عناصر الخطبة
1/كثرة انتشار المعاصي والمجاهرة بها في هذا الزمان 2/بعض أسباب انتشار المعاصي 3/تذكير الإنسان بمصيره 4/نداء إلى المستهترين بمحارم الله 5/الرجاء المذموم 6/وصف عذاب جهنماهداف الخطبة
اقتباس
لا شك أن انتشار المنكرات، وفشو المعاصي، ومجاهرة كثير من المسلمين بالخطايا والمحرمات، وترك الواجبات، من أبرز سمات المجتمعات الإسلامية اليوم، واستفحل الأمر لما ظهرت المجاهرة، واضمحل الحياء من الناس فضلاً عن الحياء من الله. وهذا -والله يا عباد الله- نذير خطر، فـ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ...
أما بعد:
لا شك أن انتشار المنكرات، وفشو المعاصي، ومجاهرة كثير من المسلمين بالخطايا والمحرمات، وترك الواجبات، من أبرز سمات المجتمعات الإسلامية اليوم، واستفحل الأمر لما ظهرت المجاهرة، واضمحل الحياء من الناس فضلاً عن الحياء من الله.
وهذا -والله يا عباد الله- نذير خطر، فلنتق الله جميعاً في أنفسنا وفي مجتمعاتنا وبيوتنا ومن نعول.
ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- إن هذا الانغماس في المحرمات الذي صار معه المصلحون في حيرة، فهم لا يدرون أي منكر يزيلون، وأي خطر يواجهون.
أقول: هذه الجرأة العظيمة على انتهاك المحارم من قبل الكثيرين لها أسبابها الكثيرة، ونحن اليوم نتحدث عن سبب واحد فقط، ألا وهو: عدم المبالاة بالحرام، والوقوع فيه، وغياب منظر اليوم الآخر عن أذهان هؤلاء المستهينين بحدود الله ومحارمه.
إن أعظم ما يُزجَر به كل مستهين بحرمات الله إنما هو عذاب الله الذي أعده للمخالفين المتمردين على عبوديته، الجاحدين لنعم الله عليهم، المبارزين لجبار الأرض والسماء بالمعاصي.
فهل يعلم هؤلاء أن الناس أنما هم أسرى عند الله -جل جلاله-، محكوم عليهم بالنار والخسران، إلاّ أن يفكوا رقابهم بعملهم الصالح؟ وهل نحن نتألى على الله بهذا القول؟
كلا، والذي أنفسنا بيده؛ لأن الله -جل وتعالى- يقول: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ...) [العصر: 1- 2].
إن أمامنا -يا عباد الله- عقبة عظيمة لابد أن نحسب حسابها، وكيف سنتخطاها، ما هي هذه العقبة؟
إنه قول الله -تعالى-: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ)[البلد: 11- 14].
من أعظم الفوز والنجاح، هو أن ننجو من نار الجبار: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185].
وهذا محمد بن عبد الله -صلوات ربي وسلامه عليه- ينادي وهو الرحيم الرؤوف بأمته، فيقول فيما رواه عنه الشيخان: "يا معشر قريش: اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف: اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس: لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله: لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد: سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنك من الله شيئاً".
وها هو صلى الله عليه وسلم يضرب المثل لنفسه، وللناس المعرضين عن هديه واتّباعه، الصادين عن شرعه، وهو يحاول إنقاذهم، وهم يصرون على الهلاك والتردي في المهاوي، والاستمرار في المعاصي تحت ظل تزيين شياطين الإنس والجن، فيقول صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها، وهو يُذبّهن عنها، وأنا آخذ بِحُجَزٍكُم وأنتم تفلتون من يدي"[رواه مسلم].
إنه من المؤسف حقاً: أن يدعو الأنبياء وورثتهم من المصلحين يدعون الناس إلى النجاة من عذاب لا يطاق، ويأبى أكثر الناس ألا أن يكونوا حطب جهنم، فأين العقول؟ وأين فائدتها؟
(يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون)[يس: 30].
يا أمة القرآن: إن الحقيقة التي يجب أن نعترف بها وبسرعة دون أي تأخير، هي: أننا لم نعط الآخرة حقها من الاهتمام والتفكير، ولم نبحث في أمر المصير الذي ينتظرنا جميعاً، قال صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -تعالى- بالدعاء"[رواه الشيخان].
أيها المسلمون: نداء إلى المستهينين بالحرام من المسلمين، الذين يظنون أنه لا يحول بينهم وبين شهواتهم المحرمة إلا رجل الهيئة أو رقيب الشرطة، نقول لهم: والله لا يردعكم عن قبيح فعالكم، وسيء خصالكم، وتضييعكم لمسؤولياتكم، إلا أن تتصوروا خطورة مخالفة خالقكم الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
نعم، إلا أن تتصوروا عذاب النار، وهول الآخرة.
نعم -يا عباد الله- المعاصي والاستهانة بها له آثار سيئة في الدنيا، وهذا -والله- لا يعد شيئاً بالنسبة لعذاب الآخرة، فكيف بطامة عذاب الله؟
نعم، قد يعلم الذي جعل الدش في بيته أثر هذا البلاء على خُلقه وخُلق أهله وأولاده وبناته، ولكن هذا قد لا يردعه؛ لأنه يوافق شهوته ولذته العاجلة، وقد يعتذر لنفسه بعذر أهل سقر: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ)[المدثر: 45].
ولكن كيف لا يرتدع وهو يسمع ويقرأ آيات العذاب، فلمن أُعد هذا العذاب؟
(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ)[الطارق: 13- 14].
إن كثيراً من المسلمين -مع الأسف الشديد- يغرهم إسلامهم، ويظنون أن ذلك يدفع عنهم دخول النار، ويمنون أنفسهم بشفاعة الشافعين، وبرحمة رب العالمين، فيدفعهم ذلك إلى الاستهانة بالمعاصي والموبقات، ويتجرؤون على حدود الله، ويصنفون معاصيهم أنها من الصغائر على حسب أهوائهم.
ولكن الأمر ليس كما يزين لهم الشيطان، بل إن الأمر، كما قال تعالى: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)[النور: 15].
أيها المؤمنون: إن الصغائر هي صغائر، لكن بالاستمرار عليها، والإصرار تجتمع عند الله، حتى تكون كالجبال؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على المرء حتى يهلكنه، كرجل كان بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل يجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا من ذلك سواداً وأججوا ناراً، فأنضجوا ما فيها"[رواه أحمد].
كما أن المرء إذا اعتاد المعاصي وألفها زالت من نفسه الوحشة منها.
ثم إن الشيطان لسياسته اللعينة ينقله من خطوة إلى أخرى، فيهون المعصية في عينه تارة، ويمنّيه أخرى بأنها تُمحى بالتوبة، ويغرّه أخرى بكثرة حسناته، وقد يسلط عليه رفاق السوء الذين يشجعون على المعصية، فيتسلى بصنيعهم، ثم يبغته الموت وهو على معاصيه، وهنا تحصل المصيبة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ)[الحشر: 16- 17].
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
إن الذي ينظر في كتاب الله-تعالى- سيلاحظ أن أكثر موضوع في القرآن، وهو الذي له النصيب الأكبر من الذكر، إنما هو موضوع الآخرة والحشر والحساب والجزاء، والجنة والنار؛ لأن هذا الأمر هو سر النجاة أو الخسران.
كيف-يا عباد الله- لا ينزجر من لا يحافظ على الصلاة في المساجد؟ وكيف لا ينزجر أولئك الواقعون في المنكرات والمستهينون بأوامر الله-تعالى- ونواهيه، وهم يقرؤون عن أصناف العذاب الأليم؛ كقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء: 56].
إن عذاب الآخرة لا يطاق، فهو مذلٌ لصاحبهم لازم لا يفتر ولا يهدأ، ولا يتوقف ولا ينقطع، لا محال للخلاص منه، والموت يصير أمنية المعذبين: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ)[الزخرف: 77].
إن الذي يتولى مهمة التعذيب ليس آدمياً يحمل في يده سوط، ولكنهم: (مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].
أما حرارة نار الآخرة، فيخبرنا بذلك رسول الهدى –صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ناركم هذه التي توقد بنو آدم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم" قيل: يارسول الله إنْ كانت لكافية؟ قال: "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، كلهن مثل حرها" [رواه الشيخان].
إن للعصاة أن يتصوروا عظمة النار التي تلقى فيها الشمس الملتهبة فتضيع فيها، ثبت في البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: "الشمس والقمر ثوران مكوران في النار يوم القيامة".
أيها المسلمون: أين الذين لايهُمّهم أكل الحرام وشربه؟ أين هم عن طعام أهل النار وشرابهم؟
(لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ)[الغاشية: 6].
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ)[الحاقة: 35- 36].
والغسلين هو عصارة أهل النار من الدم والقيح والصديد، قال الله-تعالى-: (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ)[إبراهيم: 15- 17].
وقال تعالى: (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف: 29].
وقال سبحانه: (وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ)[محمد: 15].
أين الذين يسخرون من بعض أحكام اللباس ويظنون أن قضية اللباس ليست من الدين؟ وأين النساء اللوائي كشفن ما أمر الله بستره برضا أو ليائهن؟ أين هؤلاء كله ممن وصف الله لثياب أهل النار المخالفين شرع الله في الدنيا، قال الله-تعالى-: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِمَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِ عُمِنْ حَدِيدٍ)[الحج: 19- 21].
وقال تعالى: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّنقَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ)[إبراهيم: 49- 51].
أين نحن-يا عباد الله- من عمق النار، وقد بين لنا ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقوله: "لو أن حجراً مثل سبع خلفات –أي بحجم سبع نوق حوامل- ألقي عن شفير جهنم هوى بها سبعين خريفاً لا يبلغ قعرها" [رواه الحاكم وأبو يعلى وهو صحيح]؟
أيها الإخوة المؤمنون: إن أي عاقل لابد أن يفكر في مصيره المحتوم، ثم ليختر لنفسه ما يشاء: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
التعليقات