د. أيمن محمود مهدي
أولًا: تعريفها في اللغة: هي الطريقة المتَّبعة، والسيرة المستمرَّة، سواء كانت حسنة أم سيئة[1]، وقد استُخْدِمَت بهذا المعنى في القرآن والسُّنة، قال تعالى: ﴿ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: 77].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن سنَّ في الإسلام سُنةً حسنة، فله أجرها وأجر مَن عمِل بها بعده مِن غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَن سنَّ في الإسلام سُنةً سيِّئة، كان عليه وزرها ووِزْر مَن عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء))[2].
فإذا أُطْلِقت كلمة (السُّنة) مفردةً ومعرَّفةً بالألف واللام في لغةِ الصحابة والسلف، فالمراد بها: سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: الطريقة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرَّاها في تنفيذ ما بعثه الله عز وجل به من الهُدى ودين الحق.
فالسُّنة هي الطريقة والعادة المتَّبعة، والطريقة المبتدَأة، حسنة كانت أو سيئة، ولكن علماء اللغة اتَّفقوا على أن كلمة (السُّنة) إذا أُطلقت انصرفت إلى الطريقة أو السيرة الحسنة فقط، ولا تستعمل في السيئة إلا مُقَيَّدة[3].
ثانيًا: تعريفها في الاصطلاح:
اختلف العلماء في تعريف السُّنة على حسب اختلاف أغراضهم واختصاصاتهم، فلكل طائفة من العلماء غرضٌ خاص مِن بحثهم.
فغرض المحدِّثين: البحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة، الذي أمر الله عز وجل بالاقتداءِ به في كل شيء؛ ولذلك عُنُوا بنقل كل ما نُسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، وسيرة وشمائل، سواء أثْبَت المنقولُ حكمًا شرعيًّا أم لا، مع بيان درجته من حيث القبول والرد.
وغرض الأصوليين: البحث عن المصادر الشرعية التي تُؤْخَذ منها الأحكام الفقهية من قرآن وسنة وإجماع وقياس؛ ولذلك اعتَنَوا بما يُثْبِت الأحكام الشرعية من قولٍ وفعلٍ وتقرير فقط.
وغرض علماء الفقه: البحث عن حكم الشرع على أفعال العباد مِن فرض وواجب ومندوب، وحرام ومكروه، ومباح.
وغرض علماء الوعظ: الاعتناء بأوامر الشرع ونواهيه، فأوامره سنة، ونواهيه بدعة.
وإذا ورد لفظ (السُّنة) مطلقًا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فالمراد به: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين، والمنهج النبوي الحنيف[4].
السُّنة في اصطلاح المحدِّثين:
عرَّف المحدِّثون السُّنة بأنها: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته الخِلْقِية والخُلُقية، وسائر أخباره، سواءٌ أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
فالسُّنة مرادِفة للحديث المرفوع، ولا تشمل الموقوف ولا المقطوع، واستدلُّوا لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى ما جاء على لسانه غير القرآن سُنةً، فقال: ((يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله، وسُنتي))[5].
وعلى هذا القول يُحمل تسمية كثير من المحدِّثين لكتبهم الخاصة بالحديث المرفوع - باسم السنن؛ مثل: سنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النَّسائي، وسنن ابن ماجه، وسنن الدارقطني، وغيرها.
وقال بعض العلماء: السُّنة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته، وسائر أخباره، قبل البعثة أو بعدها، وكذلك أقوال الصحابة وأفعالهم، واستدلُّوا على ذلك: بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بسُنتي، وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ))[6].
وقال بعض العلماء: السُّنة هي ما كان عليه العمل في الصدر الأول للإسلام، وعلى هذا يُحمل قول عبدالرحمن بن مهدي: لم أرَ أحدًا قط أعلم بالسُّنة ولا بالحديث الذي يدخل في السنة من حماد بن زيد.
وقوله عندما سُئِل عن سفيان الثوري والأوزاعي ومالك، فقال: سفيان الثوري إمامٌ في الحديث وليس بإمامٍ في السنة، والأوزاعي إمامٌ في السنة وليس بإمامٍ في الحديث، ومالك إمامٌ فيهما[7].
وأرى أن هذا القول يتطابق مع القول الذي يليه.
وهو أن السُّنة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته وسائر أخباره قبل البعثة وبعدها، وكذلك أقوال الصحابة والتابعين وأفعالهم، وهذا قول جمهور المحدِّثين، وهي عندهم مرادفة للحديث؛ ولذلك سمَّى الحافظ البيهقي كتابه "السنن الكبرى"، مع أنه ضمنه فتاوى الصحابة والتابعين وأقوالهم، واستدلُّوا لذلك بأن الصحابة رضوان الله عليهم خالَطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا نزول الوحي، ثم خالط التابعون الصحابةَ وجالسوهم، وسمِعوا منهم، مع حبهم الشديد للسنة، وحرصِهم التامِّ على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مع ما كانوا عليه من فقهٍ وعلم وذكاء؛ ولذلك دخلت أقوالهم وأفعالهم في مفهوم السنة[8]، وهذا هو أرجح الأقوال وأقواها، وهو ما جرى عليه العمل عند المحدِّثين[9].
السنة في اصطلاح الأصوليين:
عرَّف علماء أصول الفقه السُّنة بأنها: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته، التي يُسْتدَلُّ بها على الأحكام الشرعية[10]، فهم يبحثون عن السُّنة بصفتها مصدرًا للتشريع، وتالية للقرآن الكريم، وهذه الثلاثة هي التي تُثبت الأحكام وتقرِّرها، فهي تدل على طريقته في فهم دين الله عز وجل والعمل به، أما أقواله وأفعاله وتقريراته التي تُعَدُّ من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فليست داخلةً في مفهوم السنة عند الأصوليين، وكذلك صفاته؛ لأنها لا تُفِيدُ حكمًا شرعيًّا يتعبَّدُ الناس به.
السنة في اصطلاح الفقهاء:
السنة عند الفقهاء هي: ما ثبَت طلبه بدليلٍ شرعي، من غير افتراض ولا وجوب؛ مثل: تقديم اليمنى على اليسرى في الطهارة، ومثل الركعتينقبل الظهر[11]، فهي بمعنى المندوب والمستحبِّ، فيثاب المسلم على فعلها، ولا يعاقب على تركها، فهي أحد الأحكام الشرعية الخمسة عند الفقهاء.
السنة عند علماء الوعظ والإرشاد:
علماء الوعظ يريدون بالسنة ما يقابل البدعة، فيقال عندهم: فلانٌ على سُنة، إذا عمِل بما يوافق الشرع، وفلانٌ على بدعة، إذا عمِل على خلاف ذلك.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: الاقتصاد في السنة خيرٌ من الاجتهاد في البدعة.
وفي بعض الآثار: ما أحدث قومٌ بدعة إلا أضاعوا مثلها من السُّنة.
ولذلك اشتهر على الألسنة: طلاق السُّنة؛ لموافقته للسنة، وطلاق البدعة؛ لمخالفته لها.
شرح تعريف السنة عند المحدثين:
السنة هي: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته، وسائر أخباره قبل البعثة وبعدها.
والمقصود بأقواله: كلُّ ما تلفَّظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مختلف الظروف والمناسبات، ويطلِق عليه العلماء السنةَ القولية، ويُجمع فيُقال: سنن الأقوال، وهي تمثِّل جمهرة السُّنة، وعليها مدار التوجيه والتشريع، وفيها يتجلَّى البيان النبوي، وتتمثَّل البلاغة المحمدية بأجلى صورها.
ومثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن سأل الله الشهادةَ بصدق، بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه))[12].
والأقوال النبوية الصحيحة تمثِّلُ ذروةَ البيان البشري والبلاغة الإنسانية، مبنًى ومعنى، مضمونًا وشكلًا، فكرةً وأسلوبًا، فقد حوت من جوامع العلم، وجواهر الحِكَم، وحقائق المعرفة، وروائع التشريع، وبدائع التوجيه، وغرائب الأمثال، ونوادر التشبيه - ما لم يَحْوِه كلام بليغ ولا حكيم، مع سهولةٍ فائقة، وعذوبةٍ رائعة، وحيويةٍ بالغة، جعَلَت في الكلمات روحًا يسري كما تسري العصارة في الأغصان الحية، وهي أجدر أن توصف بأنها تنزيلٌ من التنزيل، وقبسٌ من نور الذكر الحكيم، وهذا ما نوَّه به كبار الأدباء والبلغاء في مختلف العصور[13].
والمقصود بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم: سلوكُه وتطبيقه العملي للوحي المنزَّل عليه.
فقد نُقِل عن النبي صلى الله عليه وسلم كلُّ تفاصيل حياته البيتية وعلاقاته الزوجية، وإذا كان لبعض العظماء جوانب مستورة في حياتهم الخاصة بما فيها من هَنَاتٍ أو ثغرات لا يعرفها إلا أصفياؤهم، ولا يُحِبُّون أن تُحْكَى عنهم - فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حكوا عنه كلَّ تفاصيل نومِه ويقظته، وخلوته وجلوته، ومدخله ومخرجه، ومأكله ومشربه، وملبسه ومركبه، وضحكه وبكائه، وسفره وحضره، وسِلْمِه وحربه... إلخ؛ لأن حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها موضعُ اقتداءٍ، وهَدْيه في ذلك خير الهَدْي وأكمله، ويلحق بفعل النبي صلى الله عليه وسلم تركُه؛ لأن ما ترَكه النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام الدواعي على فعله، وانتفاء الموانع منه، كان من السنة تركهُ؛ وذلك مثل تركه صلاة العيد في المسجد؛ ولذلك حرَص الصحابةُ رضوان الله عليهم على نقل تركِ النبي صلى الله عليه وسلم للفعل إذا ظهر قصده إليه، كما حرَصوا على نقل فعله.
ومثاله:
1- ما رواه جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: شهِدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذانٍ ولا إقامة...؛ الحديث[14].
2- ما رواه المُغيرة بن شُعْبة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه خرج لحاجته، فاتَّبعه المغيرة بإداوةٍ فيها ماء، فصب عليه حين فرغ من حاجته، فتوضأ ومسح على الخفَّينِ[15].
والمقصود بتقريرات النبي صلى الله عليه وسلم: كلُّ ما صدر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم من أقوال أو أفعال، وأقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم عليها بسكوته وعدم إنكاره، أو بموافقته وإظهار استحسانه وتأييده، فيُعْتَبر ما صدر عنهم بهذا الإقرار والموافقةِ عليه صادرًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ذاته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يُقِرُّ باطلًا، ولا يسكت على منكر، فما أقرَّه دلَّ على أنه لا حرج فيه[16].
وقد يكون إقرارُ النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد السكوت فقط، وقد يكون بشيء أكثر من السكوت؛ كالتبسُّم، وإظهار البِشْرِ، والرضا، ونحو ذلك.
ومثاله: ما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: احتلمتُ في ليلةٍ باردةٍ في غزوة ذات السلاسل، فأشفقتُ إنِ اغتسلتُ أن أَهلِكَ، فتيمَّمتُ، ثم صلَّيتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا عمرو، صليتَ بأصحابك وأنت جُنُبٌ؟))، فأخبرتُه بالذي منعني من الاغتسال، وقلتُ: إني سمعتُ الله عز وجل يقول:﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، فضحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا[17].
وقد يكون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من ذلك.
ومثاله: ما روَتْه السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: لقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حُجرتي والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه أنظر إلى لَعِبهم[18].
فالحبشة يلعبون في المسجد بالسلاح تمرينًا على الحرب، واستعدادًا للقتال،فلا يُنْكِر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيصير ذلك مباحًا، ولا يُعَدُّ مخالفًا للسنة.
والمقصود بصفاته الخِلقية - بكسر الخاء -: ما يتعلق بذاته وتكوينه.
ومثاله:حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وأحسنهم خَلْقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير[19].
وإنما عدَّ العلماء ذلك من السُّنة - مع أنه لا يمكن الاقتداء بها؛ لأنها من قدر الله عز وجل، والسنة مبنيَّة على الاتِّباع - لكي نعلم صفات الرسول صلى الله عليه وسلم الخِلْقِية التي أوجده الله تعالى عليها، وحتى نتيقَّن مِن أن الله عز وجل خلقه على أحسن هيئةٍ، وأكمل صورة بشرية، وبرَّأه من كل عيب خِلْقِي، وهذا من أدلة صدقه صلى الله عليه وسلم، وحتى نتأكَّد من أن الله عز وجل أوجده على نفس الهيئة وبنفس الصفات التي ذُكِرت في الكتب السابقة، وفي هذا دليلٌ على صدقه ونبوته، وحتى نردَّ مطاعِنَ أعداء الإسلام الذين يَبْغُون تشويه صورته، وإلصاق النقص به، وحتى نقتدي بكل ما يمكن الاقتداء به منها؛ مثل صفة لحيته صلى الله عليه وسلم[20].
والمقصود بصفاته الخُلقية - بضم الخاء -: ما يتعلَّق بأخلاقه الشريفة.
ومثاله: ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرها[21].
وأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم مع جانبٍ من أقواله وأفعاله - هي التي تُكَوِّنُ شمائله، التي ألَّف فيها الإمام الترمذي وغيره، واهتمَّ بها الشُرَّاح وكُتَّاب السِّيرة النبوية.
والمقصود بسائر أخباره صلى الله عليه وسلم: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حركة وسكون في كل أحواله، يقظةً أو منامًا؛ فإن الله عز وجل قد تعبَّدنا بالاقتداء به في كل شيء، وجعله صلى الله عليه وسلم النموذجَ المثالي للإنسان الكامل الذي يسعى المسلم إلى الاقتراب منه والتشبُّه به؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
فحركاته صلى الله عليه وسلم وسائلُ تربويةٌ تعليمية، يقصد النبي صلى الله عليه وسلم من ورائها شدَّ انتباه المتلقِّي، ولَفْت نظره إلى أهمية ما يُلْقَى عليه، فيرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، فيكون ذلك أدعى للفهم والحفظ.
ومثال ذلك: ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطًّا مربعًا، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخطَّ خُططًا صِغارًا إلى هذا الذي في الوسط، من جانبه الذي في الوسط، وقال: ((هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارجٌ أملُه، وهذه الخطط الصغار الأعراض؛ فإن أخطأه هذا، نهَشَه هذا، وإن أخطأه هذا، نهشه هذا))[22].
وهنا نلاحظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدم الرسمَ وسيلة للتعليم، ولم يكتفِ بمجرد الكلام إحضارًا لذهن المستمع، وهذا ما وصل إليه علماء التربية اليوم، وقد سنَّه النبي صلى الله عليه وسلم وعلَّمَنا إياه من أكثر من أربعة عشر قرنًا، فيا له من دينٍ لو كان له رجال!
وسكوته صلى الله عليه وسلم نستفيد منه: أحكامًا شرعية، فنسكت في الموضع الذيسكت فيه، ويكون الصمت فيه أفضلَ من الكلام.
ومثال ذلك: ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فانتهينا إلى القبر، فجلسنا كأنَّ على رؤوسنا الطير[23].
فالنبي صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنا في هذا الحديث بسلوكه العملي: أن الصمت عند دفن الموتى أفضل من الكلام؛ من أجل العظة والاعتبار، واحترامًا لجلال الموقف.
والمقصود بما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال اليقظة: الاقتداء به في كل ما صدر عنه من قولٍ، وفعلٍ، وتقريرٍ، وحركةٍ، وسكونٍ، في حال يقظته؛ فهو لا ينطق عن الهوى، ولا يقول إلا حقًّا، في الغضب والرضا، عند الحزن والفرح.
فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنتُ أكتبُ كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهَتْني قريش؛ فقالوا: إنك تكتبُ كلَّ شيءٍ تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ يتكلَّم في الغضب والرضا، فأمسكتُ عن الكتاب، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((اكتب؛ فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلا حق))[24].
والمقصود بما صدر عنه في حال النوم: ما رآه في نومِه وأخبَر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى إلا حقًّا، ولا يستولي الشيطان على قلبه، ورؤيا الأنبياء وحيٌ؛ لأن عينَه تنام ولا ينام قلبه.
وقد حدَّثنا القرآن الكريم عن قصةِ نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم وكيف همَّ بذبح ولده بِناءً على رؤيا رآها في المنام، فعلِم أنه أمرٌ من الله عز وجل واجب التنفيذ، وقد قال الله عز وجل لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ﴾ [الأنفال: 43]، فما يراه النبي صلى الله عليه وسلم في نومه رؤيا من الله عز وجل وحدَه.
وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ﴾ [الفتح: 27]، فرؤيا الأنبياء من عند الله عز وجل، وهي حقٌّ وصدق.
وعن السيدة عائشةَ رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلَقِ الصبح[25].
فما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حال نومه وحي، وهو من السُّنة المطهَّرة الواجبة الاتباع.
ومثال ذلك: ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((رأيتُ في المنام أني أُهاجِر من مكة إلى أرضٍ بها نخلٌ، فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة، أو هَجَر، فإذا هي المدينة: يثرب، ورأيتُ في رؤياي هذه أني هززتُ سيفًا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أُحُد، ثم هززتُه أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيتُ فيها أيضًا بقرًا، واللهُ خيرٌ، فإذا هم النَّفر من المؤمنين يوم أُحُد، وإذا الخيرُ ما جاء الله به من الخيرِ بعدُ، وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدرٍ))[26].
ومثاله أيضًا: ما روَتْه السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ((أُرِيتُكِ في المنام ثلاثَ ليالٍ، جاءني بك المَلَكُ في سَرَقَةٍ من حريرٍ، فيقول: هذه امرأتُك، فأكشف عن وجهك فإذا أنتِ هي، فأقول: إن يكُ هذا من عند الله، يُمْضِه))[27]، ولأن هذه الرؤيا وحيٌ من عند الله عز وجل؛ أمضاها الله تعالى، وتزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة عائشةَ رضي الله عنها.
واللافت للنظر في هذا الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ حديثه عن الرؤيا غالبًا بقوله: ((أُرِيتُ))، بالبناء لما لم يُسمَّ فاعله، وكأنه يريد أن يلفت نظر المستمع إلى أنه لا يرى بنفسه؛ وإنما يُريه الله سبحانه ما شاء من وَحْيه.
والمقصود بقولنا: قبل البعثة وبعدها: أننا مأمورون بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، وجميع حياته، فالاقتداء به صلى الله عليه وسلم بعد البعثة واضحٌ، وقد اعتبر العلماء حياته قبل البعثة من السُّنة؛ لأن الله تعالى فَطَرَه على مكارم الأخلاق، وعصمه من مساوئها، وحفِظه من آثام الجاهلية، فكان مشهورًا بينهم بالصدق والأمانة، وهذه أدلة على صدقه في ادِّعاء النبوة؛ ولذلك عدَّ العلماء حياته قبل البعثة جزءًا من السنة؛ لأنها دليلٌ على صدقه.
فمن السنة نقلُ ما يتعلَّق بولادته، ورضاعته، ونشأته، وبعثته، وغير ذلك مما لم يعرف عن طريق قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومثل ذلك: وفاته، وتجهيزه، ودفنه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي[28]، فسيرة النبي صلى الله عليه وسلم جزءٌ من سنته.
[1] تاج العروس 9/ 243، لسان العرب 6/ 399.
[2] مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، 2/ 704، رقم: 1017.
[3] إرشاد الفحول؛ للشوكاني، صـ: 32، المعجم الوسيط 1/ 455.
[4] لمحات من تاريخ السنة وعلوم الحديث؛ للشيخ عبدالفتاح أبو غدة صـ: 14.
[5] الحاكم في المستدرك 1/ 172، رقم: 318، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 114.
[6] أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة 4/ 200، رقم: 4607، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع 5/ 308، رقم: 2685، وقال: حسن صحيح.
[7] الجرح والتعديل؛ لابن أبي حاتم 1/ 176، سير أعلام النبلاء 1/ 176.
[8] حلية الأولياء 6/ 332، الجرح والتعديل 1/ 118.
[9] شفاء الصدور في تاريخ السنة ومناهج المحدثين؛ للدكتور السيد نوح، صـ 8 - 13.
[10] راجع: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 2/ 96، على هامش المستصفى للغزالي، والإحكام في أصول الأحكام؛ للآمدي 1/ 127، وإرشاد الفحول؛ للشوكاني صـ: 33.
[11] إرشاد الفحول صـ: 33.
[12] مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى 3/ 1517، رقم: 1909.
[13] راجع: المدخل لدراسة السنة النبوية؛ للدكتور يوسف القرضاوي صـ: 21،22.
[14] مسلم، كتاب صلاة العيدين 2/ 603، رقم: 885.
[15] البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين 1/ 367، رقم: 203، ومسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين 1/ 228، رقم: 274.
[16] راجع: الإحكام في أصول الأحكام؛ لابن حزم 2/ 146.
[17] ذكره البخاري تعليقًا، كتاب التيمم، باب إذا خاف الجنب على نفسه المـرض أو المـوت أو خاف العطش، تيمَّم 1/ 541، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب البرد يتيمم 1/ 90، رقم: 334، وأحمد في المسند 13/ 507، رقم: 17739، وإسناده حسن.
[18] البخاري، كتاب الصلاة، باب أصحاب الحراب في المسجد 1/ 653، رقم: 454، ومسلم، كتاب العيدين، باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه أيام العيد، 2/ 608، رقم: 892.
[19] البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 6/ 652، رقم: 3549، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان أحسن الناس وجهًا 4/ 1819، رقم: 2337.
[20] تيسير اللطيف الخبير في علوم حديث البشير النذير؛ للدكتور مروان شاهين 1/ 21، 22.
[21] البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 6/ 654، رقم: 3562، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم 4/ 1809، رقم: 2320.
[22] البخاري، كتاب الرقاق، باب في الأمل وطوله 11/ 239، رقم: 6417.
[23] أبو داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر 4/ 240، رقم: 4753، النسائي، كتاب الجنائز، باب الوقوف للجنائز 4/ 77.
[24] أبو داود، كتاب العلم، باب في كتاب العلم 3/ 317، رقم: 3646، أحمد في المسند 6/ 68، رقم: 6510، وإسناده صحيح.
[25] البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي 1/ 30، رقم: 3، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1/ 139، رقم: 160.
[26] البخاري، كتاب التعبير، باب إذا رأى بقرًا تنحر 12/ 439، رقم: 7035، ومسلم، كتاب الرؤيا، باب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم 4/ 1779، رقم: 2272.
[27] البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة 7/ 264، رقم: 3895، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب في فضل عائشة 4/ 1889، رقم: 1438.
[28] راجع: المدخل لدراسة السنة النبوية، صـ: 34.
التعليقات