عناصر الخطبة
1/معاناة الأمة الإسلامية من اعتداءات سافرة 2/أهمية الجهاد في سبيل الله وضوابطه 3/التحذير من الاختلاف والتفرق والتكفير 4/تحريم كل ما يزعزع أمن المجتمع وسلامتهاقتباس
يجب علينا في ظل هذه الظروف الخطيرة التي نعيشها أن نلزم التواصي بين سائر المسلمين بالبر والتقوى، والتمسك بحبل الله، والبعد عن التفرق والاختلاف الذي يقع به تمكين المتربصين بالأمة...
الخطبة الأولى:
أما بعد: فإنّ الأمة اليوم تواجه تحالفًا على العدوان والبغي من أعداء الله، وقد اجتمع لذلك أشدّ الناس عداوة من اليهود والصليبيين لممارسة العدوان الظالم بمعايير انتقائية وحجج داحضة؛ كمكافحة الإرهاب ونزع أسلحة الدمار الشامل. ويعيش المسلمون محنة هذا الاعتداء في فلسطين والأفغان والعراق، إضافة إلى مصائبهم الأخرى في الشيشان وكشمير والسودان وغيرها.
وإن مما ينبغي علينا أن نفقهه في أوج هذه الأزمة وشدّة حلاكة ظلمتها أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ماضٍ إلى قيام الساعة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمة محمد ظاهرين على الحق، لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"، وأن إقامته واجبة على الأمة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[التوبة:41].
ومع هذا المبدأ الراسخ وهو ضرورة الجهاد في سبيل الله؛ إلا أنه لا بد من استيفاء أسبابه وتحقيق شروطه، وأن يتمّ النظر فيه من قبل أهل الرسوخ في العلم، بعيدًا عن الاجتهادات الفردية الخاصة التي قد تمهد للعدو عدوانه، وتعطيه الذريعة لتحقيق مآربه؛ فإنّ كل ما يزعزع المجتمع ويحدث الخلل في الصف هو هدية ثمينة تقدم إلى عدوّ لا يرقب في المسلمين إلاً ولا ذمة.
عباد الله: يجب علينا في ظل هذه الظروف الخطيرة التي نعيشها أن نلزم التواصي بين سائر المسلمين بالبر والتقوى، والتمسك بحبل الله، والبعد عن التفرق والاختلاف الذي يقع به تمكين المتربصين بالأمة وتسليطهم على شعوبها وخيراتها؛ فإنه إذا انفك حبل الاجتماع وشاع الافتراق بين المسلمين فهذا نذير فتنة عامة.
ولا شك أن قصد الاجتماع على البر والتقوى يوجب مقامات من أهمّها: الصبر وترك العجلة، وتجنُّب الافتيات على أولي الأمر من الحكام والعلماء الربانيين بقول أو فعل يحرّك عدوّها إلى ميادينها العامة، ويسلّط عليها من ينتظر من بعض أبنائها صناعة المسوّغ لمزيد من بسط نفوذه وتعديه، وقد ذكر العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام أن أيّ قتال للكفار لا يتحقّق به نكاية بالعدوّ فإنّه يجب تركه؛ لأن المخاطرة بالنفوس إنما جازت لما فيها من مصلحة إعزاز الدين والنكاية بالمشركين، فإذا لم يحصل ذلك وجب ترك القتال لما فيه من فوات النفوس وشفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وبذا صار مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة.
ولذا -يا عباد الله- فإن القيام العامّ لا يحقّ إلا لمن اجتمعت فيه الأحكام الشرعية المسوِّغة لذلك من العلم والإمامة في الدين والاجتهاد والقدرة وتعيُّن المصلحة واقتضائها، وإذا كان متحقّقًا تحريم القول في مسألة من النوازل إلا لمن تحقّق له الاجتهاد المناسب لها فهذا الباب أولى، ولذا فإن على من علم من حاله عدم التمكّن من هذا الباب أن يبتعد عن الافتيات على أهل العلم ولا سيما في المسائل العامة.
عباد الله: إن من أهم ما يجب الابتعاد عنه وعدم الخوض فيه في هذه الأزمة: الحكم بالإسلام أو الكفر أو النفاق أو الردة أو الفسق على أحد من المسلمين، لا سيما ممن ليس من أهل العلم الشرعي الرصين العميق؛ فإن التكفير مزلق خطير، وقد قال –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما؛ إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه". والحديث يدل على منع إطلاق التكفير، حتى لمن يشتبه حاله أنه كذلك، ولهذا لم يعذره في الحديث؛ فكيف بمن يكفّر الأخيار والصالحين والأئمة والعلماء لمجرّد المخالفة؟! والمعنى: ما دام ثمّةَ مجرّد احتمال أن لا يكون الموصوف كافرًا فلا يحلّ لمسلم أن يطلق عليه هذا؛ لأنه يرجع عليه.
وفي الحديث المتفق عليه أيضًا عن أبي سعيد في قصة الذي قال: اعدل يا محمد، فقال عمر: ائذن لي فأضرب عنقه؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لعله أن يكون يصلِّي".
وهذه سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرة خلفائه الأربعة وأصحابه جميعًا وسير تابعيهم بإحسان، ومن بعدهم كالأئمة الأربعة وكبار أصحابهم؛ فلا ترى فيها ملاحقة للناس بالتكفير، ولا اشتغالاً بها، مع وجود الكفر والشرك والنفاق في زمانهم، بل كانوا يتأوّلون لمن وقع في شيء من ذلك من أهل الإسلام ما وسعهم التأويل؛ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام:90].
عباد الله: ويدخل في هذه المسألة وهي مسألة الافتيات على ولي الأمر والعلماء الربانيين: مسألة حلّ الدماء؛ فضلاً عن تسويغ الفتك العام في المجتمع؛ فهذا مقام ضلّت فيه أفهام وزلت أقدام، ولا سيما أن كثيرًا مما يقع في زمن الفتنة يقع بنوع من التأويل الذي يظنه بعض الناس اجتهادًا مناسبًا لإذن الشارع، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ما حصل بمثل هذا التأويل من الشرّ والفتن وأنه سفك به دماء قوم من المؤمنين وأهل العهد.. وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الإيمان قيَّد الفتك، لا يفتك مؤمن". قال صاحب عون المعبود: "مَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ الإِيمَان يَمْنَع مِنْ الْفَتك الَّذي هُوَ القَتل بَعْد الأَمَان غَدرًا كَمَا يَمنَع القَيْد مِنْ التَّصَرُّف".
ومعلوم عند سائر فقهاء المسلمين أن الكفر لا يوجب هدر الدم في كلّ الأحوال، بل يعصم الدّم بالعهد والأمان والجزية والصلح وغيره، ولذلك عند البخاري عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا". انظر مع أن المعاهد كافر إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حرَّم سفك دمه، بل إنه من المقرَّر عند أئمة السنة أن حِلّ الدم لا يوجب لزوم سفكه؛ إذا اقتضت المصلحة العامة عدمَ ذلك، كما ترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- قتل عبد الله بن أبي لمصلحة عامة المسلمين؛ حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.
عباد الله: إن مما يُدَان للهِ به تحريمَ سفك الدماء المحرمة تحت أيّ تأويل، مما يلزم معه أنه يحرم نشر الفتنة وسفك الدم بالتأويل، وأن يُعلم أن من الجناية على المسلمين جرهم إلى مواجهات ليسوا مؤهّلين لتحمُّلها، وتوسيع رقعة الحرب بحيث تصبح بلاد المسلمين الآمنة ميدانًا لها، وأن هذا ربما كان هدفًا يقوم أعداء الملة لتحقيقه باستدراج البعض حتى يصبح ذريعة لتدخل أكبر وتقسيم للمنطقة وإضعاف للمسلمين أكثر ما هم فيه من ضعف، ولذا فلا بدَّ من تدبُّر عواقب الأمور ونتائج الأعمال وآثارها.
نعم، يجب الموازنة بين المصالح والمفاسد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشرّ الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك فقد يدع واجبات ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع".
وقد ذكر العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: "أن مصالح الدنيا ومفاسدها تُعرف بالضرورة والتجربة والعادة والظنّ المعتبر، وأن من أراد أن يعرف المصلحة والمفسدة فليعرض ذلك على عقله ثم يبني عليه الحكم، ولا يخرج عن ذلك إلا ما كان من باب التعبد المحض".
وليعلم أن تحقيق الأمن من أخصّ مقاصد المرسلين؛ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ)[إبراهيم:35]. نعم، هذا دليل ظاهر على أن المجتمع المستقر الآمن هو الميدان الفاضل لانتشار دعوة التوحيد ورسوخها.
عباد الله: نحن وإن كنا نعلم أن هذا كله من الأمور الواضحة الجلية عند الكثير، إلا أن مجريات الأحداث وتداخل الأفكار واضطراب الحال وربما كثرة الحماس مع عدم وضوح الرؤية عند البعض يوجب تأكيد هذا الأمر وتكرار النصح والتحذير والبلاغ حفظًا لعصمة الأمة وشأنها، ولئلا تزل قدم بعد ثبوتها ويذوق أهل الإسلام السوء من تسلط بعضهم على بعض فضلاً عن تسلط عدوهم عليهم، واغتنامه الفرصة بتحريض المسلم على أخيه، وأقلّ ما يهدف إليه أعداء الله في هذه الأزمة الراهنة خلخلة الجبهة الداخلية في بلاد المسلمين وضرب بعضهم ببعض، ومن ذلك ضرب الحكومات بالشباب وضرب الشباب بالعلماء، حتى يتّسع لهم الباب ليلجوا إلى عقر الدار ونحن مشغولون بالتناحر فيما بيننا.
الخطبة الثانية:
عباد الله: من الطبيعي عند اقتراب الحرب واشتدادِ الكرب أن يشعر الناسُ بشيءٍ من الخوف والقلق على أنفسهم ومصالحهم، ومثل هذا لا سبيل إلى رفعه ودفعه، وليس فيه كبيرُ خطر ما دام في درجته الطبيعية التي تناسب الحدث.
فإذا كان لا سبيل إلى دفعه؛ فمن الحكمة أن يُوظَّف التوظيف الصحيح، حتى يكون دافعًا للجد، دفّاقًا بالأعمال الإيجابية التي تلتقي في استشعار المسؤولية والدفاع عن مصالح البلاد ووحدة الصف والمحافظة على الأمن ورأب الصدع والقيام بمصالح المسلمين.
أما حين يخرج الخوف والقلق عن صورته الطبيعية التي تناسب الحدث فهو شرٌ وخطرٌ يتعيّن اجتثاثه ومقاومته؛ فهو في بعض صوره خطرٌ على العقيدة؛ لأنه يعارض أصلاً من أصولها، وهو الخوف من الله الذي لا يجوز أن يبلُغَ مبلغَه خوفٌ من أحد؛ (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:175]، (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ)[المائدة:3].
وهذا الضربُ من الخوف يدفعه ويبعده تعزيز معنى التوكل على الله في القلوب، وملؤها باليقين والثقة بالله وحسن الظن به، وإحياءُ معاني الإيمان في النفوس؛ (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آلعمران:173]، فلما صدقوا في توكّلهم على الله كفاهم شرّ أعدائهم، وتحققت لهم العاقبة المنتظرة التي وعدها الله المتوكلين عليه: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران:174]. ولك أن تنصت إلى قوله -تعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)[الزمر:36]، ثم قال -جل جلاله- وهو يُلقِّن عباده الجواب الذي يطرح هذا التخويف: (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)[الزمر:38].
عباد الله: إن مما يجب علينا هو انتشال مشاعر القلق والتوتر والهزيمة النفسية من قلوبنا، وأنه مهما أصابنا بلاء فلا نسمح أن تتسرب الهزيمة إلى داخل نفوسنا، وأن نداوي الهلع الذي سكن في بعض النفوس بالتذكير بمقامات الصبر والاحتساب واليقين بموعود الله.
إن في قلوبنا خللاً لا بد أن نتداركه بإفاضة معاني الثقة بموعود الله واحتساب الأجر عند نزول الضرّ، وإن أمر المؤمن كلّه له خير؛ إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وليس ذلك إلا للمؤمن.
التعليقات