عناصر الخطبة
1/ رمضان فرصة عظيمة للتوبة 2/ فضائل التوبة 3/ الحث على اغتنام رمضان في التوبة وتصحيح المسار 4/ خاب وخسر من حرم المغفرة في رمضان.اهداف الخطبة
اقتباس
أيُّها التَّائِبُونَ الأبرَارُ: إنَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ قَد فُتِحتْ لَكُم أَلا تُحبُّونَ أنْ يَغفِرَ اللهُ لَكُم واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؟ فَلِمَاذا هَذا الجَفَاءُ لِمنْ يُقابِلُكُم بِالإحسَانِ؟ ولِمَاذَا هَذا الإِعرَاضُ لِمَنْ يُقابِلُكُمْ بِالغُفْرَانِ؟ فَاترُكْ عَنْكَ الأَمَانِي الكَاذِبَةِ وأَخْلِصْ إلى رَبِّك بِتَوبَةٍ صَادِقَةٍ؛ فَرَمَضَانُ كَالغُرَّةِ المُحَجَّلَةِ مِن بينِ الشُّهُورِ! فَوا أسَفَاً عليَّ وَعَلَيكَ إنْ خَرَجَ رَمَضَانُ وَلَمْ يُغَيِّرْ حَالَنا! وَلَمْ تُرْفَعْ تَوبَتُنا إلى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ وَسِعَتْ رَحمتُهُ ذُنُوبَ المُسرِفِينَ، يُحبُّ التَّوابِينَ، وَيغفِرُ لِلمُخْطِئينَ المُستَغفِرِينَ، عَظُمَ حِلمُهُ فَسَتَرَ، وَبَسطَ يَدَهُ بِالعَطَاءِ فَأَكثَرَ، لا تُحجَبُ عَنه دَعوَةٌ، ولا تَخِيبُ لَدَيهِ مَسْألَةٌ، ولا يَضِلُّ عِندَه مَسعَى.
ونَشهدُ أن لا إله إلا اللهَ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ تَفَضَّلَ بِالنِّعَمِ، وَرَضِي مِنْ عِبادِهِ بِالشُّكرِ، وَغَفَرَ بِالنَّدَمِ كَبِيرَ الزَّلَلِ، وَمَحَا بِتَوبةِ سَاعَةٍ خَطَايا عُمُرٍ، ونَشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنا مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَرسَلَهُ اللهُ إِلَينَا هُدَىً وَرَحْمَةً وَأمْنَاً وَأَمَانَاً، صلـَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليه وعلى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ، وَأَصحَابِهِ الغُرِّ المَيَامِينِ، والتَّابِعينَ لَهُم وَمَنْ تَبِعَهم بِإحسَانٍ وإيمانٍ إلى يَومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
يا كثيرَ العفوِ عمَّن *** كَثُرَ الذَّنبُّ لَدَيهِ
جاءَك الْمُذنِبُ يَرجو *** الصَّفحَ عن جُرمٍ لَدَيهِ
أَنَا ضَيْفٌ وَجَزَاءُ *** الضَيفِ إِحسَانٌ إِليهِ
أيُّها الصَّائِمونَ: مَضى ثُلُثُ رَمَضَانَ والثُّلُثُ كَثيرٌ! واللهُ -تَعالى- يُريدُ مِنَّا أنَّ نُحَقِّقَ التَّقوى لَهُ، اللهُ -تَعالى- يُريدُ مِنَّا أنَّ نَتُوبَ إليهِ فَهل حَقَّقنا ذالِكَ وَسَعينا إليهِ؟! نَحنُ في شَهْرِ التَّوبَةِ والأوبَةِ إن لَم نُحقِّقها الآنَ فَمتى تَكونُ إذاً؟ حَقَّا: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ" (رواه البخاريُّ).
عِبَادَ اللهِ: وَهلْ يُؤذي الإِنْسَانُ رَبَّهُ؟ نَعَمْ، وذَالِكَ بِارتِكَابِ المَنْهِيَّاتِ، وَتَرْكِ الواجِباتِ! تَأمَّلوا قَولَ اللهِ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) [الأحزاب: 57].
قَالَ ابنُ جَرِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "أَيْ: يُؤذُونَ رَبَّهُم بِمَعصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَرُكُوبِهم مَا حَرَّمَ عَليهم".
فَمَا نَفْعَلُهُ يا مُسلِمُونَ: مِنْ المَعَاصِي أَذِيَّةٌ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، قالَ اللهُ في الحدِيثِ القُدْسِيِّ: "يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ".
ومَعَ ذَلِكَ اللهُ -تَعالى- يَصْبِرُ عَلَينَا. بَلْ ويُحسِنُ إِلينَا بِالصِّحَةِ فِي أَبْدَانِنَا، والأمْنِ في أوطَانِنَا، والرَّخَاءِ في أرزَاقِنا! فَو اللهِ يَا صَائِمونَ لَيسَ بَعدَ ذَالِكَ إلَّا التَّوبَةُ الصَّادِقَةُ النَّصُوحُ.
أيُّها الصَّائِمونَ: التَّوبةُ خُضُوعٌ وانكسَارٌ، وَتَذلُّلٌ واستِغفَارٌ، وافتِقَارٌ واعتِذارٌ، وابتِعادٌ عن دَواعِي المَعصيةِ ونَوازِعِ الشرِّ وَمَجالِسِ الفِتنةِ وسُبُلِ الفَسَادِ.
التَّوبةُ يا صَّائِمونَ: صَفَاءٌ وَنَقَاءٌ وَخشيَةٌ وَبُكَاءٌ وَتَضَرُّعٌ وَدُعَاءٌ وخَوفٌ وَحَيَاءٌ. (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ) [التوبة: 74]. (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
التَّوبةُ بَابُها مَفتُوحٌ وخَيرُها مَمنُوحٌ مَا لَمْ تُغرغِرُ الرُّوحَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ : "لو أَخطَأتُم حَتى تَبْلُغَ خَطَايَاكُم السَّمَاءَ ثُمَّ تُبتُم لَتَابَ اللهُ عَليكُم" (أخرجه ابن ماجه).
وقَالَ رَسُولُ اللهِ: "قَالَ اللهُ -تَعالى-: "يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ".
عبادَ اللهِ: تَأمَّلوا هذا التَّوَدُّدَ العظِيمَ، مِن الودُودِ الرَّءوفِ الحَلِيمِ: "يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِى أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً لاَ يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً".
فَيا لَهُ مِن فَضْلٍ عَظِيمٍ، وَعَطَاءٍ جَسِيمٍ مِنْ رَبٍّ كَريمٍ وَخَالِقٍ رَحِيمٍ، أَكرَمَنا بِعفْوِهِ، وَغشَّانَا بحِلمِهِ وَمَغْفِرتِهِ، وَجَلَّلنَا بِسِترِهِ، وَفَتَحَ لَنَا بَابَ تَوبَتِهِ. يَعفُو وَيصفَحُ، وَيَتَلطَّفُ وَيسمَحُ، وَبِتَوبةِ عَبدِهِ يَفْرَحْ: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ) [غافر: 3]، (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ) [الشورى: 25]، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) [الرعد: 6]، (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110]، "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا".
فَأكثِرُوا عِبَادَ اللهِ: مِن التَّوبةِ والاستِغفَارِ بألسِنَتِكُم، وقُلُوبِكُم، وَجَوَارِحِكُم. فَقد كَانَ رَسُولُ اللهِ يُكثِرُ مِنْها في كُلِّ وَقْتٍ وَحينٍ، يَقُولُ أبو هُريرةَ -رَضِي اللهُ عنه-: "مَا رَأيتُ أَكثرَ استِغْفَارًا مِنْ رَسُولِ اللهِ". وَنَبِيُّنا يُحَدِّثُ عن نَفْسِهِ فَيَقُولُ: "وَاللَّهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً".
عبادَ اللهِ: رُكنُ التَّوبةِ الأَعظَمُ وَشَرطُها المُقدَّمُ هُو الإقلاعُ عن المَعصِيَةِ، والعَزْمُ على عَدَمِ العَودَةِ، ولا تَوبَةَ إلاَّ بِفعلِ المَأمُورِ واجتِنَابِ المَحظُورِ والتَّخَلُّصِ مِنْ المَظَالِمِ وإِبرَاءِ الذِّمَّةِ مِن حُقوقِ الآخَرِينَ. وَمَنْ شَاءَ لِنَفسِهِ الخَيرَ فَلْيزَمْ بَابَ التَّوبَةِ وَطَريقَ الإِيمَانِ، وَلْيَتَخَلَّصْ مِنْ كُلِّ غَدْرَةٍ، وَليُقلِع عَنْ كُلِّ فَجْرَةٍ، يا مَنْ عَدَى، ثُمَّ اعتَدَى، ثُمَّ اقترَفْ ثُمَّ ارْعَوَى! ثُمًّ انتَهى، ثُمَّ اعتَرَفْ! أبْشِر بِقَولِ اللهِ فِي آيَاتِهِ: (إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال: 38]، (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].
فَاتَّقُوا اللهَ يا صَائِمُونَ: وَتُوبُوا إلى رَبِّكم تَوبَةً نًصُوحَاً فَإنَّ اللهَ -تَعالى- يَقُولُ: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)[التحريم: 8].
قَالَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "والنُّصحُ فِي التَّوبَةِ يَتَضَمَّنُ ثَلاثَةَ أُمُورٍ: الأَوَّلُ: تَعْمِيمُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ بِحيثُ لا يَدَعُ ذَنْبَّاً إلاَّ تَنَاوَلَتْهُ. الثَّانِي: إِجْمَاعُ العَزْمِ والصِّدقِ بِحيثُ لا يَبْقَى تَرَدُّدٌ ولا تَلَوُّمٌ ولا انْتِظَارٌ. الثَّالثُ: تَخلِيصُ التَّوبَةِ مِن الشَّوَائِبِ والعِلَلِ القَادِحَةِ، فِي إِخْلاصِهَا بل تَكُونُ التَّوبَةُ خَوْفَاً وَخَشْيَةً لِلهِ -تَعالى-، وَرَغْبَةً فِيمَا لَدَيهِ، وَرَهْبَةً مِمَّا عِندَهُ، لا كَمَنْ يَتُوبُ لِحِفْظِ جَاهِهِ وَمَنْصِبِهِ وَرِيَاسَتِهِ، أو لأَجْلِ حَمْدِ النَّاسِ".
فاللهمَّ كَما وَفَّقتَنا لإدْرَاكِ رَمَضَانَ فَوفَّقنا لِلتَّوبَةِ الصَّادِقَةِ النَّصُوحِ، تَوبَةً تَمْحُوا بِها الأَوزَارَ، وَنَرْقَي بِها مَنَازلَ الأَبَرَارِ، يَا عَزِيزُ يَا غَفَّارُ.
أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ الذي لا تَخفَى عليه خَافِيةٌ، استوَى فِي عِلمِهِ السِّرُّ والعَلانِيةُ، نَشهَدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، المطَّلعِ على أسرارِ القلوبِ، فالمُؤمِنُ يَقُولُ: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، والظَّالِمُ يقولُ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، نَشهَدُ أنَّ نَبِيَّنا وَسَيِّدَنا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ بَعَثَهُ اللهُ رَحمَةً لِلعَالِمِينَ، وَحُجَّةً على الخَلقِ أجمعينَ، اللَّهمّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأتباعِهِ بِإحسانٍ وإيمَانٍ إلى يومِ يَتَحَسَّرُ فيهِ كُلِّ مُقَصِّرٍ وَيَقُولُ: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة: 29].
أمَّا بعدُ: أَيُّها النَّاسُ اتَّقوا اللهَ -تَعالى-، واشكُرُوه على مَا أَنَعَمَ بِه عَلينا مِن مَوَاسِمِ الخَيرِ والبَرَكَاتِ، وَمَا حَبَانَا بِهِ مِنْ الفَضْلِ والكَرَامةِ، ولْنَعرِفْ قَدْرَ هَذِهِ المَواسِمِ بِعِمَارَتِها بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الآثامِ والمُحَرَّمَاتِ.
ومِمَّا قَالَهُ الشَّيخُ الجَليلُ ابنُ العُثَيمِينُ -رَحِمَهُ اللهُ-: "عِبَادَ اللهِ: اغتَنِمُوا شَهرَ رَمَضَانَ بِكَثرَةِ العِبَادَةِ والصَّلاةِ والقِرَاءَةِ والإِحسَانِ على الخَلْقِ بِالمَالِ والبَدَنِ والعَفوِ عَنْهُم، واستَكثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ اثْنَتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، واثْنَتَانِ لا غِنَى لَكُم عَنهُما، فَأَمَّا الَّلتَانَ تُرضُونَ بِهِمَا رَبَّكُم، فَشَهَادَةُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ والاستِغْفَارُ، وأَمَّا الَّلتَانِ لا غِنَى لَكُم عَنْهُما، فَتَسأَلُونَ اللهَ الجَنَّةَ، وَتَستَعِيذُونَ بِهِ مِن النَّارِ". انتهى كلامُه -رَحِمَهُ اللهُ-.
أيُّها التَّائِبُونَ الأبرَارُ: إنَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ قَد فُتِحتْ لَكُم أَلا تُحبُّونَ أنْ يَغفِرَ اللهُ لَكُم واللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؟ فَلِمَاذا هَذا الجَفَاءُ لِمنْ يُقابِلُكُم بِالإحسَانِ؟ ولِمَاذَا هَذا الإِعرَاضُ لِمَنْ يُقابِلُكُمْ بِالغُفْرَانِ؟ فَاترُكْ عَنْكَ الأَمَانِي الكَاذِبَةِ وأَخْلِصْ إلى رَبِّك بِتَوبَةٍ صَادِقَةٍ؛ فَرَمَضَانُ كَالغُرَّةِ المُحَجَّلَةِ مِن بينِ الشُّهُورِ! فَوا أسَفَاً عليَّ وَعَلَيكَ إنْ خَرَجَ رَمَضَانُ وَلَمْ يُغَيِّرْ حَالَنا! وَلَمْ تُرْفَعْ تَوبَتُنا إلى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50].
أيُّها الصَّائِمُ الَّلبِيبُ: إنْ كُنتَ مِمَّن ابتُلِيَ بِأَكْلِ الرِّبَا وأَخْذِ الرَّشَاوِي فَاكْتَفِ بِالحَلالِ عن الحَرامِ فَإِنَّهُ خَيرٌ لَكَ وأَبْرأ وأَمْرَأ، فَنَقِّ مَالَكَ وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلالاً! (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [الشورى: 19].
إِنْ كُنْتَ مِمَّن ابتُلِيَ بِالخَمْرِ والمُخَدِّرِ فَاعْلَمِ أنَّ عَشَرَةَ مَلعُونِينَ فِيها، فَاهْجُرْهَا وَفَارِقْ أهلَها، إِنْ كُنتَ مِنْ المُتَهَاوِنِينَ فِي الصَّلاةِ فَعَاهِدْ رَبَّكَ وَرَبِّ نَفْسَكَ على المَسَاجِدِ فَذَالِكُمُ الرِّبَاطُ. إن كُنتَ مِمَّن أطْلَقَ لِنَفْسِهِ العَنانَ يَنظُرُ مَا شَاءَ ويَستَمِعُ مَا يَشَاءُ ويُقَلِّبُ مِن الأجْهِزَةِ والقَنَواتِ ما شَاءَ فاتَّقِ اللهَ في أعضَائِكَ فَعنها سَوفَ تُسألُ وَتُحَاسَبُ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون: 115]، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36].
حَاشَاكَ أنْ تَكُونَ مِمَّن عَقَّ وَالِدَيْهِ أو هَجَرَ أَقَارِبَهُ! فَرَمَضَانُ فُرصَةٌ لِتَّوَدُّدِ والمَحَبَّةِ والصَّفاءِ.
فَيأيُّها الصَّائِمُونَ: هَذهِ التَّوبَةُ قَد شُرِعَتْ أَبوابُها وَحَلَّ زَمَانُهَا وآنَ أَوَانُها، فَهُبُّوا قَبْلَ فَواتِ الأوانِ، وحَاذِروا غَوَائِلَ الشَّيطَانِ، وَبَصِّروا أَنفُسَكُم بِفَواجِعِ الدُّنيا وَتَقَلُّبِ الَّليَالِ والأَيامِ، كَمْ كُنتَ تَعرِفُ مِمَّن صَامَ فِي سَلَفٍ مِنْ بَينَ أَهْلٍ وَجِيـرَانٍ وإِخوَانِ أَفْنَـاهُمُ المَوتُ واستَبْقَاكَ بَعْدَهُمُـو حَيَّاً فَمَا أَقْرَبَ القَاصِي مِنْ الدَّانِي.
أيها المُسلِمُ: أَحْدِث لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوبَةً وَلَو تَكَرَّرَتِ المَعَاصِي فأنتَ تَتَعامَلُ مَعَ ربٍّ كَريمٍ رَحيمٍ! قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عنه-: سَمِعْتُ النَّبِيَّ قَالَ: "إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ، فَاغْفِرْ لِي فَقَالَ: رَبُّهُ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، فَقَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْ لِي. فَقَالَ أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي. ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، قَالَ رَبِّ أَذْنَبْتُ آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي. فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ". (متفق عليه).
اللهُ أكبرُ: ما أكرمَكَ يا اللهُ ما أحلَمكَ على مَنْ عَصَاكَ. فالحمدُ للهِ الذي هَدَانَا لِلإسلامِ، وَجَعَلنا مِنْ خَيرِ الأنامِ! أيُّها المُؤمِنُ استَمع بِقلبِكَ إلى هذا الفتحِ المُبينِ من الرِّبِّ الرَّحمَانِ الرَّحيمِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : "مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَلِكَ الذَّنْبِ، إِلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ" ثُمَّ تَلَا: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران: 135]. وَقَولَهُ: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110].
قَدِّم لِنَفْسِكَ تَوبـَةً مَرْجُوَّةً قَبْلَ المَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الأَلسُنِ. بَادِر بِها غَلقَ النُّفُوسِ فَإِنَّهَا ذُخْرٌ وغُنْـٌم لِلمُنِيـبِ المُحسِنِ . صَعَدَ النَّبِيُّ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: "آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، فَلَمْ يَبَرَّهُمَا، فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، وَمَنْ ذُكِرْتَ عَنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَمَاتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ".
اللهم ارْزُقنا الإنَابَةَ إليكَ، والتَّوبَةَ مِن مَعَاصِيكَ، اللهمَّ تُبْ على التَّائِبِينَ، واغْفِر ذُنُوبَ المُذنِبِينِ، وارْحَمْ مَنْ جَاءوكَ مُعتَرِفِينَ مُنْكَسِرِينَ يَا أَكْرَمَ الأَكرَمِينَ، اللهمَّ أَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَقِنَا شُرورَ أنفُسَنَا، اللهمَّ إنَّا نَسأَلُكَ بِعزِّك وذُلِّنا إلاَّ رَحْمَتَنا، نَسأَلُكَ بِقُوتِكَ وَضَعْفِنا إلاَّ غَفَرْتَ لنا.
اللهم اغفر زلَّاتِنا ، وأمِّن روعاتِنا، واستر عوراتِنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائِلنا ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نُغتالَ من تحتنا، اللهم تقبَّلنا في التَّائِبينَ، اللهم جازِنا بالإحسانِ إحسانا، وبالإساءة عفوًا وغفرانا (ربَّنا آتنا في الدنيا حَسَنَةً وفي الآخرة حَسَنَةً وقِنَا عذابَ النَّارِ)، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
التعليقات