عناصر الخطبة
1/ عداوة أهل النار وكراهية بعضهم لبعض 2/الخصام بين الضعفاء والمستكبرين 3/ظهور الحقيقة للكافرين الساخرين من المؤمنين 4/خصام بين الكافر وأعضائهاقتباس
الخصومة بين أهل النار شديدة، فكلهم يلعن بعضهم بعضاً، لا يوجد شخص يحب الآخر، وتحصل مخاصمة ثانية بين التابعين والمتبوعين، بين العابد والمعبود، فيتبرأ كلّ من الآخر. قال تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ) [الشعراء:93]، أين آلهتكم؟ أين أصنامكم؟ أين مبادئكم؟ أين أفكاركم؟ أين كباركم؟ (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ)...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عمت رحمته كل شيء ووسعت، وتمت نعمته على العباد وعظمت، ملك ذلت لعزته الرقاب وخضعت، وهابت لسطوته الصعاب وخشعت، وارتاعت من خشيته أرواح الخائفين وجزعت، كريم تعلقت برحمته قلوب الراجين فطمعت، بصير بعباده يعلم ما كنت الصدور وأودعت، عظيم عجزت العقول عن إدراك ذاته فتحيرت.
نحمده على نعم توالت علينا واتسعت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجّي قائلها من النار؛ يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده حتى علت كلمة التوحيد وارتفعت، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، وأجيبوا الداعي إلى دار كرامته وجناته، ولا تغرنكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العيش ولذاته؛ فقد قرب الرحيل، وذهب بساعات العمر وأوقاته.
عباد الله: عندما يرى الكفار يوم القيامة ما أعد الله لهم من العذاب، ويعاينون تلك الأهوال، يمقتون أنفسهم، ويمقتون أحبابهم وخلانهم في الدنيا، وتنقلب كل محبة بينهم في الدنيا إلى عداوة.
أيها الإخوة: لا شك أن أهل النار يكره بعضهم بعضًا كراهية شديدة وعداوة من بعضهم لبعض، يقول الله -عَزَّ وَجَلّ-: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "خليلان مؤمنان وخليلان فاسقان! يقول: أما المؤمنان فمات أحدهما فأدخله الله الجنة، وفي الجنة رأى ما هو فيه من النعيم، وذكر صاحبه الذي كان يأمره بطاعة الله وينهاه عن معصية الله فخشي عليه أنه يضل بعده، فقال: اللهم! إنه كان لي خليل يأمرني بطاعتك وينهاني عن معصيتك حتى وردت هذا المورد ودخلت الجنة، اللهم! إني أسألك أن تثبته على دينك حتى تجمعني به في جنات النعيم، قال: فثبته الله وكتب له الجنة وهو في الدنيا، قال: والخليلان الفاسقان أحدهما مات فدخل النار، فلما وقع في الورطة تذكر من ورطه، فإذا به يخشى أن يسلم خليله ويهتدي ويذهب إلى الجنة وهو في النار، فقال: اللهم! إنه كان لي خليل يأمرني بمعصيتك وينهاني عن طاعتك حتى وردت هذا المورد، اللهم! لا تهده ولا تجعله يسلم حتى يرى ما رأيت ويدخل فيما فيه دخلت". [تفسير ابن كثير 4/ 162، ط. دار الفكر].
أيها المسلمون: تخيروا أصدقاءكم؛ ليكونوا شفعاء لكم يوم القيامة وحتى لا يكونوا أعداءكم، قال تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]، فتشتد الخصومة بين أهل النار فلا يوجد منهم شخص يحب الآخر، أما أهل الإيمان فهم (عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) [الصافات: 44- 47]، يتساءلون ويتحادثون ويتنادمون (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور: 25-28]، نسأل الله من فضله أن يجعلنا من أهل الجنة وآبائنا وأمهاتنا وإخواننا المسلمين.
أيها الإخوة: الخصومة بين أهل النار شديدة، فكلهم يلعن بعضهم بعضاً، لا يوجد شخص يحب الآخر، وتحصل مخاصمة ثانية بين التابعين والمتبوعين، بين العابد والمعبود، فيتبرأ كلّ من الآخر. قال تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ) [الشعراء:93]، أين آلهتكم؟ أين أصنامكم؟ أين مبادئكم؟ أين أفكاركم؟ أين كباركم؟ (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) [الشعراء:93]، هل ينصرونكم وينقذونكم مما أنتم فيه من العذاب؟! أو يمتنعون هم من العذاب؟! قال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ) [الشعراء:94] يعني: الذين عبدوهم، كلهم سواء (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ) [الشعراء:96] يتشاجر في النار التابع والمتبوع (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء:98] لقد أساءنا عندما جعلناكم مثل الله نطيعكم، تحرّمون ما أحل الله فنحرّمه، وتحلّون ما حرم الله فنحله، وتشرّعون شريعة غير دين الله ثم نطبقها، وتضعون قوانين ما أنزل الله بها من سلطان ونحن نطيعكم عليها، سويناكم برب العالمين -سبحانه- (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الشعراء:97] أي: والله لقد كنا في ضلال مبين (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء:98].
أيها الإخوة: والمصيبة أنهم لا يرجعون باللوم على أنفسهم، كلا، بل يلومون غيرهم، ثم يقولون: (وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) [الشعراء:99] من هم المجرمون؟ هم دعاة الضلال الذي يضلون الناس ويزينون لهم الباطل، ويخدعونهم بدعوتهم إلى غير منهج الله، هؤلاء يقال لهم يوم القيامة بأنهم مجرمون، ثم يقولون: (وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء:99- 102] لكن لا عودة أبداً (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء:103- 104].
عباد الله: وهناك تخاصم آخر في النار، فتحدث مخاصمة بين هؤلاء الأتباع والمتبوعين، بين الظالمين ومن تبعوهم في الضلال، يقول الله -عَزَّ وَجَلّ-: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ) [الصافات:22] أي: الذين ظلموا والذين هم مثلهم على طريقتهم وعلى شاكلتهم والمشابهين لهم في الضلال والإجرام، والذين كانوا يعبدونهم (مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ) أي: دُلّوهم، لكن إلى أين؟ (إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) [الصافات:23]، والجزاء من جنس العمل، فقد دلهم الله في الدنيا على الحق، وأرسل إليهم رسله ليسيروا على صراطه المستقيم فرفضوه وساروا في طريق الشيطان، فالآن خذوهم إلى نهاية الطريق (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ) [الصافات:23].
ثم قال: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ) [الصافات:24- 25]، لماذا لا تستنكرون؟ لماذا لا يدافع بعضكم عن بعض؟ (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) [الصافات:28] يقولون: كنا كلما أتينا نريد طريق اليمين رددتمونا عنه (قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الصافات:29] أي: أنتم في الأصل كنتم معنا، (وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) [الصافات:30] لم نأخذكم بالغلظة أو بالقوة والبطش (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ) [الصافات:30- 32]، يقولون: نحن هكذا كنا غاوين فأغويناكم معنا، فلماذا أطعتمونا؟ قال الله: (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات:33- 35].
عباد الله: ومن صور الخصام بين أهل النار: الخصام بين الضعفاء والمستكبرين، يقول الله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) [إبراهيم:21] يقولون: نحن أتباعكم ولا بد أن تحملوا من العذاب شيئاً أكثر منا، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم:21].
وفي موضع آخر من القرآن يقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ) [غافر:47] يعني: يتحاكمون ويتخاصمون، ويتشاجرون (فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا) [غافر:47-48] الله أكبر! لا إله إلا الله! يقولون: أين نذهب بكم؟ كيف ننصركم؟ ونحن معكم. فأهل النار يقول الكبير منهم للصغير: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) [غافر:48].
وهذا كله في عرصات القيامة قبل أن يدخلوا النار، وعندما يدخلون النار ويقفون على الأبواب يتخاصمون أيضاً، يقول الله -عَزَّ وَجَلّ-: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص:55] شر مآب وشر مصير للطاغين المجرمين (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَذَا فَوْجٌ) [ص:56-59] يعني: مجموعة جاءوا إلى النار (مُقْتَحِمٌ)[ص:59] فلا يدخلون النار مشياً، وإنما يُدْفَعون دفعاً (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً) [الطور:13]، ثم سبعين سنة يهوون حتى يصلوا إلى قعرها (هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) [ص:59] أي: مقتحم عليكم في النار.
فيقول من في النار: (لا مَرْحَباً بِهِمْ) [ص:59] كان إذا رآه في الدنيا يرحب به ويأخذه بالأحضان؛ لأنهم اجتمعوا في الدنيا على صوت العود والأغاني، ويوم القيامة يقول: (لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ) [ص:59]، فيقول الذين في الأعلى: (قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) [ص:61-61]، نسأل الله السلامة والعافية.
أيها الإخوة: وعند ذلك تظهر أمامهم الحقائق، فيتساءلون عن الذين كانوا يصفونهم في الدنيا بالأشرار، إذ كانوا في الدنيا يسخرون من الصالحين، ويتهمونهم بشتى التهم، ولما دخلوا النار فلم يجدوهم سأل بعضهم بعضًا: (وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ) [ص:62] وهم في النار تذكروا، قالوا: أين الذين كنا نتصورهم من الأشرار؟ وهم يقصدون أهل الإيمان والصلاح؛ لأن فِطَرهم كانت منكوسة، فكانوا يتصورون المؤمن شريراً، فتجده في الدنيا يلمز الصالحين ويغمزهم، ويصبّ الاتهامات على المتدينين، فأحياناً يصفهم بالتزمت، وبالاحتقار، يقول: هؤلاء أشرار.
أين الذين (كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً) [ص: 62- 63]، يقولون: ضحكنا عليهم في الدنيا، أين هم الآن؟ (أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ) [ص:63] لعلهم في النار، ونحن لا نراهم بأعيننا، أين هم؟ (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص:64]. ثم يتضح لهم أن أولئك في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، بما صبروا وتحملوا من الأذى في سبيل إرضاء الله تعالى.
أيها الإخوة: ويقع خصام آخر بين الكافر وبين قرينه الشيطان، يقول الله -عَزَّ وَجَلّ-: (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) [ق:22- 26] فيقول الآخر: (قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [ق:27]، فيتبرأ إبليس ويقول: ما أطغيته، ولكن كان في ضلال بعيد، فقال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق:28- 29].
اللهم جنبنا النار وحرها وغصصها، وكل ما قرب إليها من قول أو عمل، إنك على كل شيء قدير، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي جعل لكل شيء قدرًا، وأحاط بكل شيء خبرًا، أحمده -سبحانه- وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
عباد الله: وهكذا تشهد النار خصامًا وجدالاً وتبادلاً للاتهامات بين جميع من فيها، فهناك مخاصمة بين الإنسان وبين الناس، ثم بينه وبين زملائه، وبينه وبين المستكبرين، ثم بينه وبين شيطانه، إلا أنه تحصل مخاصمة هي الأغرب, أتدرون ما هي؟!.
تصور -يا عبد الله- أنه تحدث مخاصمة بين الإنسان وبين نفسه، بينه وبين أعضائه، فعينك التي تستخدمها في الحرام والله لتكونن خصماً لها يوم القيامة، وتكون خصمك يوم القيامة، يقول الله: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [فصلت:19] يوزعون، أي: يُجمَعون، يُجمع أولهم على آخرهم، (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [فصلت:20] ويبدأ الخصام: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت:21] يقولون: إن الله الذي أنطقنا كما أنطقكم أول مرة، أنطقنا نحن الجوارح بما عملنا.
أنت كانت عينك لك، وجعلتها عدوة لك، وكانت أذنك لك، ولكن جعلت أذنك عدوة لك، كان بالإمكان أن تجعل هذه العين صديقة لك تنظر بها في الحلال، وتقرأ بها القرآن، وأذنك تسمع به القرآن، ولسانك تتكلم به في الحق، فتكون هذه يوم القيامة شواهد لك، ولكن يوم أن سخرتها في الباطل أصبحت شهيدة عليك.
أيها الإخوة: وحين يعاين أهل النار العذاب الشديد الذي أعده الله لهم، يلجئون بعد ذلك إلى التقليد، والإنكار، وتكذيب الملائكة، ويدّعون أنهم كانوا صالحين، فما يبقى عليهم حجة إلا أن يُشْهِدَ اللهُ عليهم أنفسَهم، عندها يختم الله على أفواههم، وتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وبعد سماعهم لكلام جوارحهم، يقول أحدهم لأعضائه: بعداً لكنَّ وسحقاً، عنكن كنت أجادل.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَضَحِكَ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟" قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟! قَالَ: يَقُولُ: بَلَى. قَالَ: فَيَقُولُ: فَإِنِّي لاَ أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلاَّ شَاهِدًا مِنِّي. قَالَ: فَيَقُولُ: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا) [الإسراء:14]، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا, قَالَ: فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ انْطِقِي. قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ, قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلاَمِ, فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا. فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" [أخرجه مسلم: 2969].
أيها الإخوة: إن هذا الحديث -والله- تشيب منه الرؤوس، إن كان في القلوب إيمان وحياة، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يلقى العبد ربه فيقول له: ألم أكرمك ألم أسودك؟ ألم أزوجك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل؟ وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى أي رب. فيقول الله: أظننت أنك ملاقيَّ، قال: لا يا رب، فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني. ثم يلق الله آخر -رجلاً ثانياً- فيقول له مثل ذلك، ثم يلق الله -رجلاً ثالثاً- فيقول له مثل ذلك فيكذب على الله- فيقول: رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت، وتصدقت، وصمت، ويثني بخير على نفسه ما استطاع. فيقول الله: ألا نبعث شاهدنا عليك؟! فيفكر في نفسه، فيقول: من الذي يشهد عليَّ، فيختم الله على فمه، ويقول لفخذه: انطقي، فتنطق فخذه، وينطق فمه وعظمه وجلده بعمله الذي كان يعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه" [أخرجه مسلم: 2968].
أيها الإخوة: وبعد هذه الخصومات ترتفع أصواتهم باللعن، ويقول الله في هذا: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:38]. فهذا أيها الإخوة حال التخاصم في النار، جنبني الله وإياكم النار، وحرها وغصصها، وجعلنا من أهل جنته ودار كرامته، ولكن هل ترى أن أعمالنا توصلنا لرضا ربنا وجنته، حاسب نفسك اليوم، وانظر في عملك، قبل أن يُحال بينك وبين العمل.
أيها الإخوة: عودوا إلى ربكم، واعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئًا، واستقيموا على شرعه، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، اللهم نجنا من النار ومن حرها، وجنبنا سوء أحوال أهلها، واجعلنا من الناجين يوم القيامة.
اللهم إنا نعوذ بك من النار ومن حال أهل النار، ومن حر النار، ومن عذاب النار، ومن الخزي والبوار، ونسألك يا الله، يا أرحم الراحمين ! أن تجيرنا من النار، اللهم حرم أجسادنا على النار، ولحومنا على النار وأبشارنا على النار، وحرمنا يا مولانا على النار! وآباءنا وأمهاتنا، وإخواننا وأخواتنا، وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين
التعليقات