عناصر الخطبة
1/جبل الرماة في أحد وتوجيه النبي بعض جيشه للمرابطة عليه 2/موقف المنتدبين لجبل الرماة وأثر ذلك على سير المعركة 3/ثغور الإسلام كثيرة ومتنوعة 4/على كل مسلم حماية الثغر الذي عليه حتى لا يؤتى الإسلام من قبله 5/مؤهلات حماة الثغور وصفاتهم.اقتباس
ثُغُورُ الأُمَةِ كَثِيْرَةٌ، فَطُوبَى لِمَنْ قَامَ عَلَيْها وحَماها، طَوبَى لِمَنْ اسْتَعْصَى على العَدُوِّ اخْتِراقُهُ، طُوبَى لِمَنْ حَمَى ثَغْرَهُ بِحَقٍّ، فَما يَنْفُذُ مِنْ خِلالِهِ إِلى الأُمَةِ سُوءٌ، ولا يَلِجُ مِنْهُ إِلى الأُمَةِ مُنْكَر...
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)،
أَيُّها المُسْلِمُون: حُصُونٌ مُحْكَمَةٌ وقِلاعٌ مَنِيْعَةٌ، يَنْهَزِمُ قَاصِدُها ويُقْهَرُ غَازِيْها، حُصُونٌ مُحْكَمَةٌ، تُحْمى بِها الأَنْفُسُ، وتُحفَظُ بِها الأَعْراضُ، وتُحْرَزُ بِها الأَموال، وما مِنْ حِصْنٍ، إِلا ولَهُ مَدَاخِلُ ومَنَافِذُ وثُغُور، وعلى ثُغُورِ القِلاعِ يَقِفُ رِجالٌ أَشِدَّاءُ يَحْمُونَها، فَلا يَلِجُ مِنَ الثُّغُورِ عَدُوٌّ ولا يَتَسَللُ مِنْها دَخِيْل، ولا يَقْتَحِمُ القِلاعَ مُتَرَبِّصٌ ولا يَنْفذُ إِليها عَمِيْل، ولا تَزالُ القِلاعُ في مأَمَنٍ، ما حُمِيَتْ ثُغُورُها، ولا تَزالُ في دَعَةٍ ما حُفِظَتْ مَنافِذُها، وما تَمَكَّنَ عَدُوٌّ مِنْ حِصْنٍ ولا استَوْلَى عليهِ، إلا لِضَعْفِ الحامِيْ أَو لِغَفْلَتِه، أَو لِتَفرِيْطهِ أَو لِخِيانَتِه، وما تَـخَلَّى حُماةٌ عَنْ ثُغُورِهِم إِلا اسْتُبِيحَتْ قِلاعُهُم واقْتُحِمَتْ حُصُونُهم، وَفِي حَادِثَةِ (جَبَلِ الرُّماةِ) ذِكْرَى ومُعْتَبَر.
جَبَلُ الرُّماةِ، جَبَلٌ صَغِيْرٌ مُطِلٌ على سَاحَةِ مَعْرَكَةِ أُحُد، أَقامَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسَلَّمَ- يَومَ أُحُدٍ خَمْسِينَ رَجُلاً مِن الرُّماةِ، وأَمَرَهُم أَنْ يَلْزَمُوهُ؛ لِيَحْمُوا ظُهُورَ المُسْلِمِيْنَ مِنْ أَنْ يَأَتِيَهُمُ العَدُوُّ مِنْ خَلْفِهِم، وأَمَّرَ عَلى الرُّماةِ عَبْدَ اللهِ بنَ -جُبَيْرٍ رضي الله عنهم- وقَال لَهُم: "لا تَبْرَحُوا مَكَانَكُم هذا حتَّى أُرْسِلَ إِليْكُم"، أُقِيْمَ الرُّماةُ عَلى ثَغْرٍ يَحْمُونَه، حُدِّدَ لَهُم الثَّغْرُ، وَبُيِّنَتْ لَهُم المُهِمَّةُ، وأُخْبِرُوا بِالمُدَّة؛ "لا تَبْرَحُوا مَكَانَكُم هذا حتَّى أُرْسِلَ إِليْكُم".
بَدأَتْ مَعرَكَةُ أُحَدٍ ودارَ رَحاها، وحَمِيَ وَطِيْسُها واِشْتَدَّ لظاها، ورِجالُ الثَّغْرِ قَدْ لَزِمُوا الجَبَل، فَما يَلْتَفُّ مُشْرِكٌ نَحْوَ ظُهُورِ المُسْلِمِيْنَ، إِلا تَصَدَّى لَهُ الرُماةُ وابْتَدَرُوه.
ثَارَ غُبارُ المَعْرَكَةِ، فأَخْفَى خَلْفَهُ أَكْثَرَ مِشَاهِدِها، وحِيْنَ هَدأَتِ المَعْرَكَةُ وانْقَشَعَ غُبارُها، أَبْصَرَ رُماةُ الجَبَلِ سَاحَةَ المَعْرَكَةِ، فأَدْرَكُوا أَنَّ جَيْشَ الكُفْرِ قَدْ وَلَّى مُنْهَزِماً، وأَبْصَرُوا الغَنائِمَ تَملأُ ساحَةَ المَعْرَكَة، فَقَالَ بَعْضُ الرُّماةِ لِبَعْضِهِم: "الغَنِيْمَةَ، الغَنِيْمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ، فَما تَنْتَظِرُونَ؟" فَقَالَ أَمِيْرُهُم عَبدُ اللهِ بنُ جُبَيْرٍ: أَنَسِيتُمْ ما قالَ لَكُمْ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-؟ "لا تَبْرَحُوا مَكَانَكُم هذا حتَّى أُرْسِلَ إِليْكُم"؛ قالوا: واللَّهِ لَنَأْتِيَنَّ النَّاسَ، فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الغَنِيمَةِ مَعَهُم، فَانْحَدَرَ أَكْثَرُ الرُماةِ مِنْ الجَبَل.
انْحَدَرُوا وتَرَكُوا الثَّغْرَ الذِي أُسْنِدَ إِليهم، ظَنُّوا أَنَّ العُدُوَّ قَدْ وَلَّى، وبَقِيَ عَبْدُ اللهِ بنُ جُبَيْرٍ ومَعَهُ القَلِيْلُ مِنَ الرُماةِ لَمْ يَبْرَحُوا مَكانَهُم؛ فالتَفَّ عليهم المُشْرِكُونَ فَقَتَلُوهُم، ثُمَّ انْكَفَأَتْ كِفَّةُ المَعْرَكَةِ، وانْكَشَفَ المُسْلِمَونَ وحَلَّتْ المُصِيْبَة بِهِم، وتَحَوَّلَ النَصْرُ، وحَلَّ الأَلَم، واسْتَحَرَّ القَتْلُ، وعَظُمَ بالمؤْمِنِينَ البَلاءُ.
ثَغْرٌ تَخَلَّى عَنْهُ بَعضُ مَنْ أُمِرُوا بِحِفظِه، فَتَخَلَّلَ مِنْ ذاكَ الثَغِرِ جَيْشُ العَدُو، فأَثْخَنَ في المُسْلِمِينَ، وأَوْجَعَ فِيهمِ وقَتَل؛ فَأَنْزَلَ اللهُ في ذلكَ قَوْلَهُ: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، (قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ)، تَخَلَّيْتُم عَنْ الثَّغْرِ الذي أُمِرْتُمْ بِحِفْظِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ بِكُم أَلِيمَ المُصَاب.
جَبَلُ الرُّماةِ، جَرَتْ عَلى ظَهْرِهِ تِلْكَ الحادِثَةُ، وسَتَظَلُّ الأُمَةُ تَستَلْهِمُ مِنها عِبَرَها، جَبَلُ الرُّماةِ، لا زالَتْ تَتَجَدَّدُ في الأُمَةِ نَظائِرُه، ثُغُورُ الأُمَةِ كَثِيْرَةٌ وحُماتُها يَجِبُ أَن لا يَبْرحُوا، ثُغُورُ الأُمَةِ، مَنافِذُ يَجِبُ أَنْ تُحْمَى، وأُمَةٌّ لا تَحْمِيْ ثُغُورَها لَنْ تَبْقى لَها قُوَّة.
كُلُّ ثَغْرٍ لَهُ مِن الحُماةِ مَنْ يُناسِبُه، وضَياعٌ للثَّغْرِ أَنْ يُسْنَدَ إِلى مَنْ لا يُحْسِنُ حِفْظَه، وما أَخْلَصَ في حِفْظِ الثُّغُورِ، مَنْ أَسْنَدَ شَيئاً مِنْها إِلى مَنْ ليْسَ له بأَهْلٍ.
وَمَا أَوهَنَ الثُغُورَ، مِثْلُ رَجُلٍ تَخَلَّى عَنْ ثَغْرٍ أُسْنِدَ إِليهِ، وانْحَدَرَ إِلى ثَغْرٍ تَوَلَّى أَمْرَهُ غَيْرَه، يُنازِعُ أَهْلَ الثُغُورِ مَواقِعَهُم، يَطْلُبُ لِنَفْسِهِ مَكاناً يُذْكَرُ فيهِ، ويَنْشُدُ لَها مَوقعاً يُشارُ إِليها فيه، غايَتُهُ أَنْ يُدْرِكَ لِنَفْسِهِ حَظّاً، لا أَنْ يَحْمِيْ للأُمَةِ ثَغْراً.
يَحْمِي الثُّغُورَ بِحَقٍّ، مَنْ نَزَعَ حُظُوظَ نَفْسِهِ واكْتَسَى بِالتَّقْوَى، يَغارُ على الدِّينِ أَنْ يُنْتَقَصَ، ويَخْشَى على الأُمَةِ أَنْ تُسْتَباح، يَحْمِي الثُّغُورَ بِحَقٍّ، مَنْ غايَتُهُ رِضَا اللهِ وإِنْ بَقِيَ في النَّاسِ مَغْمُوراً، يَعْمَلُ لِدِيْنِ اللهِ أَيْنَما أُقِيْم، ويُخْلِصُ في النُّصْحِ أَيْنَما نَزَل، أَثْنَى عليهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- على مَنْ كانَ هذا خُلُقُه: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِن اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ"(رواه البخاري)، قائِمٌ على ثَغْرِهِ خَيْرَ قِيامٍ، "إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ"، لا يَحْتَقِرُ دَوراً أُنِيْطَ بهِ، ولا يأَبَهُ أَنْ جَهِلَ النَّاسُ قَدْرَه؛ "إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ".
ثُغُورُ الأُمَةِ كَثِيْرَةٌ، والحُماةُ يَجِبُ أَن لا يَبْرحُوا، كُلُّ امرئٍ لَهُ ثَغْرٌ بَلُ لَهُ ثُغُورٌ يَجِبُ أَنْ يَحْمِيْها، الأَمِيْرُ في إِمارَتِهِ، والوَزِيْرُ في وزارَتِهِ، والتَّاجِرُ في تِجارَتِهِ، المُدِيْرُ في إِدارَتِهِ، والمعَلِّمُ في مَدْرَسَتِهِ، والأَبُ في أُسْرَتِهِ، والأُمُ في بَيْتِها، والشَّابُّ في مُجْتَمَعِهِ، والفَتاةُ في خِدْرِها، كُلُّهُم على ثُغُورٍ قائِمُون، يَنْصَحُونَ للهِ ولِدِيْنِ اللهِ ولِعبادِ الله، يُقِيْمُونَ أَمْرَ اللهِ في أَنْفُسِهِم وَفِيْمَنْ تَحْتَ أَيْدِيْهِم، يَتَّقُونَ اللهَ فيما يأَتُونَ ويَذَرَون، يُصْلِحُونَ ولا يُفْسِدُون، يُنْكِرُونَ المُنْكَرَ وبالمعروفِ يأَمُرُون، يُؤَدُونَ الأَمانَةَ، ويُخْلِصُونَ في العَمَلِ، ويَصدُقُونَ في الإِرادَة، يُقَدِّمُونَ أَمْرَ اللهِ في كُلِّ أُمُورِهِم، يَعْرِضُونَ ما يَعْرِضُ لَهُم على كِتابِ اللهِ، فإِنْ وافَقَ شَرْعَ اللهِ أَجازُوهُ، وإِنْ خَالَفَ أَمْرَ اللهِ رَفَضُوه، بِذَاكَ يَكُونُ حِفْظُ الثُّغُورِ، وبِذَاكَ تَكُونُ حِمايَتُها، وما حَفِظَ الثَّغْرَ مَنْ جَهِلَ دَورَه، وما حَفِظَ الثَّغْرَ مَنْ احْتَقَرَ أَمْرَه، «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ رَاعٍ في أهْلِهِ وَمَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، والمرأَةُ رَاعِيَةٌ في بيتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُوْلَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، والخادمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُوْلٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»(متفق عليه)، ثُغُورٌ سَيْسأَلُ أَصْحابُها عَنْها، فَما أَفْلَحَ مَنْ يَومَ السُؤَالِ رَسَبْ (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
بارك الله لي ولكم،
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً؛ أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: ثُغُورُ الأُمَةِ كَثِيْرَةٌ، فَطُوبَى لِمَنْ قَامَ عَلَيْها وحَماها، طَوبَى لِمَنْ اسْتَعْصَى على العَدُوِّ اخْتِراقُهُ، طُوبَى لِمَنْ حَمَى ثَغْرَهُ بِحَقٍّ، فَما يَنْفُذُ مِنْ خِلالِهِ إِلى الأُمَةِ سُوءٌ، ولا يَلِجُ مِنْهُ إِلى الأُمَةِ مُنْكَر.
طُوبَى لِمَنْ ظَلَّ ثابِتاً على الثَّغْرِ، ناصِحاً لِلَّهِ ولِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ، طُوبَى لِمَنْ أَوجَعَ العَدُوَّ بِبَأَسِهِ، وفجَعَ العَدُوَّ بِثَباتِه.
ثَباتُ المُسْلِمِ على دِيْنِهِ، واعْتِزازُهُ بِقِيَمِه، وفَخْرُهُ بِمَبادِئِه وتُمَسُّكُهُ بِشَعائِرِه، أَعْظَمُ سدٍّ تُحْمَى بِهِ الثُّغُورُ.
حِمايَةُ الثُّغُورِ، رِباطٌ دَائِمٌ، وَيَقَظَةٌ تَامَّةٌ، وَفِطْنَةٌ كَامِلَةٌ، وَدَّ العَدُوُّ، لَو أَنْ حُماةَ الثُّغُورِ عَنْ الثُّغُورِ غَفَلُوا؛ (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً).
ثُغُورُ الأُمَةِ كَثِيْرَةٌ، وما حَفِظَ الثَّغْرَ مَنْ تَرَجَّلَ عَنْ جَوَادِهِ وخُيُولُ الأَعداءِ تَعْدُوا إِليه، مَا حَفِظَ الثَّغْرَ مَنْ اتَّكأَ على أَرِيْكَتِهِ، فَما يَرَى عامِلاً لِدِيْنِ اللهِ إِلا انْتَقَصَهُ، ولا يَرَى نَاصِحاً لِلأُمَةِ إِلا ذَمَّه، مُوْلَعٌ بِتَتَبُعُ عَثَرَاتِ العامِلِينَ، يَبْحَثُ عَنْ زَلَّاتِهِم، ويُفَتِّشُ عَنْ عَثَرَاتِهِم، جَعَلَ تَجْرِيْحَ العِبادِ لَهُ سَجِيَّة، وَيْلٌ لَهُ ما أَلْأَمَهُ، وَيْلٌ لَهُ ما أَحْقَرَه، قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ مُوَلعًا بِعُيُوبِ النَّاسِ نَاسِيًا لِعَيْبِهِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ مُكِرَ بِهِ"، وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "مَا أَحْسَبُ أَحَدًا تَفَرَّغَ لِعُيُوبِ النَّاسِ، إِلَّا مِنْ غَفْلَةٍ غَفَلَهَا عَنْ نَفْسِهِ".
حَقٌّ عَلَى أَهِلِ الثُغُورِ أَنْ يَتَناصَحُوا، حَقٌّ عَلَى أَهِلِ الثُغُورِ أَنْ يَتَصَالَحُوا، حَقٌّ عَلَى أَهِلِ الثُغُورِ أَنْ يَسْنُدَ بَعْضُهُم بَعْضاً، حَقٌّ عَلَيْهِم أَنْ يُسَدِّدَ بَعْضُهُم بَعضاً؛ (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ).
ثُغُورُ الأُمَةِ، مِنْها مَا مِنْ خِلالِهِ تُصْنَعُ العُقُولُ وتُرْفَعُ الأُمَة، وَمِنْها مَا مِنْ خِلالِهِ تُدْفَعُ الشُّرُورُ وتُحفَظُ الأُمَة، مِنْها ما هُوَ سَدُّ مَنِيْعٌ تُدْفَعُ مِنْهُ المَفاسِد، ومِنْها ما هُو جِسرُ مَتِيْنٌ تُجْلَبُ مِنْهُ المكاسِبْ؛ فَمَنْ أُسْنِدَ إِليهِ ثَغْرٌ، فَلْيَقُمْ بِهِ بِحَقٍّ، ولَيْبْذُلْ بِهِ بِصِدْقٍ، ورَحِمَ اللهُ امْرَأً عَرَفَ ثَغْرَهُ فَلَزِمَه (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
وَوَسائِلُ التَقْنِيَةِ، ثُغُورٌ يَجِبُ أَنْ تُحْمَى، مِنْ خِلالِها تُغْزَى العُقُولُ وتُدَمَّرُ الأَخْلاق، ومِنْ خِلالِها يُنْتَزَعُ الحَياءُ وتُفْسَدُ العَقائِد.
وَسائِلُ التَّقْنِيَةِ، أَقْرَبُ إِلى المرءِ مِنْ خِلٍّ يُدانِيْه، حَقٌّ على حُماةِ الثُّغُورِ أَنْ يَلْزَمُوا في التَّقْنِيَةِ مَواقِعَهُم، حَقٌّ عَلى حُماةِ الثُّغُورِ، أَنْ يُفَقِّهُوا الأجيال بِمَخاطِرِها.
التَّقْنِيَةُ سِلاحٌ ذُو مَضَاء، مَنْ حَمَلها نَاشِراً للحَقِّ مُلازِماً للتَّقْوَى، فَهُوَ في سَبِيْلِ اللهِ يُجاهِد، ومَنْ حَمَلَها عَابِثاً مُسْتَهِيْناً، مُتَقَلِباً في دَهالِيزِها، مُتَنَقِلاً بَيْنَ مَواقِعِها، لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ تُصابَ يَوماً مَقَاتِلُه.
التَّقْنِيَةِ، كَسِلاحٍ مِنْ حَدِيْد؛ (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، كَمْ قَائِمٍ على ثَغْرِ التَّقْنِيَةَ، قَدْ أَرْهَقَ جَيْشَ العِدَى، يَقْذِفُ أَباطِيلَ الضَلالِ بِحُجَجِ الحَقِّ، ويَرْمِيْ شُبُهاتِ المُفْسِدِيْنَ بِنُورِ الهَدى؛ (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)
ثَغْرُ التَّقْنِيَةِ، مِن أَوسَعِ الثُّغُورِ وأَخْطَرِها، فَمَنْ لَمْ يُحْسِنْ نَشْرَ الخَيْرِ، فَلْيَحْذَرْ مَنادَمَةَ المُنْكَر، ومَنْ لَم يُحْسِنْ بَيانَ الحَقِّ، فَلْيحذَرْ مُسامَرَةَ الباطِل.
اللهم احفَظ عَلينا دِيننا وأَصْلح لنا دُنيانا، اللهم اجْعَلينا بِشَرِيعَتِكَ قائِمِين، ولِدِيْنِك ناصِرِين، وبِكِتابِكَ مُسْتَمسِكِين.
التعليقات