لي: اذهب إلى ربيعة، فتعلم من أدبه قبل علمه"، نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه ومختاره من خلقه وخليله، أشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وكشف الله به الغمة، تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات الله وتسليماته وتبريكاته عليه وعلى أهل بيته.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- يُؤمر ويأمر -عليه وآله الصلاة والسلام-، يُؤمر من مولاه -جل وعلا- أن يقتفي الأثر وأن يسير على الغرز، قص الله -جل وعلا- على نبيه -صلى الله عليه وسلم- قصص الأنبياء السابقين كأنه يراهم -صلوات الله وسلامه عليه-.
موسى في محنته، ونوح في كربته، ويونس في ظلمته، ويوسف في صدقيته، وأيوب في صبره، وإبراهيم في ناره، قص الله -عز وجل- على نبيه القصص، ثم زيَّن ذلك بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90].
أيها المستمع الكريم: إن التربية بالقدوة ضرورة ملحة في نفس كل إنسان، وإن المرء مجبول على الاقتداء والاقتفاء والاحتذاء بمن يعظم في سمعه وبصره ممن يرى من الناس، لذلك قص الله على نبيه القصص، وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90].
أما نحن فرحمنا الله -سبحانه وتعالى- ونصب لنا قدوة وأسوة ماثلة ظاهرة يشاهدها المسلم فيقتفي بأثره وخُلقه بعد أن رباه الله فأحسن تربيته، وبعد أن زكاه فأكمل أدبه، ثم أثنى عليه فقال (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].
أمرنا بعد ذلك أن نتأسى به -صلى الله عليه وسلم- وأمرنا هو -عليه وآله الصلاة والسلام- أن نقتفي أثره، فكان إذا صلى قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، كان إذا حج -عليه وآله الصلاة والسلام- قال: "لتأخذوا عني مناسككم"، وفي تفاصيل الحج يقول -عليه الصلاة والسلام- رافعًا يديه ليراه الناس: "بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو".
لقد تجذرت في نفوس الصحابة التربية بالاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- هم يتابعونه في سمته ودلّه وحركته وسكونه، لقد نقلوا إلينا -رضوان الله عليهم- عدد استغفاراته، وقيامه وقعوده، وصيامه وصلاته، نقلوا لنا سمته وصمته وهديه -صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله عليهم- حتى أصبح التأسي به قاعدة في نفوسهم لا يزيغون عنها.
بل دعني أقول –مجترئًا-: أصبح التأسي بفعله -عليه الصلاة والسلام- في نفوس الأصحاب ربما أبلغ من الاقتداء بقوله.
لما آنست ذلك أمكم أم سلمة من نفوس أصحاب النبي -عليه وآله الصلاة والسلام- أشارت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم امتنع أصحابه عن أن يتحللوا أشارت إليه بأن يحلق رأسه، وأن ينحر ما معه، فما كان منه -عليه الصلاة والسلام- إلا أن فعل، وعندها قطعت جهيزة قول كل خطيب، فقام أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- يمتثلون به ويقتدون.
أيها الأكارم: لم يعظم قدر بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يرتفعوا على أندادهم إلا أن بعضهم كان أشبه صلاة برسول الله، وبعضهم كان أكثر اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يترك موضعًا نزل فيه النبي إلا نزل، ولا موطنًا تبسم فيه النبي إلا تبسم، ذلكم هو عبدالله بن عمر الذي كان أصحاب عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- يرحلون إليه لينظرون سمته وهديه ليتشبهون به، رضوان الله عليهم أجمعين.
أيها الأفاضل: إن القدوة معيار ومقياس، هذا إبراهيم النخعي يقول: "كانوا إذا أتوا إلى الرجل ليأخذوا عنه؛ نظروا إلى سمته، وإلى صلاته وإلى حاله، ثم يأخذون عنه".
وقال: "كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيئًا، سألنا عن مطعمه ومشربه، ومدخله ومخرجه، فإذا كان على استواء أخذنا منه وإلا لم نأته".
وصناعة القدوات ليست أمراً سهلاً، إنه التزام بالمنهج وتطبيق للقواعد، وموافقة القول للعمل، صناعة القدوات فيها كثير من التضحيات والترفع عن العادات، يقول الأوزاعي: "كنا نمزح ونضحك، فلما صرنا يُقتدى بنا خشيت ألا يسعنا التبسم".
لكن مع ذلك في القدوة أثر وأيّ أثر، هذا الأثر أدركته الأمهات بفطرتهن، أم الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة يقول عنها مالك: "كانت أمي تعمّمني، وتقول لي: اذهب إلى ربيعة، فتعلم من أدبه قبل علمه".
نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم، وإذا خالف العملُ القولَ، وإذا خالف العملُ العلمَ؛ فإنه سُبّة على صاحبه معذبًا قبل عباد الوثن..
"كانت أمي تعممني، وتقول لي: اذهب إلى ربيعة، وتعلم من أدبه قبل علمه"، تأمل في أثر تلك الموعظة التي بثتها أمه في نفسه كيف أثرت فيه؟! وكيف أخذ منها مالك فتعلم من ربيعة العلم والأدب؟! وكان من أشد الناس خشية وأكثرهم تعظيمًا للسنة.
جاءه سائل يومًا فقال: "يا أبا عبد الله: الرحمن على العرش استوى؟!" سؤال ربما يمر على أحدنا مرور الكرام، ما أسهل الكلام وما أعظم وقعه على الإمام؟ أطرق مالك علاه العرق، اشتد به الأمر عرفت الكراهة في وجهه سكت مليًّا، ثم رفع رأسه وقال: "يا هذا! الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا مبتدعًا" ، ثم أمر به فأُخرج من مجلس الإمام مالك".
الإمام مالك الذي أخذ من أدب ربيعة، تعلم أن يعظّم السُّنة، وأن يطرق بين يدي حديث رسول الله، وهو يروي حديثه، وألا يقدم بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن يتهندم ويتعطر إذا هو قرأ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذاً لا عجب أن يأخذ عنه تلاميذه بالسند المتصل الأدب والهدي والسمت، حتى قال ابن وهب: "ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه".
ألم تر أني كلما قيل مالك *** تساقط دمعي لؤلؤا متناثرا
إمام به قد كان سفيان يُقتدى *** وكان على آثاره الليث سائرا
تعلم منه الشافعي وأحمد *** وعنه روى النعمان إذ جاء زائرا
فنعم الإمام الأصبحي معلمًا *** ونعم الإمام الأصبحي مناظرا
إن رؤية هؤلاء القدوات لتبعث في النفس من الخشية والذكر والروحانية الشيء الكثير، ألم تسمعوا إلى صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "نافق حنظلة"، وما ذلك إلا أنه يأنس من نفسه شيئًا عند رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعند مجالسته، لا يأنسه من نفسه إذا هو خرج من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
رؤية الصالحين تبعث على الذِكْر، قال أبو إسحاق يصف عمر بن ميمون أنه: "كان إذا دخل المسجد فرئي ذُكِرَ اللهُ تعالى" قال ابن عوانة "رأيت محمد بن سيرين في السوق فما رآه أحد إلا ذكر الله".
أثر القدوة يبقى في النفس ولو بعد حين، الإمام الواعظ ابن الجوزي يقول عن أحد شيوخه: "كنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى، واتصل بكاؤه"، قال: "وكنت يومئذ صغير، فكان بكاؤه يعمل في قلبي، ويبني قواعد الأدب من نفسي".
تعالوا لنفتش عن قواعد الأدب التي عملتها تلك الدموع من ذلك الشيخ في نفس الواعظ ابن الجوزي؛ كان إمام الواعظين، وكانت تسير بمواعظه الركبان، ويتناقلها طلبة العلم على ما فيها من الصدق والإخلاص، والفصاحة والبيان، حتى رُوي عنه هو أنه قال: "تاب على يدي مائة ألف، وأسلم عشرون ألفًا من اليهود والنصارى".
رحم الله ابن الجوزي إذ يقول: "الدليل بالفعل أشد من الدليل بالقول"، أثر الفعل أبلغ في النفس من أثر القول، لذلك كان للسلف عناية بأدب النفس كانوا يترفعون عن كثير من سفاسف الأمور.
عن الحسن بن إسماعيل عن أبيه أنه قال: "كان يجتمع في مجلس أحمد بن حنبل خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت".
أما أبو بكر يعقوب بن يوسف المطوعي فيقول -وقد بلغ حدًّا عجيبًا- يقول: "جلست إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل اثنتي عشرة سنة وهو يقرأ المسند على أولاده، فما كتبت عنه حديثًا واحدًا، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه وآدابه".
لماذا أحدثكم عن القدوات؟ وعن أهمية القدوات في ظرف ربما الحديث فيه عن الفتنة أولى؟!، في ظرف ربما الحديث فيه عن الولاءات أولى؟!، إنني أحدثكم عن القدوات -أيها الإخوة- لأن بلبلة وضجيجًا وصراخًا سمعناه وقرأناه عبر مواقع التواصل الاجتماعي من الشبيبة الذين هم نتاج أكثر من خمسين سنة من ضخّ المؤسسة الدينية في البلد، فماذا أنتج هذا النتاج؟!
ضجيج عظيم لموت رجل له أثر على الإنسانية لا شك، بموت رجل وضع بضمته ولا شك، قدم عملاً صالحًا في أعراف الدنيا ولا شك، إنه ستيف جوبز، أتعرفونه؟ إنه رئيس مجلس إدارة شركة آبل التي أنتجت لنا الأيباد والأيفون، تباكى عليه شبابنا فمن مترحم عليه، ومن داعٍ له، ومن جازم -وهذا أعجب العجب- أنه قد تبوء مقعده في الجنة، وحط رحله هناك؛ لأنه قدم للإنسانية عملاً يستحق به أن يتبوأ مقعده من الجنة، وآخرون تباكوا وأحدهم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وثالث نوى أن يرتحل حتى يشهد جنازته، وشيء كثير من هذا الضجيج الذي قرأناه عبر تويتر وفيسبوك وعبر المنتديات والمواقع!
عجبًا نعم عجبًا لا ينقضي عنده العجب، أليست هذه القضية من المسلَّمات في ديننا؟ ألم يقرأ هؤلاء الشبيبة قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) [البينة:6]، ألم يترامَ إلى مسامعهم على الأقل في رمضان والأئمة يتلون المصحف: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة:113].
ألم يسمعوا مرة في تضاعيف السيرة في سيرة النبي الأسوة والقدوة أنه قال: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي".
ألم يسمع هؤلاء الشبيبة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده –لا يقسم إلا على شيء عظيم- لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كبَّه الله على وجهه في النار".
لست هنا في هذا المنبر لأنتشل سيتف جوبز من مقعده إياه من صكوك الغفران التي وهبوه من مواقع التواصل الاجتماعي لأبوئه مقعدًا في النار، فهذا شطط لا يبعد عن ذلك الشطط؛ لأن تصريف الناس إلى الجنة وإلى النار، إلى السعادة وإلى الشقاوة، ليس هو شأن الخطيب ولا المستمع، ولا شأن أحد من آحاد الناس حتى النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن له هذه الخصيصة.
لكنني أقرر هنا حقيقة لا بد من تقريرها وهذه الحقيقة هي من كارثيات الحادي عشر من سبتمبر الذي لا نزال ندفع ثمنه؛ لأن ثمة قوم رفعوا الراية البيضاء، ودعوا إلى التقريب بينما لا يمكن التقريب أبدًا (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [البقرة: 62]، قالوا: إن هذه الآية تدل على أن المشترط هو فقط الإيمان بالله -تعالى-، فالبوذي مؤمن بالله، النصراني مؤمن بالله، إذًا نحن إخوة في الإنسانية نتراحم فيما بيننا، نتزاور فيما بيننا، نتعاون فيما بيننا..، وهذا خلطٌ للحق بالباطل، وتلبيس للأمر على السطحيين والعوام.
لا، فهناك فيصل وفارق وعقيدة عظيمة بنى الإسلام أُسّها وأرسى قواعدها هي عقيدة الحب في الله والبغض في الله، والولاء والبراء الذي هو أوثق عرى الإيمان.
إذًا تصريف الناس إلى الجنة وإلى النار ليس من شأني، لكن من شأني هنا من هذا المنبر أن من مات كافرًا فإنه تجري عليه أحكام الكفر، لا يُستغفر له ولا يُصلى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُعزى فيه بل هو مستراح منه.
كم هي نكسة أن يكون هذا هو إفراز التعليم الديني عندنا، أن يكون هذا هو النتاج بعد الضخ الطويل من كتب التوحيد والفقه، والخطب والمحاضرات، والأشرطة المسموعة والقنوات الفضائية المرئية، ثم نخطئ في قضية هي من بدائيات القضايا.
ذكرت لكم أن هذا من كارثيات الحادي عشر من سبتمبر؛ لأننا كذلك سمعنا من ينعي علينا الدعاء على الكفار بدعوى النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدعُ عليهم، وإنما قال: "اللهم اهدي دوسًا وأت بهم"، النبي دعا لدوس، ولكنه دعا على الكفار، ودعا على المحاربين منهم على وجه الأخص، بل سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم رجالاً فأخذ يدعو عليهم بأسمائهم.
أين هذا الحنان وأين هذه الرأفة والحب والتماهي في التسامح وهم يرون أطفالنا الذين يُقتلون بأيدي الغدر هنا وهناك، فأيّ الفريقين أحق بالرحمة إن كنتم تعلمون؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إنعامه والشكر له على تفضله وامتنانه، ولا إله إلا الله تعظيما لشأنه، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه محمد وعلى آله وصحابته وإخوانه.
أما بعد: أعتقد أنه بات من مكرور القول أن نتحدث عن نعمة الأمن، وعن هذا المقدار العظيم الذي دعا به أولياء الله وأنبياؤه: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) [إبراهيم: 35]، (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [القصص: 57].
إذاً مقدر الأمن مقدر عظيم ينبغي الحفاظ عليه، وهو من مقاصد الشريعة الكبرى والمهمة التي جاءت الشرائع على ألسنة الأنبياء بالحفاظ عليه.
أعود بكم إلى الوراء قليلاً لأذكركم بما قلته في الخطبة الأولى آنفًا أن من الناس أناسًا يريدون أن يجمعوا بين ما لا يمكن الجمع بينهم، ويريدون أن يقربوا بين ما لا يمكن التقريب بينهم، على سبيل المثال من الناس من يختصر 14 قرنًا من الزمان بكلمة واحدة فيقول: ما هذا الخلاف بين السنة والشيعة؟! هلا اجتمعوا في مؤتمر فأزاحوا هذه السُّحب بينهم!! كأن الخلاف هنا خلاف بسيط بين مذهب مالك والشافعي أو مذهب أحمد وأبي حنيفة، لا!!
ذكرت لكم سابقًا أن من يراد التقريب بيننا وبنيهم بدعوى أن بيننا وبينهم برزخًا وحجرًا محجورًا إنما بيننا وبينهم كما بين المشرق والمغرب، إذا كان الأصل الثابت عندنا الذي لا نزاع فيه هو القرآن فإنهم يقرءونه بغير ما نقرأه، إنهم يقولون في قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً) [البقرة: 67]، قالوا: المقصود عائشة، إنهم يقولون في الجبت والطاغوت الذي أُمرنا بالكفر به أن الجبت أبو بكر والطاغوت عمر.
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ) [الرحمن: 19- 20] إلى أن قال: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) مرج البحرين قالوا: عليّ وفاطمة، اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين!!
يا قوم تقرءونه بالعربية أم العبرية؟! أم بأي لغة تقرءونه؟! إذًا كيف أتفق أنا مع مَن يفسّر القرآن على هواه. وإذا كانت السُّنة عندنا أصلاً ثانيًا -معاشر أهل السنة- فكيف يتفق مع من لا يعترف بالبخاري ولا مسلم ولا النسائي ولا بأبي داوود، ولا بمستدرك الحاكم ولا بالتصانيف ولا بالصحاح ولا بالمسانيد؟! فعلى أي طاولة نلتقي مع هؤلاء؟!
كيف أتفق مع من يخوّن الأمين جبريل الذي وصفه الله بالأمانة، ووصف أن مبغضيه هم اليهود، لم يرد أن أحدًا يبغض جبريل إلا اليهود، كيف أتفق مع مَن يزعم بأولوية عليّ على حتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، أعني غلاة الرافضة كيف أتفق مع هؤلاء؟!
إذاً دعوى التقريب المزعومة دعوى فيها كثير من الخلط، ولذلك رأينا إفرازات هذا الخلط حين تبرأ فئام منهم -وأنا هنا لا أعمّم-؛ لأن في الشيعة عقلاء، كما أن في السنة عقلاء، وفي الشيعة نزغ وغلو وتطرف، كما أن فئامًا من السنة عندهم نزغ وغلو وتطرف، هؤلاء المتطرفون نزعوا الولاءات لحكام هذا البلد، ورفعوا ولاءات حكام بلد أخر مناوئ لها، إنهم أخرجوا من عباءاتهم التي كانوا يزعمون أنها سلمية سليمة أخرجوا أسلحة وقنابل فانقلبت الموازين، وبات مقدر الأمن يتزعزع.
إنهم يريدون أن يعقدوا همزة وصل بين قُطر آخر يغلي على نار هادئة، وبين شرق قطرنا هذا، ولكن لا وألف لا، وإنه لدرس عظيم يعيدنا كرة أخرى لنقرأ عن مفاهيم القوم.
هذا هو الوقت الذي نقرأ فيه كتاب "وجاء دور المجوس"، هذا هو الوقت الأصلح لنقرأ كتاب "منهاج السنة" للإمام ابن تيمية، هذا هو الوقت الصحيح الذي نقرأ فيه السنة والشيعة، السنة والتشيع، السنة وآل البيت للإمام العظيم إحسان إلهي ظهير رحمه الله.
وإذا قرأتم سيتبين لكم كثير مما سكت عنه الخطيب ..
اللهم إنا نسألك وندعوك ونرجوك، ونسألك ونتوجه إليك وأنت الله لا إله إلا أنت، أنت ملاذنا ومتوجهنا، وعليك توكلنا، اللهم فوّضنا الأمر إليك، فأصلح أحوالنا واغفر ذنوبنا ..
التعليقات