اقتباس
لقد قام القرآن الكريم على أساس انتبه إليه المفسرون، وهو أن الأصل فيه هو الإيجاز، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، والمقصود به كلام قليل بمعان كبيرة عملاقة، إلا أن المسلمين بعد أن وصلوا إلى عهود الانحطاط والانحسار غرقوا في كثير الكلام قليل المعنى والجدوى، وراحوا يسجعون في أحاديثهم ويكررون ما يقولون بألف صيغة وصيغة، وهذا دليل فقر لا غنى، ودليل ضعف لا قوة، ومسلمو اليوم على هذه الحال مما أوصلهم إلى السآمة والملل.
كان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: "يا أبا عبدالرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم (أجعلكم تملون) وإني أتخولكم (أتعاهدكم) بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا" والحديث متفق عليه.
ونحن هنا بين يدي خير القرون، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تتلمذ على أيديهم من التابعين، ومع ذلك نجد حرص الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام على ألا يكثروا من الوعظ وإن طلب منهم خوفا من السآمة والملل.
ونعود إلى زماننا، زمن الترهل والإسهال الكلامي العجيب وهو ما عدّه مفكر النهضة مالك بن نبي، رحمه الله، علامة أفول حضاري أكيد، كلامنا كثير وفعلنا قليل، إن سلعة الله غالية، فلم يرخصها أصحاب الخطاب الإسلامي، حيث يلحون على الناس ويدخلون عليهم من كل باب ونافذة ووسيلة إعلام وموقع تواصل؟ وليس في هذا دعوة إلى إلغاء أو تحديد الخطاب الإسلامي، ولكنه دعوة إلى عدم التكرار والاجترار، والإلحاح على المعنى الواحد، والترهيب الذي إن زاد على حدود معينة فقد معناه وأثره، ولو رجعنا إلى خطب النبي عليه الصلاة والسلام وإلى خطب الخلفاء الراشدين من بعده، فإننا لا نجد خطبة تتجاوز الدقائق القليلة، وكان المبنى يقدر على قدر المعنى، وكانت الكلمات الواضحة المباشرة تنفذ إلى القلوب والعقول كالسهام المصوبة، لا تكرار ولا مترادفات تحوم حول معنى واحد، ولا بيان في موضع لا يناسبه، ولا صراخ ولا عويل كأننا في معركة وقد حمي الوطيس.
قد يروق لأصحاب الاختصاص أن يكثروا الحديث في اختصاصهم، ولكن إن كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم يعظ الناس ولا يكثر عليهم خوفاً من مللهم، فما بالنا نحاصر الناس في كل جهة من حياتهم حتى يملوا ويفقد الكلام قيمته ومعناه؟
هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه العرباض بن سارية يعظ صحابته فيقول: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"، انتهى الحديث رواه أبو داوود والترمذي.
لقد قام القرآن الكريم على أساس انتبه إليه المفسرون، وهو أن الأصل فيه هو الإيجاز، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم، والمقصود به كلام قليل بمعان كبيرة عملاقة، إلا أن المسلمين بعد أن وصلوا إلى عهود الانحطاط والانحسار غرقوا في كثير الكلام قليل المعنى والجدوى، وراحوا يسجعون في أحاديثهم ويكررون ما يقولون بألف صيغة وصيغة، وهذا دليل فقر لا غنى، ودليل ضعف لا قوة، ومسلمو اليوم على هذه الحال مما أوصلهم إلى السآمة والملل.
في مرة كنت فيها على سفر قريب ووصلت إلى دمشق بعد أذان الظهر من يوم جمعة فقيل لي: إن مسجداً من المساجد يتأخر في إقامة الصلاة فيمكن لي أن ألحق به، ودخلت المسجد بعد نحو نصف الساعة من الأذان فوجدته فارغاً إلا من صفين، وجلست أستمع إلى خطبة طالت وطالت من دون أي منهاج أو موضوع رئيس يدور حوله الكلام، وفجأة جلس الشيخ فإذا بكل ما سمعناه هو الخطبة الأولى، ثم قام إلى الخطبة الثانية وراح يتحدث شرقاً وغرباً لا جامع لحديثه إلا الحديث عن الله ورسوله، وبدأ الناس يتوافدون على المسجد فإذا به يمتلئ قبل أذان العصر بنحو نصف الساعة، بعدها أقيمت الصلاة، فلما خرجنا علمت ممن حولي أن أهل الشام يلقبون هذا المسجد بمسجد التنابل (الكسالى)، فمن يتأخر في النوم يوم الجمعة يستطيع أن يلحق بالركب في نصف الساعة الأخير قبل العصر، تساءلت في نفسي ألا يشعر الشيخ عندما لا يستمع إلى خطبته العصماء التي تتجاوز الساعة ونصف الساعة بالحرج وهو يتكلم أمام عشرين شخصاً على الأكثر؟ ألا يشعر بأن هناك خطأ ما يجب الانتباه إليه؟قال لي صديق مقرب عندما رويت له ما حدث معي أن الراحل علي شريعتي كان يقول: كثير من رجال الدين الذين أعرفهم عالة على المجتمع، ولولا هؤلاء العالة ما وجد جامع التنابل.
التعليقات