اقتباس
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: تصح مع العذر دون غيره مثل ما إذا كان زحمة، فلم يمكنه أن يصلي الجمعة أو الجنازة إلا قدام الإمام، فتكون صلاته قدام الإمام خيرًا له من تركه للصلاة. وهذا قول طائفة من العلماء، وهو قول في مذهب أحمد وغيره. وهو أعدل الأقوال وأرجحها، وذلك لأن...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين.
لصلاة الجماعة ضوابط وقواعد ينبغي مراعاتها وتعلمها، ومن أهم هذه القواعد: الاقتداء التام بالإمام. وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما جعل الإمام ليؤتم به"، دليل ألا يتقدم المأمومين على الإمام ويختلفوا عليه، سواء بالتقدم عليه أو التأخر عنه؛ لأن الاختلاف على الإمام لا يكون اقتداء به.
وقد اختلف أهل العلم في صحة صلاة من تقدم على إمامه في الصلاة على ثلاثة أقوال:
إذا تقدم المأموم على إمامه في الموقف، فإن تقدم عليه في جهته([1]) وفي أثناء صلاته بطلت، وهو مذهب الجمهور: الحنفية([2])، والشافعية([3])، والحنابلة في المشهور من مذهبهما([4]).
قال الإمام السرخسي-رحمه الله-: وإن تقدم المقتدي على الإمام لا يصح اقتداؤه به([5]). وقال الإمام النووي-رحمه الله-: إذا تقدم المأموم على إمامه في الموضع، فقولان مشهوران: الجديد الأظهر، لا تنعقد([6]). وقال الإمام ابن قدامة-رحمه الله-: السنة أن يقف المأمومون خلف الإمام، فإن وقفوا قدامه لم تصح وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ([7]).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- من الليل فتوضأ من شن معلق وضوءًا خفيفا-يخففه عمرو ويقلله- وقام يصلي فتوضأت نحوًا مما توضأ ثم جئت فقمت عن يساره، وربما قال سفيان، عن شماله - فحولني فجعلني عن يمينه ثم صلى ما شاء الله ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة فقام معه إلى الصلاة فصلى ولم يتوضأ قلنا لعمرو إن ناسا يقولون إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنام عينه، ولا ينام قلبه)([8]).
ووجه الدلالة:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أداره من وراء ظهره، وكانت إدارته من بين يديه أيسر؛ فدل على عدم جواز تقدم المأموم على الإمام([9]).
ومن ذلك ما جاء عن عائشة -رضي الله عنها-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما جعل الإمام ليؤتم به.. "([10]).
ووجه الدلالة:
أن الائتمام: الاتباع، والمتقدم غير تابع([11]).
القول الثاني:
أنها تصح مع الكراهة، إن كان ذلك بغير عذر، أما إن كان لعذر كضيق المسجد، جاز من غير كراهة، وهذا مذهب المالكية، والقول القديم للشافعي. جاء في الشرح الكبير: (و) كرهت للجماعة "صلاة بين الأساطين" أي الأعمدة (أو) صلاة (أمام) أي قدام (الإمام) أو بمحاذاته (بلا ضرورة)([12]). وقال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: قوله: أو أمام الإمام، أي ولو تقدم الجميع؛ لأن مخالفة الرتبة لا تفسد الصلاة كما لو وقف على يسار الإمام، فإن صلاة المأموم لا تبطل([13]).
وعند المالكية لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة. قال أبو الحسن المالكي: إلا أن المرأة إذا تقدمت إلى مرتبة الرجل أو أمام الإمام فكالرجل يتقدم، فيكره له ذلك من غير عذر، ولا تفسد صلاته ولا صلاة من معه([14]).
القول الثالث:
أنها تصح مع العذر دون غيره مثل ما إذا كان زحمة فلم يمكنه أن يصلي الجمعة أو الجنازة إلا أمام الإمام، فتكون صلاته أمام الإمام خيرًا من صلاته وحده، وهذا القول قول في مذهب الإمام أحمد، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره، وهذا القول هو أرجح الأقوال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-: تصح مع العذر دون غيره مثل ما إذا كان زحمة، فلم يمكنه أن يصلي الجمعة أو الجنازة إلا قدام الإمام، فتكون صلاته قدام الإمام خيرًا له من تركه للصلاة. وهذا قول طائفة من العلماء، وهو قول في مذهب أحمد وغيره. وهو أعدل الأقوال وأرجحها، وذلك لأن ترك التقدم على الإمام غايته أن يكون واجبا من واجبات الصلاة في الجماعة، والواجبات كلها تسقط بالعذر([15]).
وبهذا النقل تعلم أن صلاة المأموم أمام الإمام لا تصح إلا إذا كان ذلك لعذر، فإن كان يمكن الاستغناء عن المصليات التي يحدث فيها تقدم على الإمام بغيرها من المصليات، صحت فيها صلاة من تأخر خلفه ولم تصح صلاة من تقدم عليه، وإن كان لا يمكن الاستغناء عن الصلاة فيها بالصلاة في غيرها وكان المتقدم على الإمام معذورًا لضيق المسجد ونحو ذلك صحت صلاة الجميع، ولا يضر في مثل هذا تقدم النساء على الإمام مع وجود الساتر إذا لم يمكن جعلهن خلف الرجال.
وسئل ابن عثيمين: -رحمه الله-: هل يجوز تقدم المأموم على الإمام؟
فأجاب قائلاً: الصحيح أن تقدم الإمام واجب، وأنه لا يجوز أن يتقدم المأموم على إمامه، لأن معنى كلمة إمام أن يكون إماماً يعني يكون قدوة ويكون مكانه قدام المأمومين فلا يجوز أن يصلي المأموم قدام إمامه، وقد كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي قدام الصحابة -رضي الله عنهم- وعلى هذا فالذين يصلون قدام الإمام ليس لهم صلاة ويجب عليهم أن يعيدوا صلاتهم إلا أن بعض أهل العلم استثنى من ذلك ما دعت الضرورة إليه مثل أن يكون المسجد ضيقاً وما حواليه لا يسع الناس فيصلي الناس عن اليمين واليسار والأمام والخلف لأجل الضرورة([16]).
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(([1] أما إذا كان المأموم في غير جهة الإمام فلا تبطل، وذلك يتصور فيما إذا صلوا حول الكعبة، فإنهم إذا استداروا حول الكعبة، فإن كان بعضهم أقرب إلى الكعبة من الإمام في غير جهته- على الجهة المقابلة للإمام- صحت صلاتهم. ينظر: تبيين الحقائق للزيلعي (1/250).
وسئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-: هل يجوز تقدم المأموم على إمامه في الصف؟ وهل المعمول به في الحرم من تقدم المأمومين في الجهة المقابلة للإمام من التقدم على الإمام أم لا؟
فأجاب بقوله: أما إذا كان الإمام والمأموم في جهة واحدة فإنه لا يجوز تقدم المأموم على الإمام إلا عند الضرورة على قول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله.
وأما إذا كان الإمام في جهة والمأموم في جهة كما في صف الناس حول الكعبة في المسجد الحرام فلا بأس أن يكون المأمومون أقرب إلى الكعبة من الإمام في جهتهم. مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (12/44).
(([2] تبيين الحقائق للزيلعي (1/250).
(([3] المجموع للنووي (4/299).
(([4] كشاف القناع للبهوتي (1/485).
([5]) المبسوط (1/40).
(([6] المجموع (4/299).
([7]) المغني (2/44).
(([8] أخرجه البخاري (1/47)، رقم: (138).
(([9] حاشية الطحطاوي (1/206).
(([10] رواه البخاري (1/106)، رقم: (378).
([11]) مغني المحتاج للشربيني (1/245).
([12]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/249).
([13]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (3/250).
([14]) كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني (1/387).
([15]) مجموع الفتاوى (23/404, 405).
([16]) مجموع الفتاوى (23/404, 405).
التعليقات