عبدالهادي بن صالح محسن الربيعي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن من أعظم الذنوب، ومن أكبر الكبائر التي جاء تحريمها صريحًا في كتاب الله تعالى، وفي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: أكل الربا؛ قال سبحانه: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، وقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130]؛ قال ابن كثير رحمه الله: "كما كانوا يقولون في الجاهلية إذا حل أجل الدين: إما أن يقضي، وإما أن يربي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخر في القدر، وهكذا كل عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفًا".
والربا ليس ذنبًا هينًا، بل هو من الذنوب العظيمة التي توعَّد الله تعالى المتعامل به بعقوبات عاجلة وآجلة:
1- فآكل الربا محارب لله ورسوله، فمن خطورة هذا الذنب أن الله تعالى أخبر أن من اقترفه، فقد أقحم نفسه في محاربة الله ورسوله، ومن ذا يقوى على ذلك؟ وأي خير سيجده؟ وأي سعادة سيجدها من هذا حاله عياذًا بالله؟ قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 278، 279].
جاء رجل إلى مالك بن أنس رحمه الله فقال: "يا أبا عبدالله، إني رأيت رجلًا سكرانًا يتعاقر (يشرب الخمر، لعب الخمر برأسه) يريد أن يأخذ القمر (الذي يشرب الخمر يذهب عقله يصبح مثل المجنون أضحوكة للناس، شرب الخمر يريد أن يقفز إلى الأعلى ليأخذ القمر) فقلت - لما رأيت المنظر وتأثرت به - فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشد من الخمر (يقول الرجل: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشد من الخمر، يعتقد الرجل أن أشد ما يدخل جوف ابن آدم هو الخمر)، فقال له الإمام مالك: ارجع حتى أنظُر في مسألتك، فأتاه من الغد، فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك (مسألة عظيمة تحتاج إلى تفكير)، فأتاه من الغد، فقال له: امرأتك طالق؛ إني تصفحت كتاب الله وسنة رسوله، فلم أرَ شيئًا أشد من الربا؛ لأن الله أذن فيه بالحرب"؛ يعني: لم يأذن الله لشيء يدخل جوف الإنسان محرَّم بالحرب إلا بالربا.
2- آكل الربا يُبعث يوم القيامة من قبره كالمجنون يصرع، وكأن به مسًّا من الجن؛ فقد كان في الدنيا يتخبط في الظلمات ليغترف من المال الحرام؛ قال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].
3- التعامل بالربا سبب لمَحْقِ المال فلا يُبارك فيه، وإذا مُحقت بركة المال، كان شرًّا على صاحبه ووبالًا عليه؛ قال سبحانه: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276]، فأخبر سبحانه أنه يمحق الربا، ربما يكون على صورة مرض عضال، أو مشاكل أسرية أو اجتماعية، أو يُبتلى آكل الربا بعقوق الأبناء، أو بالحوادث والمصائب المتتالية، أو بخسارة مالية، أو بغير ذلك، وخُتمت الآية بقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276]؛ فآكل الربا كافر بنعمة الله بتركه طرق الكسب المباحة، وذهابه إلى الطرق المحرمة، فاحذر يا عبدالله من عقوبات الله؛ فإن الله عزيز ذو انتقام.
4- المتعامل بالربا ملعون، ومعه أربعة من أعوانه ملعونون؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه ((لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه))؛ رواه الإمام أحمد وغيره، وصححه الألباني.
5- التعامل بالربا أكل لمال حرام، وكيف يرضى مسلم أن يأكل الحرام ويُطعم أبناءه الحرام؟ وذلك بلا شك من أسباب الشقاء في الدنيا والآخرة، ومن أسباب منع إجابة الدعاء.
6- وقد كان من أسباب عقوبات اليهود أنهم كانوا يتعاملون بالربا؛ قال سبحانه: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾ [النساء: 160، 161]، فالربا كان محرمًّا في الأمم السابقة، وكان من أسباب عقوبة الله تعالى لليهود، ورغم ورود هذا الوعيد الشديد وغيره في حق من يتعامل بالربا، فإن كثيرًا من المسلمين ما زالوا يرتكبون هذه الجريمة غير مبالين بخطورة ما يقدمون عليه، كل ذلك بسبب الحرص على حطام الدنيا الفاني، وطمعًا في المال الذي سيُسأل عنه كل واحد منا: من أين اكتسبه؟ وفيمَ أنفقه؟
7- أكل الربا من السبع الموبقات - أي: المهلكات - التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: ((اجتنبوا السبع الموبقات وذكر منها: أكل الربا))؛ رواه البخاري ومسلم.
ومن الناس يفتي لنفسه فيحل ما حرم الله، ومنهم من يبحث عن بعض الفتاوى المتساهلة، ومن يعلم بالحرام إلا أنه يصم أذنيه ويتغاضى، وكأن الأمر لا يعنيه.
أيها الأحبة في الله، من صور الربا المنتشرة:
1- أن يقترض شخص من شخص أو من بنك أو غيره مبلغًا، على أن يرده مع زيادة؛ كأن يقترض مثلًا مائة ألف على أن يردها مائة وعشرة آلاف، وهو ربًا عند جميع أهل العلم.
2- ومنها أن تبيع المرأة ذهبًا بذهب آخر أكثر منه قيمة أو أقل، وهذه الطريقة لا تجوز؛ لأنها أيضًا من الربا، فيجب أن تبيع أولًا ذهبها وتقبض ثمنه، ثم تشتري بعد ذلك ما تشاء.
فلنتقِ الله تعالى، ولنحذر من الوقوع فيما يغضبه إن كنا نريد السعادة الحقيقية، فلا سعادة في معصية الله، ولا نغتر بزيادة المال أو بزيادة الربح إن كان من الربا؛ فهو في الحقيقة خسارة لا ربح، ولا يغرنا إمهال الله لنا؛ فإن الله قد يمهل العاصي، ولكنه إذا أخذه، أخذه أخذ عزيز مقتدر، فلنحذر سخط الله؛ قال سبحانه: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]، فاحذر يا عبدالله من الكسب الحرام والمعاملات المحرمة، وارجع إلى أهل العلم فيما اشتبه عليك.
جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
التعليقات