عناصر الخطبة
1/مكانة خلق جبر الخاطر في الإسلام 2/النبي صلى الله عليه وسلم وجبره للخواطر 3/المطلقة وجبر خاطرها 4/الأخوة الإيمانيةاقتباس
من معالم ديننا مراعاة نفوس العباد، وجبر خواطرهم، وتطييب قلوبهم، والحياة لا تصفو إلا بذلك؛ فمن الذي رضيت كل خصاله من قريب الناس لك أو بعيدهم؟! وكيف ترضى عن طباع الناس وأنت غير راض عن طباعك، وتعترف في داخلك بخلل فيك...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد: فما أضعفك يا ابن آدم! الكلمة الواحدة قد تقلب حياتك، وتغير يومك، وتعكر مزاجك! الكلمة قد تقبض نفسك، وتصبح حرجاً ضيقاً في صدرك الكلمة قد تمرضك وتعتل بسببها في صحتك!
وفي مقابل كل هذا؛ الكلمة الأخرى تبسط نفسك، وتشعر أن الدنيا بعدها لا تسعك، والأرضَ كلها لا تكفي لانشراح صدرك، واتساع خاطرك، فأنت الفرح الجذلان.
هذه حقائق لا تحتاج إلى أدلة لأثباتها؛ فاللهم اشرح صدورها واملأ بالسعادة أيامنا وليالينا.
ولولا ساعات الفرح لقضت على الإنسان لحظات الترح، ولولا دفع الله عن عباده آفات النقم لما وجدوا في حياتهم طعماً للنعم!.
أيها الإخوة: الموضوع طويل في كتاب الله كثير من الآيات ذكرته بصريح العبارة وأخرى بإشارة، وأما في سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فشأنها أوضح ودلائلها أظهر؛ أي موضوع هذا ؟!
موضوعنا عبادة لا تحتاج إلى شد رحل، ولا توديع أهل، ولا اختيار نفقة وراحلة للنقل! عبادة أعظم الله شأنها، وهي جوهرة تتلألأ في عقد أخلاق الفضلاء، تزين بها الكرماء، وحاز منها سيد الأنبياء النموذج الأعلا؛ كيف وقد قال فيه ربه -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4].
فكان من شيمه المباركة وأخلاقه الواضحة أنه كان لا يواجه أحداً بما يكره؛ حفاظاً على مشاعره، وكسباً لوده، وإبقاء على علاقته.
ورضا الناس غاية لا تدرك، ولكن العقل يقودك إلى استبقاء رضا من لا بد من معاشرته، وإن دفعت ما تكره دفعه، واستبقيت ما يشق بقاؤه.
والمروءة قرينة الصبر، ولا مروءة إلا بصبر!
أيها الأخ: لن نسع الناس بأموالنا -وإن كثرت-، ولكن يسعهم منا طيب أخلاقنا! لن نقضي حاجاتهم بالفلوس، ولكننا نقضيها ونكرمها بمراعاة النفوس!
إذن من معالم ديننا مراعاة نفوس العباد، وجبر خواطرهم، وتطييب قلوبهم، والحياة لا تصفو إلا بذلك؛ فمن الذي رضيت كل خصاله من قريب الناس لك أو بعيدهم؟! وكيف ترضى عن طباع الناس وأنت غير راض عن طباعك، وتعترف في داخلك بخلل فيك؟!
أيها الإخوة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه كما قال تعالى (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة:128]. يوجه مخطئهم، ويعتذر لمن قد يحمل في نفسه شيئاً، ويبين عذره بصريح اللفظ؛ ليقطع دابر الشيطان، ووساوس النفس، في الصحيحين أن الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيَّ -رضي الله عنه- أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِمَارَ وَحْشٍ في طريقه وَهُوَ مُحْرِمٌ فَرَدَّهُ، قَالَ صَعْبٌ: فَلَمَّا عَرَفَ فِي وَجْهِي رَدَّهُ هَدِيَّتِي! قَالَ-صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ بِنَا رَدٌّ عَلَيْكَ وَلَكِنَّا حُرُمٌ". والمحرم لا يأكل مما صيد من أجله.
كره النبي -صلى الله عليه وسلم- من حكيم بن حزام -رضي الله عنه- الحاجه في المسألة وتكريره الطلب من الدنيا! فتلطف معه النبي -صلى الله عليه وسلم- موجهاً له. يقول حكيم بن حزام -رضي الله عنه-: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: "يَا حَكِيمُ: إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ؛ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى"؛ فكيف كان أثر هذا التوجيه ومراعاة النفسية لأحد صحابه؟ قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا -أي: لا أسأل- بَعْدَكَ شَيْئًا، حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا؛ فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى تُوُفِّي (متفق عليه).
أيها الإخوة: للمكسورة بالطلاق حق في أخلاق نبينا -صلى الله عليه وسلم-، بل وفي آيات ربنا يقول الله -تعالى-: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[البقرة:241]؛ فيجبر خاطرها بعد الطلاق بشيء من المال تتسلى به؛ حتى يخف ما بها، ولعله يسرع في جبر كسرها.
عن أبي أسيد -رضي الله عنه-: لما دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- بابنة الجون قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: "قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ"، ثم طلقها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "يَا أَبَا أُسَيْدٍ اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا" (رواه البخاري). والرازقيَّتين: ثياب كتان بيض
اللهم أهدنا لأحسن الأخلاق...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد: فتلك المعاملة الإسلامية والأخلاق النبوية لا يقوى عليها إلا المجاهدون لأنفسهم المسارعون؛ لقوله تعالى: (... وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران:134]، ثم قال في ثوابهم.. (أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)[آل عمران:136]
هؤلاء النخب من الناس والصفوة من عباد الله جعل الله ثوابهم إليه، وأجرهم عليه (فَمَن عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[الشورى:40]. والعطية على قدر المعطي وهو الكبير المتعال.
أيها الإخوة: مراعاة المشاعر جزء من ديننا، وعبادة نتقرب بها إلى ربنا؛ فالمؤمن هين لين لا يظلم أخاه المسلم ولا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه بل ولا يهجره، وقد علم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".
بل إن المسلم يستشعر أخوة إيمانية بينه وبين أخيه المسلم تفوق كل رابطة مصلحية أو قبيلية أو جنسية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10].
المسلم يبادل أخاه المسلم محبة الإيمان؛ فهو يحبه لإيمانية أعجبه فيه حسن خلقه وتقواه.
وحتى تبقى هذه المحبة صادقة متبادلة أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- على من أحب شخصاً في الله أن يعلمه بهذه المحبة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أحب أحدكم أخاه فليبين له فإنه خير في الألفة وأبقى في المودة"، بل أعجب منه قوله في الحديث الآخر: "إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله، فليخبره أنه يحبه لله"(صححها الألباني).
هذه بعض إشارات يدرك منها المتأمل أن ديننا دين المشاعر ومراعاة الخواطر، ودين الحب الصادق؛ فلا نبحث عن هذه المعاني السامية في ديننا في مجتمعات افتقرت مشاعرهم، وتحولت علاقاتهم إلى مظاهر جوفاء في ورود حمراء، وكلمات شهوانية، وأحاسيس بهيمية في أعياد حب مزيفة، وطقوس مخترعة، أصولها مخجلة، (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)[إبراهيم:26].
فالحمد لله الذي فضلنا بالإسلام، وجعل المحبة بيننا من الإيمان؛ فأحبوا من بحبهم تزداد سعادتكم، وتطيب حياتكم، وبادلوهم طيب المشاعر بالكلمة والرسالة والرمز المعبر في وسائل التواصل وعبر مجموعات الأسر والأصحاب، واحذروا أن يجد من تحت أيديكم عبارات الحب، ولينَ المشاعر عند لصوص الأخلاق، والعابثين في الفضيلة.
فاللهم إنا نسأل حبك وحب من يحبك، وحب العمل الذي بقربنا إلى حبك...
التعليقات