عبدالله يعقوب تركستاني
الحمد لله الذي يعلم ما تخفي القلوبُ والخواطر، ويرى خائنةَ الأحداق والنواظر، المطّلعِ على خفيّات السرائر، العالمِ بمكنونات الضمائر، المستغني في تدبير الكون عن المشاور والمؤازر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلّبُ القلوب، وغفارُ الذنوب، وساترُ العيوب، ومفرجُ الكروب.
وأشهد أن نبينا محمداً عبدُه ورسولُه سيدُ الأنبياء والمرسلين، وجامعُ شملِ الدين، وقاطعُ دابرِ الملحدين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، فما أفلح عبد وفاز إلا بتقوى الله (فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون).
عباد الله... إن بيتَ الله الحرام، هو منارةُ التوحيد، بناه إمامُ الموحدين إبراهيم الخليل عليه السلام، وأمره الله أن يطهر بيته من الرجس والأوثان، لأن قدرَ الله الغالب.. ألاَّ مكان للوثنية والشرك عند بيته المحرم.
وإنَّ مِن المطالبِ العاليةِ، والأهدافِ الشرعيةِ الساميةِ، تطهيرَ البيتِ الحرامِ، وتهيئتَه للطوافِ والصلاةِ والقيامِ، أمرَ بذلكَ رَبُ العالمينَ في كتابِهِ الحق المبين، فقال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وتطهيرُ البيتِ هو عهدُهُ تعالى إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلام، قال تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
والتَّطهيرُ الذي أمرّ اللهُ بهِ في البيتِ هو تطهيُرهُ من الأصنامِ وعبادةِ الأوثانِ فيه ومن الشركِ بالله، كما قال ابنُ جريرٍ الطبري.
وإذا كانَ تطهيرُهُ مِن الشركِ حتماً لازماً، فإنَّ تطهيرَهُ من المنكراتِ الظاهرةِ بإزالتها، والذنوبِ والمعاصي بهجرهِا، والسلوكياتِ المنحرفةِ بعلاجها يأتي تبعاً لذلك، قال الثعالبي: تطهيرُ البيتِ عامٌ فى الكفرِ والبدعِ وجميعِ الأنجاسِ والدماءِ وغيرِ ذلك.
والمقصودُ أنْ يهيأ البيتُ للصلاةِ والطوافِ والاعتكافِ والذكرِ وسائرِ العبادات.
والمتأملُ في هدي النبي صلى الله عليه وسلم يجدُ ذلك واضحاً جلياً حيث طهَّرَ الكعبةَ المشرَّفةَ مِن الصورِ والأوثان التي فيها، فعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لمَّا قَدِمَ، أبى أنْ يدخلَ البيتَ وفيه الآلهةُ، فأمَرَ بها فأخرجتْ، فأخرجوا صورةَ إبراهيمَ وإسماعيلَ في أيديهما الأزلام، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (قاتَلَهم اللهُ، أمَا واللهِ قدْ علموا أنهما لم يستقسما بها قط). رواه البخاري.
وعن عبد اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: دخَلَ النبيُ صلى الله عليه وسلم مكةَ، وحولَ الكعبةِ ثلاثمائةٍ وستون نُصُباً، فجَعَلَ يطعنُها بعُودٍ في يدِهِ وجَعَلَ يقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ...) الآية. متفق عليه.
ومِنْ هنا يُعلم أنَّ تطهيرَ البيتِ أمرٌ واجبٌ مرغوب، وهو هديُ الأنبياءِ والمرسلين، وشعارُ الهداةِ المصلحين، وأنَّ تدنيسَه والإساءةَ إليه أمرٌ محرمٌ مرهوب، وهو سبيلُ المشركين وشعارُ الفاسقين.
وتأتي أهميةُ تطهيرِ البيتِ لأمورٍ عِدَّة:
أولاً: أنَّه بيتُ الله، أضافه إلى نفسِه إضافةَ تشريفٍ وتعظيم، وتطهيرُ بيتِ اللهِ الحرامِ مقدمٌ على تطهيرِ غيرِهِ من الجوامعِ والمساجد، فضلاً عن بيوتِ الناس.
وثانياً: أنَّه قَرَن تطهيرَ البيتِ بالطوافِ والصلاةِ وهما من أعظمِ الشعائر ولا يمكن أداؤها إلاَّ بتطهيرِ المكانِ والجسد.
وثالثاً: أنَّ المستفيدَ من التَّطهير هم أؤلئك الأخيارُ الأبرارُ من المصلين والطائفين والعاكفين والحجاجِ والعمارِ وزوارِ البيتِ الحرام.
وقد يتساءَل البعضُ: هل ثمَّةَ مجالٌ للتطهيرِ ونحن نَنْعَمُ هذا الزمان -ولله الحمد- بنعمةِ الأمنِ والإيمانِ في بيتِ اللهِ الحرام؟
والجوابُ أنَّ التَّطهيرَ لا يكونُ مِنْ الشِّركِ فقط، بل مِنْ وسائلِهِ الموصلةِ إليه كالبدعِ والمحدثات، وكذا التَّطهيرُ من الذنوبِ الظاهرةِ والباطنة، والنجاساتِ الحسيَّةِ والمعنوية، وغير ذلك، وعلى هذا فلا يزالُ التَّطهيرُ قائماً، وله صورٌ عديدةٌ منها: إقامةُ الدروسِ العلميةِ التي تطَّهر الاعتقادَ والعبادات، والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ الذي يطهِّرُ الأخلاقَ، والعنايةُ بالنظافةِ التي تطَّهر من النجاسات، وتهيئةُ المسجدِ للصلاة، بل ويدخلُ فيه كلَّ ما يريحُ المصلين والطائفين ويهيئُ لهم الجوَ المناسبَ لأداءِ العبادةِ في يسرٍ وطمأنينةٍ.
ولئنْ سجَّلَ التاريخُ في فتراتٍ سابقةٍ حوادثَ تدنيسٍ مأساويةٍ مرَّتْ على بيتِ اللهِ الحرام كرمي الكعبةِ بالمنجنيقِ على عهد الحجاج، أو استباحةِ القرامطةِ له إبان الدولة العباسية، أو استباحةِ الخوارج له والاعتصام فيه أياماً عدة مطلع هذا القرن، أوتسلّطِ الصفويين وقتلهم الحجاج ورجال الأمن من حولِه، فإنَّ التاريخَ يُسَجِّلُ بكلِ فَخْرٍ واعتزازٍ تلك الجهود الضخمة التي تقومُ بها الجهاتُ المسؤولةُ في بلادِ الحرمين الشريفين في سبيلِ تطهيرِ البيتِ الحرامِ وإعدادِهِ وتهيئتِهِ لإقامةِ مختلفِ العباداتِ فيه.
وفي المقابل قد يتساءل البعض: هل التَّطهيرُ قاصرٌ على المسجدِ الحرامِ فقط؟ أم يشْمَلَ مكةَ جميعاً؟ ولا شك أنَّ الثاني هو الصوابُ، وأنَّ تطهيرَ البلدِ الحرامِ مَطْلَبٌ مُلِّحٌ في وقتٍ فُتحتْ فيه أبوابُ الفتنِ على مصاريعها، ودبَّ إلى بلدِ اللهِ الحرامِ أنواعٌ من المنكراتِ، تستوجبُ تكاتفَ الغيورين من أبنائِها لإزالتِها وتطهيرِ البلدِ الحرامِ منها.
أليس في بلد الله الحرام... من يتاجر في الحرام!
كمن يبيع أطباقَ القنوات الفضائية التي يشاهد فيها كل قبيح ماجن، أو يبيع المجلات الهابطة، أو يأكل الربا، ويمارس الغش والخداع وأكل أموال الناس بالباطل.
أليس في بلد الله الحرام من يمارس السحر والشعوذة.
أليس في بلد الله الحرام من يقع في الرذائل الخُلُقية والانحرافات السلوكية.
أليس في بلد الله الحرام من يشرب الخمر والمخدرات.
أليس في بلد الله الحرام من يترك الصلوات المفروضات.
فيا أهلَ بلدِ اللهِ الحرام .. يا منْ أكرمكم اللهُ بالجوار الكريم.. والمقام العظيم..
إنَّ واجبَ التَّطهير لا يُعفى منه إنسان، بل هو الفلاحُ والفخارُ.. يوم يُطَهَّرُ البيتُ الحرامُ.. وتُصانُ فيه الحُرُماتْ.. وتُزالُ عنه المحرَّماتُ والموبقاتُ..
وإنَّه العارُ والشَّنارُ.. يوم تُستحلُ الحُرُمات.. وتنتشرُ المنكرات..
ألا فاقْدروا لهذا الجوارِ قدْره.. واعرفوا له حُرمَتَه وحَقَه..
وليكن الشِّعار.. (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ).
وفقني اللهُ وإيِّاكم لاغتنامِ الباقياتِ الصالحاتِ..
واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فتوبوا إليه واستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
أيها المسلمون...
سكان بلد الله الحرام... يا من اصطفاكم الله بسكنى البلدة الطيبة..
إن خدمةَ الحجاج دليل على طيبِ المنبت، ونقاءِ الأصل، وصفاءِ القلب، وحسن السريرة، وربُنا يرحم من عباده الرحماء.
وهاهم وفد الرحمن من العمار والحجاج، قد نزلوا بلدتكم وحلوا بساحتكم، واجبهم البر والإكرام، وبذل المعروف والاحترام.
فعاملوا إخوانكم الحجاج المعاملة الحسنة، تحلوا بحسن السجايا وكريم الشمائل، وعليكم بالرفق والتراحم ونبل التعامل، وأعينوا إخوانكم، وتواصوا بالحق والعدل، وتعاونوا على البر والتقوى، فلن يبقى للإنسان إلا عملُه، والمرء حي بسجاياه، وإن كان موسدًا مع أهل القبور في لحده. وتذكروا أن خدمة الحاج شرف لنا جميعاً.
أخي المسلم...
ساعد الحاج ولو بأقل القليل.. بحمل متاعه، أو إرشاده لمحل إقامته، أو بكلمة طيبة، أو بابتسامة مشرقة، أو بإلقاء السلام عليه. أو كفَّ أذاك عنه، فهي صدقة من الصدقات. والنبيُ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق". أخرجه مسلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم) رواه ابن ماجه والطبراني وحسّنه الألباني.
ألا فأكرموا وفد الله،
ألا فأكرموا وفد الله،
ألا فأكرموا وفد الله،
واحتسبوا الأجر في ذلك منه سبحانه وتعالى.
التعليقات