عناصر الخطبة
1/تحية إكبار وإعزاز لأرواح الشهداء الأبرار 2/الشد على أيدي المرابطين الصابرين المحتسبين بأرض فلسطين 3/موقف أهل بيت المقدس الثابت على الحق 4/معنى الشهادة ومكانتها السامِيَة 5/الوصية بالصبر والمصابرة والثبات 6/المسجد الأقصى عنوان كرامة المسلمين وأمانة في أعناقهماقتباس
إن أهل هذه الديار المبارَكة ابتُلُوا بالاحتلال وبالأعداء؛ تمحيصًا لهم، ورفعةً لشأنهم، حتى يكونوا الشهداء الأبرار، وحتى يكونوا المرابطينَ الأخيارَ، وحتى يكونوا في الصف الأول، بل يكونوا الطليعة المتقدِّمة للأمة، يوم تخاذلتِ الأمةُ في الدفاع عن أرضها، وعن مُقدَّساتها، وعن مُقدَّراتها، وعن كرامتها وعزتها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، وعَد المؤمنين بنصره، وتوعَّد الكافرينَ بخزيه وقهره، وأشهد ألَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، بيدِه الملكُ، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وقدوتنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، وصَفِيُّه من خَلقِه وخليلُه، صلى الله عليه، وعلى آله الطاهرين، وصحابته الغُرّ الميامين، ومَنْ سار على نهجهم، واقتفى أثرَهم، واتَّبَع سُنَّتَهم إلى يوم الدين، والصلاة والسلام على الشهداء والمكلومين، والأسرى والمعتقَلين، والمرابطين القائمين الرُّكَّع السُّجُود، في المسجد الأقصى المبارَك، وفي ديار المسلمين.
وبعد، أيها الناسُ، أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، يا أبناء أرض الرباط، يا أبناء المسجد الأقصى المبارَك، يا أبناء القدس الشريف، وكل مدينة أو قرية أو بادية أو مخيم، في هذه الأرض الطاهرة، التي باركها الله وبارك مسجدها، في محكم كتابه العزيز، ومن علياء هذا المنبر الشريف، دَعُونا نُحيِّي أرواحَ شهدائنا الأبرار، التي ارتقت إلى العلا والمعالي، ثابتةً مُرابطةً في هذه الديار المبارَكة، وندعو الله -تعالى- لجرحانا كلِّ جرحانا، بالشفاء العاجل بإذنه -تعالى-، كما نُحيِّي كذلك بكل إكبار واعتزاز أولئك الأُسُودَ الرابضينَ خلفَ قضبان سجون الاحتلال، نسأل الله -تعالى- أن يُعجِّل في إطلاق سراحهم، وأن يرحم موتى المسلمين جميعًا، وأن يُصلِح أحياءهم؛ ليكونوا نواةَ الرباط الدائم في هذه الأرض المبارَكة، وفي ثغور الإسلام والمسلمين.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: كتب الله لنا وعلينا أن نمتثل قول الله -تعالى-، وهو يخاطب المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 200]، وكتب علينا -جل شأنه- أن نقف عند الآيات الكريمة، التي تصف واقعنا تمام الوصف؛ (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 154-157].
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس: إن أهل هذه الديار المبارَكة ابتُلُوا بالاحتلال وبالأعداء؛ تمحيصًا لهم، ورفعةً لشأنهم، حتى يكونوا الشهداء الأبرار، وحتى يكونوا المرابطينَ الأخيارَ، وحتى يكونوا في الصف الأول، بل يكونوا الطليعة المتقدِّمة للأمة، يوم تخاذلتِ الأمةُ في الدفاع عن أرضها، وعن مُقدَّساتها، وعن مُقدَّراتها، وعن كرامتها وعزتها، فاعلموا -أيها المرابطون- أنَّ الله اختاركم واصطفاكم لتكونوا الأمناء على المسجد الأقصى؛ حراسةً وسدانةً وإعمارًا، تشدُّون إليه الرحال، في جميع الأوقات، خيرِها وشرِّها، صعبِها وهيِّنِها، لتقولوا لكل العالَم: إننا أهل المسجد الأقصى المبارَك، إننا حُرَّاس المسجد الأقصى المبارَك، إننا سدنة المسجد الأقصى المبارَك، ولن نفرط فيه مهما كانت التضحيات، ومهما بلغت، ومهما بلغت الخسائر في الأرواح والأموال والممتَلَكات، فكل هذه في ميزان الله -تعالى-، وفي ميزان كرامة الإيمان والمؤمنين، لا تعدل شيئًا، إنَّها في سبيل الله، ولله، وهذا هو الموقف الإيماني الصحيح، الذي يدعمه الإيمان الصحيح، ويدعمه كتاب ربنا، الذي وعد المجاهدين والمرابطين الأجر العظيم، والثواب الجزيل؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الصَّفِّ: 10].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: ويتساءل الكثير منا: ما هي الشهادة؟ وما هو وسامها؟ وما هي كرامة أهلها؟ فيكفي -أيها المسلمون- أن نردَّ جميعًا بقول الله -تعالى-: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 169-170]، إنَّها أوسمة ربانية، نعم، أوسمة ربانية لا يخلعها الله -تعالى- ولا يمنحها لكل خلقه، بل لمن اصطفاهم واختارهم واتخذهم شهداء؛ (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)[آلِ عِمْرَانَ: 140].
نعم أيها الأحبابُ، يا أبناء ديار المسجد الأقصى المبارَك، وسام الله -تعالى- للشهيد لا يناله إلا من اختاره الله -تعالى- شهيدًا، ولذلك كرمهم الله بالحياة. أين هذه الحياة؟ إنَّها عند الله -تعالى-، كما ورد في الأحاديث والآثار: "أرواحُهُم في مَحاصِل طيورٍ خُضْرٍ، تأوي إلى قناديل في ظل العرش، أو معلَّقة في عرش الله -تعالى-"، يا لها من كرامة! ويا لها من شهادة! ويا لها من منزلة عند الله -تعالى-! فلا تحزنوا يا أهل الشهداء، ولا تبكين يا أمهات الشهداء، بل كما عهدنا المرأة الفلسطينية، المرأة المؤمنة، المرأة الصابرة، المرأة المرابطة، التي تُودِّع ابنَها وأبناءها بالفرح والزغاريد، هكذا هُنَّ شامخاتُ فلسطينَ، هكذا هنَّ حرائرُ فلسطين، فكيف بالرجال الرجال في فلسطين؟!
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: الله -تعالى- يعوضنا جميعًا عن فَقْد هؤلاء الكواكب المنيرة، هذه الأقمار التي تُنير الأرضَ والسماءَ، وتَرسُم طريقَ العزة والحرية والكرامة.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: إن النصر عظيم، وإن النصر لا يكون إلا من الله -تعالى-؛ ينصر من يشاء، ويعز من يشاء، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[غَافِرٍ: 51].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: ولرباطكم ثمن، وهذا الثمن هو الصبر، والمصابرة، وتقوى الله، التي تقود إلى الفلاح والنجاح، وهذا الصبر ثمنه غال عند الله -تعالى-، فهناك بلاء في الأنفس، وهناك نقص في الثمرات، وهناك اعتقالات، وهناك أذًى كثيرٌ من أعداء الله، ولكنَّ العاقبةَ للمتقين.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: ونحن نُودِّع أبناءنا الشهداء، ونحن ننتظر شفاءَ الجرحى من أطفالنا، وشيوخنا، ونسائنا، نشدّ العهدَ والعزيمةَ مع الله -تعالى- أن نبقى الصابرين المصابرين، وأن نبقى الثابتين المرابطين في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس، إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، جاء في الحديث الشريف: "رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وموضعُ سوطِ أحدِكم من الجنَّة خيرٌ من الدنيا وما فيها"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فيا فوزَ المؤمنينَ استغفِروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد لا نبي بعده، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، أحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم؛ حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعدُ، أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس: أما المسجد الأقصى المبارَك، فهو عنوان إسلامكم، وعنوان عزكم، وعنوان كرامتكم في هذه الديار، فإذا تخلى المسلمون في بقاع الدنيا عن واجبهم تجاهَ المسجد الأقصى فلن تتخلوا، ولن تتخلوا، ولن تتركوا المسجد الأقصى وحيدًا يواجه الطامعين فيه، يواجه المبتدِعِينَ، الذين خرجوا عن كل القِيَم الدينيَّة، والإنسانيَّة، والدوليَّة، وكل ما يمكن أن يخطر في بال الإنسان، إن كان يؤمن بإنسانيته، هذا المسجد المبارَك الذي جعله الله خالصًا للإسلام والمسلمين، وقرر بقرار رباني قديم، بأنَّه المسجد الأقصى، الذي ارتبط بأول بيت في وجه هذه الدنيا؛ وهو المسجد الحرام، إنَّه أمانة الأجيال للأجيال، إنَّه أمانة المخلصين من عمر بن الخطاب، إلى يومنا الحاضر، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فكونوا أيها الأحبابُ على مستوى حمل الأمانة، وصيانة الأمانة، حتى تؤدوها للأجيال القادمة، كما أمر الله، وكما وجَّه رسولُ الله؛ لعلَّ اللهَ يَرزُقُكَ ذريةً، يَغدُون إلى ذلك المسجد ويروحون، وهو جواب للصحابي السائل: "أين تأمُرُنا يا رسولَ اللهِ إن ابتُلينا بالبلاء بَعدَكَ، أو بالبقاء بَعدَكَ؟ قال: عليكَ ببيت المقدس، لعلَّ اللهَ يَرزُقُكَ ذريةً، يَغدُونَ إلى ذلك المسجد ويروحون".
كُونُوا ذريةَ المسلمين في هذه الديار المبارَكة، تغدون وتروحون إلى المسجد الأقصى المبارَك، كونوا كذلك -أيها المرابطون-، فأنتم اختاركم الله لهذه المهمة العظيمة الجليلة، فكنتم آباء الشهداء، وكنتم أهل الشهداء، وكنتم أهل الجرحى، وكنتم تُضحُّون بالغالي والنفيس من أجل أن تبقى هذه الديارُ إسلاميَّةً كما أرادها الله -تعالى-، وكما قضى رسولُنا الأكرم -صلى الله عليه وسلم-، واعلموا -أيها المسلمون- أن ما يقوم به المتطرفون والجمعيَّات اليهودية الطامعة في هذا الأقصى الشريف لا يُغيِّر من حقائق الأشياء شيئًا، ولا يُكسِبُهم أيَّ حق في هذا المسجد الأقصى المبارَك، وهو أمانة الله في أعناقكم، فكونوا كذلك؛ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)[النِّسَاءِ: 58].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج: إنَّ اللهَ -سبحانه وتعالى- اختار شعبكم الكريم، هذا الشعب الصابر المرابط ليكون -بإذنه تعالى- مقدمةَ المسلمين الصادقين في حراسة مُقدَّساتهم وقُدسِهم، وكرامتهم وتاريخهم وحضارتهم، فكونوا كذلك، جزاكم الله كل خير.
اللهم رُدَّنا إليكَ ردًّا جميلًا، وهيِّئ لنا وللمسلمين فرجًا عاجلًا قريبًا، وقائدًا مؤمنًا رحيمًا، يُوحِّد صفَّنا، ويَجمَع شملَنا، وينتصر لنا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، واختم أعمالنا بالصالحات.
أيها المسلمون: تكريمًا للشهادة والشهداء؛ سنقيم صلاة الغائب على أرواح الشهداء، وعلى مَنْ أحضر مِنْ أموات المسلمين.
وأنتَ يا مُقيمَ الصلاة أَقِمِ الصلاةَ.
التعليقات