عناصر الخطبة
1/أطول قسم في القرآن 2/لا فلاح إلا بالتزكية 3/أهمية تزكية النفس 4/طرق تزكية النفس 5/ثمرات وفوائد تزكية النفساقتباس
مقصود الرسالات أن تتزكى النفوس وتتطهر من كل درن, وقد قال الله لموسى إذ أرسله لفرعون داعياً: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى)[النازعات: 18], وهكذا كل داعية فهو يسعى لتزكية النفوس وتطهيرها من الشرك والبدعة والمعصية...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
لو حلف لك امرؤٌ على أمرٍ لوثقت بمقاله, فكيف لو كان هو محلَّ الثقةِ والعدالة عندك؟! فكيف لو أقسم لك الأيمان المتتابعة؛ سيكون ما يذكره ولا شك محلَّ قبولٍ بلا تردد, وما أقسم عليه عظيم وكبير؟! فكيف لو كان المقسم هو الله -جل جلاله-, الذي لا يقسم إلا عظيم؟!.
أطولُ قسم في القرآن ذكره الله في سورة الشمس, حيث أقسم أحد عشر قسماً على حقيقة واحدة, ما أجدرها أن تنغرس في سويداء النفوس؛ لنعمل لها ونستوعبها: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 1 - 10].
قال ابن كثير: "(قد أفلح من زكاها) من زكى نفسه بطاعة الله، وطهرها من الرذائل والأخلاق الدنيئة", قال البقاعي: "التزكية أن يحرص الإنسان على شمسه أن لا تكسف، وقمره أن لا يخسف، ونهاره أن لا يتكدر، وليله أن لا يطفى"؛ أي: بالتمسك بطاعة الله.
عباد الله: خطيرةٌ هي النفس؛ لما لها من تأثير على حياة الإنسان في الآخرة, ولأن نتيجة صلاحها وفسادها يؤثر على حياة الفرد ومصيره, وعلى صلاح الأمة كلها؛ فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, وصلاحُ الأمة يبدأ من صلاح أفرادها, وصلاح أفرادها ينطلق من تزكية نفوسهم, وربنا قد قرر فقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)[الشمس: 9]؛ فلا فلاح إلا بالتزكية.
يا مؤمن: إن نظرة لحال المسلمين اليوم يمكن من خلالها إدراك مدى الحاجة العظيمة والماسَّة إلى إعادة تربية وتزكية وبناء أنفسنا، وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، وأن الحاجة إلى ذلك أصبحت -وهي دوماً- أشدَّ من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء؛ لكثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات، ولكثرة حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاس والارتكاس حتى بين بعض العاملين للإسلام؛ مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر.
ولأن المسؤولية ذاتية, ولأن التبعة فردية, والإنسان يحاسب عن نفسه لا عن غيره, فلابد من جواب واستعداد؛ (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا)[النحل: 111].
ولا نعلم ما نحن مقبلون عليه، أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا؛ ولأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو عن بناء غيره أعجز!.
يا كرام: ولكي نعرف حاجتنا للتزكية فانظر في حالنا حين نستهين بالمعاصي إذ نرتكبها, ونقع فيها فلا تتحرك قلوبنا حياءً وخوفاً من ربنا؛ فإن نفوسنا تحتاج للتزكية.
حين نكسل عن الطاعات, ونفقد حلاوة الإيمان ولذة العبادات, ونفتر عن الصالحات, ولا نحزن حين تفوتنا ساعات المناجاة.
حين نتثاقل في أداء النوافل, والرواتب والأذكار, وقراءة الآيات, في حين أننا ننشط في مضيعات الأوقات؛ فإننا تفتقر للتزكية!.
حين تمرض قلوبنا, وتمتلئ فخراً وعجباً, وأشراً وعلواً, ونرائي بالعمل وجوه الناس, ونتطلب مدحهم ونبحث عن ثنائهم, ونلتمس مراءاتهم؛ فقلوبنا أحوج ما تكون للتزكية.
عباد الله: إن أول خطوات التزكية للنفس أن تعترف بعيوبها, ثم تسعى لإصلاحها بالمجاهدة, وهو وعدٌ من ربنا لا يتخلف, أن المجاهدة يعقبها الهداية؛ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[العنكبوت: 69].
واعلم أن باب العبودية والافتقار لله هو باب التزكية الأعظم, فالطاعات شرعها قربة لله وتطهيراً وأجراً, فعبر بوابة الصلاة تتزكى النفوس؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)[العنكبوت: 45], فأكثر من الركعات لربك نفلاً وحافظ على الخمس فرضاً؛ ففي إقامة الصلاة حق القيام رضا الله ورفعة الدرجات, والنهي عن المنكرات, وفي الصحيح: "عليك بكثرة السجود؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة, وحط عنك بها خطيئة".
وعن طريق الصدقة والزكاة تزكو النفوس؛ (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا)[التوبة: 103], فتُطهِّرُ النفس من أدوائها, وتُدَرِّبُ الإنسان على قهر نفسه وقمع شهواتها, وفي التنزيل: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)[الليل: 17، 18].
والصوم نفلاً وفرضاً بابٌ للتقوى وإصلاحِ النفس؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183], وبه تضيق مجاري الشيطان, وتنكسر شهوة الفرج والبطن, وفي هذا قال ابن الهمام: "الصوم يُسَكِّن النفس الأمارة بالسوء, ويكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح، من العين واللسان والأذن والفرج؛ ولذلك قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، وإذا شبعت جاعت كلها".
يا كرام: وتتزكى النفس بتذكر الموت وقصر الأمل, فإن النفس متى ما غفلت عن حقيقتها قصرت في حق ربها؛ ولذا ندب نبينا -عليه السلام- لهذا فقال: "زوروا القبور".
وكم من امرئٍ دخل المقابر فخرج بقلبٍ آخر, ولا عجب! فهناك تبين الحقائق, وتزول الفوارق, وتُعرف النهاية!.
وما عولجت النفوس وطيّبت وزكيت بمثل الإقبال على كتاب الله تلاوة وتدبراً, فهو الشفاء من كل داء؛ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[الإسراء: 82], فحين تسقم القلوب فدواؤها بكلام علام الغيوب؛ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)[يونس: 57], فهنيئاً لقومٍ عاشوا مع كلام الله؛ ففيه -بإذن الله- تحط الأوزار, وتتهذب النفوس.
عباد الله: وبذكر الله وحمده وتسبيحه تزكو النفوس, وتطمئن القلوب, وتحلق في السماء, وترقى في مدراج الرضا والضياء, وصدق ربنا إذ يقول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28].
وايم الله إن النفس يهجم عليها الهمُّ والغمُّ, فما إن يتحرك اللسان بالذكر إلا وتنقشع الهموم, وتطيب النفس, ويكفي الذاكر شرفاً أن ربه يذكره في السماء؛ (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)[البقرة: 152].
فأكثر ذكره في الأرض دأبا *** لتذكر في السماء إذا ذكرتا
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك, وأستغفر بي إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على نبيه, وعلى آله وصحبه ومن تبعه.
أما بعد: حين تطيب نفوسنا وتزكو ننال الفلاح, ففاز من تطهّر من أدران الذنوب, وطهر نفسه من رذائل الأخلاق, وقد قال ربنا: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)[الأعلى: 14، 15].
عباد الله: والجنة تنال بالتزكية؛ (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى)[طه: 76].
وبالتزكية ننجو من النار؛ (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى)[الليل: 14 - 18].
عباد الله: مقصود الرسالات أن تتزكى النفوس وتتطهر من كل درن, وقد قال الله لموسى إذ أرسله لفرعون داعياً: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى)[النازعات: 18], وهكذا كل داعية فهو يسعى لتزكية النفوس وتطهيرها من الشرك والبدعة والمعصية.
والتزكية مِنَّةٌ من الله على عبده, يفعل العبد الأسباب فيكرمه الله بذلك؛ (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ)[النور: 21].
والمرء لا يجزم بزكاء نفسه, بل يتهمها, والله المزكي؛ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)[النساء: 49].
وبعد: ففي غمرة صخب الدنيا وكثرة ملهياتها كم تحتاج نفوسنا لمراعاة ومداوة, وتعاهدٍ بالطاعات!, وطوبى لعبدٍ كانت نفسه مطمئنة, لأمر نبيها ممتثلة, ولربها منشرحة.
والمرء بنفسه ضعيف, ولن ينال صلاح نفسه وزكاءها ونقاءها إلا بِعون ربِّه, وعبر بوابة الدعاء, وقد كان كثير من دعوات النبي -صلى الله عليه وسلم- طلبٌ لتزكية النفس, فالهج بها تزكو, وقُل كما قال نبيك -صلى الله عليه وسلم-: "اللهمَّ آتِ نَفسي تَقْوَاها، وزَكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وَلِيُّها ومولاها".
"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ", "اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ, أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ, أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِى وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ", "اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ, وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ, لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ", "اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي, وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي".
التعليقات