عناصر الخطبة
1/ بعث النبي لتزكية النفوس 2/التنشئة الصالحة ثمرة لكل فضيلة والعكس 3/أهمية العلم الشرعي في التربية 4/الصلة بين العقيدة والتربية 5/نماذج من أقوال السلف في التربية السلوك 6/حاجتنا إلى تربية نفوسنا في هذا الزمان.اقتباس
ضَعْفُ التنشئة العَقَدِيَّة التعبدية لدى الفرد يجعله كالريشة في مهب الريح، سهل الانسياق وراء الشهوات والملذات، التي تقوده في الغالب للانحراف والزيغ -إذا لم يكن له من الله عاصم-؛ لأن العقيدة تُربِّي في المسلم قوة اليقين والبصيرة، وقوة الصبر وعلو الهمة والبعد عن الدناءات...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
عباد الله: إن تزكية النفوس وتربيتها من أعظم أمور الدين، وأجل خصاله، حيث اهتم القرآن الكريم بتهذيب النفوس وتنقيتها وتربيتها, وذكر الله -سبحانه وتعالى- النفس في كثير من الآيات في كتابه العظيم.
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- بعثه الله مربياً للنفوس ومزكياً لها, كما قال -سبحانه وتعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران : 164]. ويقول في الآية الأخرى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة : 2].
ولهذا فقد اهتم سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- بتهذيب النفوس علماً وعملاً، لأن التربية تنشأ من التزكية والسلوك الظاهر ملازم للإيمان الباطن، وصلاح الظاهر ناشئ عن صلاح الباطن، وكذا العكس.
بل إن التنشئة التربوية الصالحة ثمرة لكل سلوك فاضل محمود، كما أن التنشئة الفاسدة أساس لكل رذيلة وفساد، وربما يصل إلى إفساد عقيدة الإنسان وتلويث الفطرة التي فطره الله -سبحانه وتعالى- عليها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ" ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [الروم: 30] الآيَةَ... [ البخاري (1358) ، مسلم (2658) ].
أيها المسلمون: لقد حث الإسلام على أهمية التربية في الحفاظ على نقاء النفوس واستقامتها واعتدالها، فكان حريصًا على تعليم الأطفال أركانَ الإسلام والإيمان منذ الصغر وقبل سن التكليف، وجعل مسؤولية هذا الأمر على عاتق الأهل الموكلين بتربية النشء التربيةَ الصحيحة السليمة التي تنجيهم في الدنيا والآخرة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رَحِمَ اللَّهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ" [ مصنف ابن أبي شيبة (25924) ]. يقول الإمام الغزالي -رحمه الله- في تفسير هذا الحديث: أي: "لم يحملْه على العقوق بسوء عمله" [ إحياء علوم الدين ( 2 / 217 )].
إننا نعيش اليوم في تغييب كبير وغفلة عظيمة عن أسس ديننا الإسلامي الحنيف، ومن أكبر وأعظم الأسباب التي ساهمت في ذلك ضعْف التربية والتزكية، بسبب غياب تعلم العلم الشرعي لدى الفرد المسلم، الأمر الذي أفقده حصانة ذاتية ضد الهجمات الشرسة والتيارات التغريبية المنبعثة من جهة الغرب الصليبي الكافر.
إن العلم الشرعي يغرس ويربي في النفس التقوى, وبُعْد النظر لما بعد الدنيا من نعيم أو جحيم، فيجعلها تقدم على الفضيلة، وتحجم وتبتعد عن الرذيلة، ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر : 28].
إن سلفنا الصالح وعلماء أهل السنة والجماعة لم يغفلوا هذا الجانب، بل جعلوه من صميم العقيدة ومن مقومات الدين، وذكروا نقاء النفوس وكيفية تزكيتها في كتبهم ومصنفاتهم.
يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني (ت 449هـ) -رحمه الله– في كتابه [عقيدة السلف]: "ويرون المسارعة إلى أداء الصلوات المكتوبات، وإقامتها في أوائل الأوقات أفضل من تأخيرها إلى آخر الأوقات، ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبدار إلى فعل الخيرات أجمع، ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه ويتقون الجدال في الله، والخصومات فيه، ويجانبون أهل البدع والضالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات" [عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ( ص 97 - 99 ) بتصرف].
ويقول قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصفهاني -رحمه الله-: "ومن مذهب أهل السنة التورع في المآكل والمشارب والمناكح، والتحرر من الفواحش والقبائح، والتحريض على التحابّ في الله -عز وجل-، واتقاء الجدال والمنازعة في أصول الدين، ومجانبة أهل الأهواء والضلالة، وهجرهم ومباينتهم، والقيام بوفاء العهد والأمانة، والخروج من المظالم والتبعات، وترك الزور، وقذف المحصنات، وإمساك اللسان عن الغيبة والبهتان، والفضول من الكلام، وكظم الغيظ والصفح عن زلل الإخوان، ومواساة الضعفاء، والنصيحة في الله والشفقة على خلق الله، والتهجد لقيام الليل لا سيما لحملة لقرآن، والبدار إلى أداء الصلوات" [الحجة في بيان الحجة ( 2 / 528) ].
وذكر ابن تيمية -رحمه الله- جملة من الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة، فقال: "يأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً" [الترمذي (1162)]، ويندبون أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار, والإحسان إلى اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر، والخيلاء، والبغي، والاستطالة على الخلق بحق، أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها. وكل ما يقولونه، ويفعلونه من هذا، وغيره فإنها هم فيه متبعون للكتاب، والسنة" [العقيدة الواسطية (شرح محمد هراس) ص (172، 173)].
لقد أسرفت التربية في بعض المجتمعات الإسلامية اليوم في التركيز على جانب دون آخر، فأخرجت أناساً غير مكتملي النضج، ولا أسوياء النفوس, ووالله الذي لا إله غيره لا تستقيم النفوس ولن تصلح إلا بالتربية المتكاملة ولا تربية متكاملة شاملة إلا في التربية الإسلامية، التي هي تنزيل من خالق الإنسان، العليم الخبير، -سبحانه وتعالى-.
يجب أن يعلم كل مربي أن ضَعْفُ التنشئة العَقَدِيَّة التعبدية لدى الفرد يجعله كالريشة في مهب الريح، سهل الانسياق وراء الشهوات والملذات، التي تقوده في الغالب للانحراف والزيغ -إذا لم يكن له من الله عاصم-؛ لأن العقيدة تُربِّي في المسلم قوة اليقين والبصيرة، وقوة الصبر وعلو الهمة والبعد عن الدناءات والمتاهات، كما قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45]. ويقول -جل وعلا-: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء 110: 111].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والصلاة والسلام على نبي الهدى، ومن بهديه اهتدى، وبعد:
أيها المسلمون: إن الفلاح مطلب العاملين وغاية المتقين، وقد رتبه الله -سبحانه وتعالى- على تزكية النفس وتربيتها وتطهيرها، فقال -عز وجل-: (قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى) [الأعلى: 14]، وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس9: 10].
لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يتعاهد نفوس أصحابه بالتربية والتزكية، لأن إصلاح النفوس وتزكيتها دأبُ السائرين إلى الله تعالى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
فالواجب على كل مسلم منا، أن يجعل من أكبر همه وأقوى هدفه إصلاح نفسه وتهذيبها، وتعاهدها في صلته مع الله، وأخلاقه وسلوكه مع الخلق، ويجعل من ذلك منطلقاً لإصلاح نفوس من حوله وتربيتهم, لأننا في خضم شؤون الحياة المعاصرة، وكثرة مشاغلها وتعدد متطلباتها، قد ننسى أن نتعاهد أنفسنا بالتربية والتزكية، ومن ثم تقسو القلوب، ونتثاقل عن الباقيات الصالحات، ونركن إلى متاع الدنيا وزخرفها.
يقول الله -تبارك وتعالى-: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى. جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طه، آية 75، 76] . أي طهّر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له واتبع المرسلين فيما جاءوا به من أمر ونهي وقول وفعل.
وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها" [ مسلم (2722) ].
فاتقوا الله -عباد الله- والله الله في تزكية النفوس وتربيتها وتنقيتها وتقريبها من الله، وإبعادها من كل ما يغضب الله ويسخطه -سبحانه وتعالى-.
هذا وصلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم ربكم بالصلاة والسلام عليه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
التعليقات