عناصر الخطبة
1/ من معاني الإنصاف 2/ المنهج القويم في الإنصاف 3/ من أنواع الإنصافاهداف الخطبة
اقتباس
والقدوة العملية فيه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، وسلف الأمة من العلماء الصادقين الناصحين؛ فالفرق بيِّن بيْن الإنصاف البشري الفلسفي والإنصاف في الشريعة؛ فالإنصاف في الشريعة الإسلامية قيمة مطلقة ليست ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن مما ينبغي أن يحرص عليه المسلم وأن يتحراه شديدا خلق الإنصاف بحيث يكون الإنصاف مبدأ له في حياته.
الإنصاف خلق جليل يعني معاني عديدة في مقدماتها العدل والإحسان، يقول الله جل وعلا (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]
قال سفيان بن عيينة: "سئل علي -رضي الله عنه- عن قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) فقال: "العدل الإنصاف، والإحسان التفضل".
والإنصاف في هذه المعاني يخالف التعصب والظلم والاعتداء، والإنصاف يعني الاتباع الشرعي لا اتباع الهوى، والإنصاف يعني العلم لا الجهل، ويعني الوسط لا الغلو والتطرف.
معاشر المسلمين: قد يدعي الكثيرون الإنصاف؛ سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، لكن الدعاوى الإنسانية لا تخلو من حيف؛ فأذواق وأعراف وعادات الناس تختلف وتتباين وكلٌ يدعي الإنصاف.
أما المسلم فإنه رباني المرجع، ولذلك نقول: إن المنهج القويم في الإنصاف هو كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم- كما قال -عليه الصلاة والسلام- في المشكاة من حديث مالك: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله" صلى الله عليه وسلم.
والقدوة العملية فيه هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من بعده، وسلف الأمة من العلماء الصادقين الناصحين؛ فالفرق بيِّن بيْن الإنصاف البشري الفلسفي والإنصاف في الشريعة؛ فالإنصاف في الشريعة الإسلامية قيمة مطلقة ليست نسبية تخضع للآراء، ووجهات النظر المختلفة والمتفاوتة كما هو الحال في مناهج البشر وقوانينهم.
الإنصاف كلٌ لا يتجزأ؛ إما إنصاف أو حيف، إما رجل منصف أو رجل جائر، ولا يمكن أن يوصف المرء بأنه منصف جائر في نفس واحدة. يقول -سبحانه-: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [النحل:76].
الإنصاف أنواع منها: أن ينصف الإنسان نفسه من نفسه، يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "إنصاف المرء نفسه من نفسه بألا يدعي لها ما ليس لها، ولا يخبثها بتدنيسه لها وتصغيره إياها وتحقيرها بمعاصي الله -سبحانه وتعالى-، بل ينميها ويكبرها ويرفعها بطاعة الله وتوحيده وحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه وإيثار مرضاته على مراضي الخلق ومحاباتهم .." ثم يقول: "وكيف ينصف غيره من لم ينصف نفسه؟".
ولقد قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) [التحريم: 6] فوقاية النفس من النار هو أعظم إنصاف لها، وإيقاعها في النار هو أعظم ظلم وبخس لحقها.
ومن إنصاف النفس رفع الجهل عنها؛ بالسعي باكتساب العلم قدر المستطاع سواء كان العلم الشرعي أو العلم الطبيعي من معارف الحياة ولقد قال -سبحانه-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11]
في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم- "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ.." الحديث.
ومن إنصاف النفس الاعتناء بالجسد تغذية، وعدم إتلافه بأي سبب من أسباب الإتلاف.
ومن الإنصاف إنصاف الله -سبحانه وتعالى-، ويكون ذلك بعبادته وتوحيده وعدم الإشراك به، وطاعته والابتعاد عن معاصيه، وتنزيهه -سبحانه- عما ما لا يليق به.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "طوبى لمن أنصف ربّه فأقر له -أي لنفسه- بالجهل في علمه, والآفات في عمله, والعيوب في نفسه, والتفريط في حقه, والظلم في معاملته. فإن آخذه بذنوبه رأى عدله, وإن لم يؤاخذه بها رأى فضله. وإن عمل حسنة رآها من منّته وصدقته عليه, فإن قبلها فمنّة وصدقة ثانية, وإن ردّها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به. وإن عمل سيّئة رآها من تخلّيه عنه, وخذلانه له, وإمساك عصمته عنه, وذلك عدله فيه, فيرى في ذلك فقره إلى ربّه, وظلمه في نفسه, فإن غفرها له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه. ونكتة المسألة وسرّها أنّه لا يرى ربّه إلا محسنا، ولا يرى نفسه إلا مسيئا أو مفرطا أو مقصّرا؛ فيرى كل ما يسرّه من فضل ربّه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسوؤه من ذنوبه وعدل الله فيه".
هذه الأحوال للعبد أحوال قلبية يعظم فيها ربه -جل وعلا-، وينظر إلى أحواله بمقتضى أسماء ربه وصفاته.
هذه هي أصل في علاقة العبد بربه؛ ففيها حقيقة الإخبات العبودية والتعظيم والتوقير للخالق -سبحانه-؛ فالله تعالى حكم عدل لا يظلم مثقال ذرة، والعبد ظالم لنفسه مقصر في حق ربه.
عباد الله: من الإنصاف إنصاف النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك يكون بالإيمان برسالته، ونصرة شريعته، وإتباع سنته، وتقديم محبته على محبة غيره، وتوقيره وتبجيله، والإقرار بفضله علينا بعد الله -تعالى- في دلالاته إيانا طريق الهدى والنجاة صلى الله عليه وسلم.
ومن الإنصاف إنصاف الصحابة الكرام الذين استقوا العلم النبوي، وورثوه لأهل السنة والجماعة. وأهل السنة والجماعة -في الجملة- ينصفون الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم-؛ فلا ينتقصون من قدر أحد منهم، ولا يكفرون أحدا منهم.. لا يغالون فيهم فينسبون لهم ما ليس لهم؛ كالعصمة، أو علم الغيب، أو غير ذلك، ويرجعون ما وقع بينهم من خلاف وقتال إلى الله -سبحانه وتعالى-، ويعصمون ألسنتهم من الخوض فيه، وهم خير القرون وخير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين بشهادة الله في قوله -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100]
وفي قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث عن ابن مسعود في صحيح البخاري "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
وكل الصحابة -رضوان الله عليهم- عدول ثقات؛ بل أثبت أهل العلم أنه ما وجد أحد من الصحابة كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن منهم من أهل البدع؛ كالقدارية والخوارج وغيرهم.
كيف لا وهم الذين رضي الله عنهم في القرآن الكريم وأرضاهم، واختارهم لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم- (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح:29].
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فإن الإنصاف يشعر الفرد والأسرة والمجتمع بالأمان وبالرضا والقناعة؛ إذ لا أضر على الناس في حياتهم ومعاشهم وشؤونهم كلها من الظلم والجور.
من الإنصاف -أيها الأخوة- التؤدة في الحكم على الأشخاص.
ومن ذلك عدم المسارعة في تعظيم الأعيان؛ كالمبالغة في تعظيم شأن بعض الدعاة أو طلبة العلم؛ فما أن يشتهر أحدهم إلا رفعوه في أعلى السماء، العلامة، وحيد عصره، المحدث، وألقاب أخرى.. يريدون قطع ظهره في مهده. في الصحيحين عن أبي موسى قال: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا يثني على رجل ويطريه في المدح يبالغ قال: "لَقَدْ أَهْلَكْتُمْ، أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ".
نعم يقدر طلبة العلم الصاعدين.. نعم يحترمون.. نعم يدعى لهم بالخير.. نعم يحرص على علمهم، لكن أن ينسف بكلامهم كلام كبار أهل العلم في هذا الزمان، هذا من عدم الإنصاف؛ فالاندفاع التي تقف وراءه العاطفة الجياشة ليس من علامة الإنصاف في حياة المسلم، ولذلك صح في الترمذي من حديث أبي هريرة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما".
نحن مجتمع عاطفي جدا وفينا سمة الاستعجال ولذلك وعظنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتحلي بالتؤدة كما في صحيح الترغيب من حديث سعد بن أبي وقاص قال: "التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة".
وفي صحيح الجامع من حديث أنس قال -صلى الله عليه وسلم-: "التأني من الله والعجلة من الشيطان".
معاشر الأخوة: نحن في حاجة إلى مراجعة الإنصاف في حياتنا مع أنفسنا وأهلينا؛ فلعل الله -تعالى- أن ييسر مقاما آخر للإكمال.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين..
التعليقات