عناصر الخطبة
1/ تعظيم شعائر الله تعالى 2/دلائل تقوى القلوب 3/فضائل الحج وكيفية تعظيمه 4/شروط وجوب الحج 5/تعظيم شعيرة الحج 6/ضرورة الحصول على تصريح الحج 7/وجوب طاعة ولي الأمر في المعروف 8/خطورة الحج بلا تصريح.اقتباس
وقد اتفقُ الصحابة والسلف أن الحجَّ يجبُ على الفورِ. أي إذا توفرت شروطُه وجبَ وعلى المسلمِ المبادرةُ به وعدمُ تأخيرِه.. وشروطُ وجوبِ الحجِ: البلوغُ، والعقلُ، والحريةُ، والاستطاعةُ بالبدنِ والمالِ، ويشترطُ للمرأةِ زيادةً على ذلك وجودُ المحرمِ...
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله الذي جعل الحج إلى بيته الحرام أحد أركان الإسلام، ومبانيه العظام، وخفَّف عن عباده فجعله للمستطيعين، وعفَى بفضله وكرمه عن العاجزين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد أيها الإخوة: يقول الله -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32]؛ في هذه الآية حثّ الله -تعالى- على تعظيم شعائره، وجعله من التقوى.
وفسر الشيخ السعدي -رحمه الله- شعائر الله: بأنها أعلام دينه الظاهرة، التي تَعبَّدَ الله بها عباده، وشعائر جمع شعيرة بمعنى علامة.. وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، والتقوى واجبة على كل مكلف.
وأضاف الله -تعالى- التقوى إلى القلوب؛ لأن القلب هو محل التقوى كما جاء عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "التَّقْوَى هَاهُنَا"؛ وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ(رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-). وإذا خشع القلب واتقى خشعت سائر الجوارح.
قال الله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ..)[المائدة:2]؛ وقد فسَّر بعض العلماء شعائر الله بأنها أوامره وفرائضه، ومعنى ذلك: أن كل ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما تعبدنا الله -تبارك وتعالى- به فهو من شعائره.
فيدخل في ذلك الشعائر الظاهرة والباطنة؛ لأن الدين باطنٌ وظاهرٌ، ويدخل في ذلك الشعائر العملية والشعائر الاعتقادية، ويدخل في ذلك الأركان والواجبات والمستحبات، فكل ما شرعه -تبارك وتعالى- فهو من شعائره، والمسلم مأمورٌ بأن يُعظّمها وألا يحلها؛ وذلك بأن يمتثل أوامر الله ويجتنب نواهيه، وهكذا يكون التعظيم على هذا المعنى. وقوله: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ)؛ أي: لا تحلوا محرم شعائر الله.
أيها الإخوة: والحج من أعظم شعائر الله وتعظيمه من الوجبات، ولتعظيمه وجوه منها: وجوب المبادرة بأدائه للمستطيع إليه سبيلاً على الفورِ، قالَ اللهُ -تعالى-: (وَلِلهِ عَلَى الناسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَ اللهَ غَنِيٌ عَنِ الْعَالَمِينَ)[آل عمران:97].
قال المفسرون: في قوله: (عَلَى الناسِ) دليلُ الوجوبِ، خصوصًا إذا ذُكر المستحِقُّ. ثم أتْبَعَه بقوله: (وَمَنْ كَفَرَ فَإِن اللهَ غَنِي عَنِ الْعَالَمِينَ)؛ ليبينَ أن مَن لم يعتقدْ وجوبَه فهو كافرٌ، وأنه إنما وَضعَ البيتَ وأوجبَ حَجَه ليشهدوا منافعَ لهم لا لحاجتِه إلى الحجاجِ كما يحتاجُ المخلوقُ لمن يقصدُه ويُعظمُه؛ لأن اللهَ غنيٌ عن العالمين.
وقال -سبحانه-: (وَأَتِموا الْحَج وَالْعُمْرَةَ لِلهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)[البقرة:196]؛ قال: الشيخ السعدي: "يُستدلُّ بقوله -تعالى-: (وَأَتِموا الْحَج وَالْعُمْرَةَ) على أمورٍ، أحدُها: وجوبُ الحجِ والعمرةِ، وفرضيتُهما. الثاني: وجوبُ إتمامِهما بأركانِهما، وواجباتِهما، التي قد دلَّ عليها فعلُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وقولُه: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ".
وقالَ شيخُ الإسلامِ -رحمَه اللهُ-: "وقد اتفقُ الصحابة والسلف أن الحجَّ يجبُ على الفورِ. أي إذا توفرت شروطُه وجبَ وعلى المسلمِ المبادرةُ به وعدمُ تأخيرِه.. وشروطُ وجوبِ الحجِ: البلوغُ، والعقلُ، والحريةُ، والاستطاعةُ بالبدنِ والمالِ، ويشترطُ للمرأةِ زيادةً على ذلك وجودُ المحرمِ".
وقالَ -رحمَهُ اللهُ- بعدما سَاقَ الأَحاديثَ التي تَدلُّ على التَغليظِ في تأخيرِ الحجِ مع توفرِ شروطِه: "وَهَذَا التَّغْلِيظُ يَعُمُّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوَاتُ، وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَفِي تَأْخِيرِهِ تَعَرُّضٌ لِمِثْلِ هَذَا الْوَعِيدِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا لَحِقَهُ هَذَا؛ لِأَنَّ سَائِرَ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَحُجُّونَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُصَلُّونَ، وَإِنَّمَا يَحُجُّ الْمُسْلِمُونَ خَاصَّةً" اهـ من شرح العمدة.
أحبتي: لقد تأملتُ تلكَ الآياتِ والأحاديثَ التي تدلُّ على وجوبِ الحج، ومنها قولَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "تَعَجَلُوا إلَى الْحَجِ -يَعْنِي الْفَرِيضَةَ-؛ فَإِنَ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وهو حديث حسن).
فتوقفتُ عند هذا الحديثِ متسائلاً: هل أدركَ المسلمونَ ما عناهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- من الأمرِ بأداءِ الحجِ على الفورِ، أي من حينِ اكتمالِ شروطِه فيهم يبادرون؟ وهل أولوا ما يدلُ عليه من تَوْجِيهٍ اهتمامِهم فجعلوا الحجَ هدفاً يسعونَ لتحقيقِهِ في أنفسِهم ولمن ولاهم اللهُ أمرَهم؟
ومن وجوه تعظيم شعيرة الحج: حرص من عزم على الحج أن يكون حجّه مبرورًا، لقول: "الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ"(رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-).
والحج المبرور يكون وفق ما سنَّه النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأكَّده بقوله مع فعله، يَقُولُ جَابِر -رضي الله عنه-: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ"(رواه مسلم). وذلك بتعلُّم أعمال الحج أو مرافقة مَن يتقنها.
أسأل الله أن يتقبل من الحاجين حجهم، ويبارك لنا في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: لقد وفَّق الله هذه البلاد حكومة وشعبًا لخدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة، وقدمت هذه البلاد الغالي والنفيس في التوسعة وإنشاء المرافق والطرق وغيرها؛ لتستوعب الأعداد المتزايدة من الحجاج والمعتمرين من شتى أنحاء العالم، ومهما بلغت التوسعات فلن تكفي بلا وضع تنظيمات لإدارة الحشود الضخمة من البشر من قاصدي بيت الله الحرام، فحُدِّدَت نِسَب أعداد الحجاج القادمين من جميع الدول بالاتفاق معها.
أما حجاج الداخل من المواطنين والمقيمين؛ فقد ألزمت مُريد الحج باستخراج تصريح لضبط العدد وإعطاء الفرصة لمؤدي الفريضة، ووضعت إجراءات معينة لمن أراد الحصول على هذا التصريح.
وقد صدرت فتوى هيئة كبار العلماء في وجوب الالتزام بأخذ ترخيص لمن أراد الحج، والتزام قاصدي المشاعر المقدسة بذلك يتفق والمصلحة المطلوبة شرعاً، والشريعة جاءت بتحسين المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وطلب استخراج تصريح للحج يساعد في تنظيم حركة الحجاج وتنقلاتهم؛ كي يؤدوا مناسكهم بكل يسر وسكينة وسلامة وأمان، منذ وصولهم إلى الحرمين الشريفين حتى مغادرتهم.
ثم إن التزام مريدي الحج بالتصريح يحقق مصالح جمة من جودة الخدمات المقدمة للحجاج في أمنهم وسلامتهم وسكنهم وإعاشتهم ويدفع مفاسد عظيمة من الافتراش في الطرقات الذي يعيق تنقلاتهم وتفويجهم وتقليل مخاطر الازدحام والتدافع المؤدية إلى التهلكة.
ثم إن الالتزام باستخراج التصريح للحج هو من طاعة ولي الأمر في المعروف قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)[النساء:59]، وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ فِي عُسْرِكَ وَيُسْرِكَ، وَمَنْشَطِكَ وَمَكْرَهِكَ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْكَ، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الْأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الْأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي"(رواهما مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-).
والنصوص في ذلك كثيرة، كلها تؤكد على وجوب طاعة ولي الأمر في المعروف وحُرمة مخالفة أمره.. والالتزام باستخراج التصريح من الطاعة في المعروف، يثاب من التزم به ويأثم من خالفه ويستحق العقوبة المقررة من ولي الأمر.
والحج بلا تصريح لا يقتصر ضرره على الحاج نفسه، وإنما يتعدى ضرره إلى غيره من الحجاج الذين التزموا بالنظام، ومن المقرر شرعاً أن الضرر المتعدي أعظم إثماً من الضرر القاصر، وفي الحديث المتفق عليه قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"(رواه البخاري ومسلم).
ونصَّت الفتوى على: "أنه لا يجوز الذهاب إلى الحج دون أخذ تصريح ويأثم فاعله لما فيه من مخالفة أمر ولي الأمر الذي ما صدر إلا تحقيقًا للمصلحة العامة"، وذكرت الفتوى أنه "وإن كان الحج حج فريضة ولم يتمكن المكلف من استخراج تصريح الحج فإنه في حكم عدم المستطيع قال الله -تعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن:16]، وقال -سبحانه-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)[آل عمران:97].
ومن أعظم الذنوب الذي تهاون به بعض الناس أن يلبس من نوى الإحرام ملابسه حتى لا يعلم المفتشون أنه محرم؛ ليدخل مكة ثم إذا أمن لبس ملابس الإحرام.
اللهم اهدنا سُبل الرشاد وارزقنا الطاعة وجنبنا العناد.
التعليقات