اقتباس
بدأت الراية الجهادية على يد عماد الدين زنكي الذي ظل يجاهد حتى استشهد سنة 541 هـ، وحمل الراية من بعده ولده: نور الدين محمود -الملقب بالشهيد- وعلى يديه عادت كثير من البلدان المسلمة إلى حوزة الإسلام، بعد أن ظلت فترة طويلة تحت نير الصليب، ولكنه مات قبل أن يتحقق هدفه الأسمى: وهو تحرير بيت المقدس، وذلك سنة 569 هـ، ويأتي الدور على صلاح الدين الأيوبي ...
مقدمة
من أعظم الأمراض إصابة للقلوب، وتحطيم النفوس، واغتيال الأحلام، وقتل الآمال، وفتك بالرجاء: مرض اليأس، ذلك الذي تغلغل -وللأسف الشديد- في قلوب كثير من المسلمين؛ فإن اليأس إذا دخل قلباً وتمكن منه يحوّل صاحبه إلى حطام إنسان، وخيال مآته؛ فمع اليأس يتحول المسلم إلى جثة هامدة؛ لا يتحرك، ولا يتكلم ولا يعمل ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يحاول تغيير حاله أو واقعه، ولا يحلم أو حتى يفكر في الحلم، مع اليأس يرتدي المسلم نظارة سوداء يرى بها كل الأشياء سوداء، حتى نور الصبح عنده أسود، لذلك نهى الله عز وجل عن اليأس، وحذر منه، ووصف أهله بأشد الأوصاف، فقال تعالى: (ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) [يوسف:87].
اليأس الآن هو الذي يصور للمسلمين أن عدوهم لا يقهر، ولا يمكن الانتصار عليه، اليأس الآن هو الذي يحجم ويعطل كل محاولات الانبعاث والانطلاق لاستعادة الكرامة المفقودة، والمجد المسلوب، اليأس الآن هو الصخرة والعقبة التي تقف في طريق النجاح، وتتحطم عليها كل المجهودات المخلصة لنصرة الدين، وبالجملة فإن اليأس داء قاتل للناس عامة، والمسلمين خاصة، والحق أن المسلمين يفترض أن يكونوا أبعد الناس عن اليأس، لأن دينهم يعصمهم من ذلك، ولكنهم لما تخلوا عنه، وجعلوه وراء ظهورهم، ونبذوا دستورهم الرباني: القرآن، وقعوا في هذا الداء العضال، ولعل أهم أسباب وقوع المسلمين في داء اليأس جهلهم الكبير بتاريخهم، وما جرى لأجدادهم من مواقف تتناسب -لحد التطابق أحياناً- مع واقعهم الأليم، وكيف تعامل الأجداد مع هذه المواقف؟ وكيف انتصرت الأمة من قبل؟ وعندها سيتضح لها طريق الانتصار، وأنه مهما طال الظلم والظلام، واشتد سواد الليل؛ فإن الفجر الباسم قادم من جوف الليل الجاثم، ومعركة تحرير بيت المقدس من أعظم الدلائل على ذلك.
طموحات وعقبات
كان للحادث الجلل، والمصاب الأفظع الذي نزل بالأمة في 22 شعبان سنة 492 هـ عندما احتل الصليبيون بيت المقدس، وقتلوا في باحة الأقصى سبعين ألفاً من أهل المدينة -حتى إن الدماء وصلت إلى صدور الخيل- كان لهذا الحدث وقع هائل على الشعوب الإسلامية أجمعها، ولكن لم يكن له نفس الوقع عند الحكام والأمراء والملوك الذين انشغلوا بصراعاتهم الداخلية، وبالاقتتال على الملك، وجمع الأموال من حلها وحرامها، لذلك لم تكن هناك ردود أفعال تجاه الوجود الصليبي بالأقصى على مستوى القيادات، وإنما على مستوى بعض الغيورين من الولاة والأمراء؛ نذكر منهم الأمير مودود أمير الموصل سنة 507 هـ، والأمير آقسنقر البرسقي، ولكن كل هذه المجهودات بقيت محدودة، والاستجابة العامة ضعيفة..
حتى قيض الله -عز وجل- لهذه الأمة الأسرة المجاهدة آل زنكي: وهم عماد الدين زنكي، وولداه: نور الدين محمود، وسيف الدين غازي، والأسرة المجاهدة الأخرى آل أيوب: نجم الدين أيوب، وأخزه أسد الدين شيركوه، والابن الصالح صلاح الدين الأيوبي.
بدأت الراية الجهادية على يد عماد الدين زنكي الذي ظل يجاهد حتى استشهد سنة 541 هـ، وحمل الراية من بعده ولده: نور الدين محمود -الملقب بالشهيد- وعلى يديه عادت كثير من البلدان المسلمة إلى حوزة الإسلام، بعد أن ظلت فترة طويلة تحت نير الصليب، ولكنه مات قبل أن يتحقق هدفه الأسمى: وهو تحرير بيت المقدس، وذلك سنة 569 هـ، ويأتي الدور على صلاح الدين الأيوبي هذا التلميذ النجيب الذي تتلمذ على يد أستاذ الجهاد ومجدده نور الدين محمود، قام صلاح الدين الأيوبي بحمل راية الجهاد، ومواصلة البناء، وتكملة السعي الذي بدأه من كان قبله، وكان الطموح عظيماً، والهدف عالياً، والجائزة الجنة، ولكن صلاح الدين الأيوبي اصطدم في طريقه بعدة عقبات كان لابد من التعامل معها وإزالتها لتمهيد الطريق إلى الفتح الكبير.
عقبة الدولة الفاطمية
دولة رافضية خبيثة، تظهر الإسلام، وتبطن الكفر والزندقة والإلحاد، وكان وجودها بمصر من أهم أسباب ضياع المقدسات؛ إذ كيف ينتصر الملاحدة والزنادقة، فهم أكفر من اليهود والنصارى، بل إن هذه الدولة الشريرة تتحمل تبعة قدوم الصليبين لبلاد الشام؛ إذ ثبت تاريخياً أن الفاطميين قد كاتبوا الصليبين ليقدموا إلى بلاد الشام؛ ليكونوا حاجزاً بينهم وبين الدولة السلجوقية السنية القوية، والتي حاولت إزالة الدولة الفاطمية، وكانت قاب قوسين أو أدنى من ذلك.
وقد استطاع صلاح الدين الأيوبي إسقاط هذه الدولة النجسة إلى غير رجعة في عهد نور الدين محمود، بعد أن خلع آخر الخلفاء الفاطميين العاضد، وتم تحويل الديار المصرية للمذهب السني، ووقف صلاح الدين بالمرصاد أمام المحاولات المتعددة التي بذلها بعض الفاطميين بمصر لإعادة الدولة مرة أخرى، وأصبحت مصر بعدها جبهة هجومية، ونقطة انطلاق وتجميع للقوى الإسلامية، بعد أن كانت مصدر كل الشرور على الأمة المسلمة.
عقبة تفرق الصف المسلم
وهي أشد العقبات التي واجهت صلاح الدين الأيوبي، ذلك أن الأمر بالشام قد اضطرب جداً بعد وفاة نور الدين محمود، وظهرت الأطماع الشخصية، والشرور والآثام، وشجع ذلك الصليبيون في سرعة الهجوم على دمشق، وضعف المسلمون عن صدهم، فدفعوا لهم أموالاً طائلة ليرجعوا عنهم، وكان صلاح الدين وقتها حاكماً للديار المصرية، وكان أمراء دمشق وحلب وحمص وحماة ليسوا على مستوى المسئولية، ولا يقدّرون خطورة موقف المسلمين بالشام، فكل ما يهمهم الاحتفاظ بملكهم -مهما كان الثمن- حتى ولو كان الثمن كرامتهم وأرضهم وقدسهم؛ فالمهم ملكهم فقط، لذلك فلا عجب أن يقف هؤلاء عقبة كئود أمام محاولات توحيد الصف المسلم أمام أعداء الإسلام الصليبين، ولا عجب أن نجدهم يؤثرون دفع الجزية للصليبين على أن يكونوا تحت راية يقودها صلاح الدين الأيوبي.
وقد استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يوحد الجبهة الشامية تحت راية واحدة بعد مجهودات استمرت من سنة 570 هـ حتى سنة 578 هـ، وذلك باستخدام الترغيب والترهيب، والحصار والقتال، حتى أنه تعرض عدة مرات لخطر الاغتيال؛ كما حاول أهل حلب سنة 576 هـ، ولكن الله عز وجل نجاه من هذا الكيد الذي جاء على يد فرقة من الحشاشين الباطنية.
((هكذا يكون فناء الأمم: عندما يتفرق الصف، وتختلف الكلمة، وتستحل الحرمة، عندما يرفع السوط، ويوضع السيف، وتحمل الأمة سلاحها على نفسها؛ فهل عند ذلك تنتصر؟ وصدق الحق عندما قال: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) [الأنفال:46])).
عقبة البؤر الصليبية
بعدما ما تم لصلاح الدين ما أراد من توحيد الجبهة الداخلية، والقضاء على الفتن المثارة على يد الشيعة الروافض بالشام ومصر، وجد أمامه عقبة أخرى لا تقل خطورة عن سابقتيها: وهي عقبة وجود بؤر صليبية منتشرة في الشام تحول بين صلاح الدين وهدفه: الأقصى، وكانت البؤر المشتعلة عبارة عن قرى وحصون ومواني وتجميعات، وكان لابد من التعامل معها بصورة قوية وقاطعة؛ لتطهير الطريق من أحجاره.
وكان صلاح الدين وقتها قد اطمأن على سلامة الجبهة الداخلية؛ مصر والشام، وارتفاع الوعي الإسلامي لدى الجميع، وتنامي الشعور بالمسئولية عند جند الإسلام.. عندها أطلق صلاح الدين صيحته الجهادية سنة 580هـ؛ فجاءته الجنود من كل حدب وصوب؛ من الشام، ومصر، والحجاز، واليمن، وكل مكان أراد نصرة دين الله، واستعادة المقدسات، وكان الهدف القضاء على هذه البؤرة المشتعلة؛ ففتح كلا من عكا، ويافا، وطبرية، وصيدا، وبيروت، وعسقلان، واللاذقية، وحصون كوكب، والشغر، وبكاس، ودرب ساك، وبغراس، وصفد، وشقيف، وصهيون، وبيت الأحزان، وغيرها كثير حتى تم له القضاء على هذه البؤرة الصليبية، وأصبح الطريق بعدها مفتوحاً إلى بيت المقدس
أول إشارات النصر
إذا صلحت النية، وخلص القصد، وصح الهدف، وجد السعي تظهر الإشارات على صحة الطريق تباعاً وتترى، وقد بانت أول إشارات النصر, وعلامات الرضا من المولى -جل وعلا- عن عباده المجاهدين عندما انتصر المسلمون على الصليبين في موقعة حطين الهائلة وما وقع فيها من الآيات الباهرات؛ من أسر ملوك وأمراء الصليبين، واستيلاء على صليبهم المقدس، وانتقام صلاح الدين من أمير الكرك الكافر أرناط أو أرنولد بأن قتله بيده؛ وفاء بنذره الذي قطعه على نفسه يوم أن علم أن الكلب أرناط قد اعتدى على الحجيج المسلم، واستهزأ بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الموقعة أكبر حافز للمسلمين ليواصلوا كفاحهم وجهادهم لتحرير بيت المقدس.
كان بيت المقدس وقتها قد أصبح ملجأ كل صليبي منهزم في المعارك السابقة، خاصة فرسان المعبد الصليبي -وهم أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين- وكان بالمدينة البطريك الأكبر عندهم؛ فاجتمع بالمدينة أعداد ضخمة بلغت الستين ألفاً، وانضم إليهم من المدينة المقدسة، وكلهم يرى أن الموت أيسر عليه من أن يملك المسلمون بيت المقدس
((إن المرء ليعجب من هذا الحرص العجيب، والصبر البليغ في الدفاع عن العقيدة والدين من جانب هؤلاء الصليبين، وهم كفار مشركون بالله عز وجل، وعلى الباطل والضلال، وتزداد حسرته ولوعته من تخاذل المسلمين -الآن- عن الوقوف مثل هذا الموقف البطولي في الدفاع عن الدين والعقيدة؛ فهل يا ترى يكون الكافرون من أحفاد القردة والخنازير أشد تمسكاً ودفاعاً عن دينهم الباطل منا معاشر المسلمين؟!)).
الفتح العظيم
أصبح الطريق مفتوحاً أمام الجيوش الإسلامية؛ لتحقيق الهدف الأسمى بعد توحيد الصف، والقضاء على البؤر المشتعلة، وقطع خطوط الإمدادات عن المدينة، وبالفعل نزلت الجيوش الإسلامية -يقودهم صلاح الدين الأيوبي- على بيت المقدس في 15 رجب سنة 583 هـ، وكانت المدينة شديدة التحصين، وقد استدل صلاح الدين على كثرة من فيها بالضجيج والجلبة الصادرة من داخلها، وقام صلاح الدين بالدوران حول المدينة حتى يستطيع أن يحدد أي الأماكن التي سيركز عليها الهجوم، وبالفعل حدد نقطة الهجوم الذي تم في 20 رجب سنة 583 هـ.
نصب المسلمون آلات الحصار والمجانيق على أسوار المدينة، واندلع القتال بضراوة شديدة، وقاتل الصليبيون دون البلد قتالاً هائلاً، وبذلوا أرواحهم ودماءهم دون دينهم وصليبهم!، وأثناء القتال استشهد الأمير الكبير عز الدين عيسى: وهو من أكابر الأمراء، وكان محبوباً للعام والخاص، فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك، فحملوا حملة رجل واحد على سور المدينة، وحميت نفوسهم، وقويت عزائمهم، واشتدوا في القتال حتى أزالوا الصليبين عن مواقعهم، وتعلقوا بسور المدينة، ونقبوا سورها، والمجانيق توالي الرمي على الأسوار، ووقع جزء من السور، وظهر ما كان مستتراً داخل المدينة، حيث رأى المسلمون الصلبان معلقة في كل مكان؛ على الأبواب والدور والمساجد، وكان هناك صليب كبير معلق فوق قبة الصخرة، فاشتعلت قلوب المسلمين، وازدادوا حنقاً وغضباً لله عز وجل، وشدوا كالأسود من أجل نصرة الرب المعبود، وأسقطوا عدة أبراج للمدينة، وقتلوا من فيها من الصليبين.
لما رأى الصليبيون شدة قتال المسلمين، وعزمهم الأكيد على فتح البلد خرج ملك المدينة الصليبي -واسمه باليان- وطلب الصلح من الناصر صلاح الدين، وتسليم البلد، وذل بين يدي صلاح الدين أشد الذل، ورجاه واستعطفه؛ ليوافق على الصلح، ولكن الناصر صلاح الدين رد عليه بحسم قائلاً: لا أفتحها إلا عنوة، كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك فيها أحداً من النصارى إلا قتلته، كما قتلتم أنتم من كان فيها من المسلمين، وعندها شعر باليان باليأس، وقنط من موافقة الناصر؛ فقال: إن لم تعطنا الأمان رجعنا فقتلنا كل نسائنا وأطفالنا، وقتلنا أسارى المسلمين -وكانوا أربعة آلاف أسير-، ثم نحرق كل الدور والمساجد والأماكن الحسنة، ونهدم قبة الصخرة والمسجد الأقصى، ثم نخرج لكم بسيوفنا، نقاتل قتال من لا يرجو حياة، حتى نموت أعزاء، ولا نموت حتى نقتل منكم أعدادنا، ولما رأى الناصر العزم الأكيد، واليأس القاتل في كلام باليان وافق على الصلح، على أن يدفع كل واحد منهم فدية الرجل عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والصغير اثنين.
(( وهذا من فقه صلاح الدين، وتقديره للمصالح والمفاسد، فلم يصمم على القتال؛ لأن الخسائر ستكون أضعاف الأرباح )).
مشاهد مضيئة
سمح صلاح الدين للفقراء بالخروج من المدينة دون فدية، وقضى يوماً كاملاً من بزوغ الشمس حتى غروبها وهو فاتح الباب للعجزة والفقراء؛ ليخرجوا من غير فدية.
يروى أحد المؤرخين الإنجليز (مل): "ذهب عدد من النصارى الذين غادروا القدس إلى منطقة أنطاكية -وهي نصرانية- فلم يكن نصيبهم من أميرها إلا أن أبى عليهم أن يضيفهم، فطردهم، فساروا على وجوههم في بلاد المسلمين، فقوبلوا بكل ترحاب".
قيل للسلطان صلاح الدين -والبطريرك خارج بأمواله وذخائره، وكانت كثيرة جداً لم يصرفها على فداء الفقراء والمساكين من النصارى-: لم لا تصادر هذا فيما يحمل، وتستعمله فيما تقوي به أمر المسلمين؟ فقال: لا آخذ منه غير العشرة دنانير، ولا أغدر به.
ويعلق مؤرخ آخر -وهو ستانلي لي بول- على هذه الحادثة بقوله: "قد وصل الأمر إلى أن سلطاناً مسلماً يلقى على راهب مسيحي -لا ضمير له- درساً في معنى البر والإحسان، ونحن لا نملك إلا أن نعلق على هذه المشاهد المضيئة بقول الشاعر:
سلكنا فكان العدل منا سجيـة *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحللتم قتل الأسارى وطالما *** غدونا على الأسرى نمن ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننـا *** وكل إناء بالذي فيه ينضـح
دخل المسلمون المدينة في 27 رجب سنة 583 هـ -وكان يوم جمعة-، فوجدوا أن الصليبين قد غيروا ملامح المدينة، وخاصة المسجد الأقصى، الذي ملأه الصليبيون صلباناً ورهباناً وخنازير، وجعلوه إسطبلاً لخيولهم، ووجدوا أن قبلة المسجد ومحرابه قد جعلا خلاء - فعلى من فعل منهم لعنة الله في الدنيا والآخرة-، ووضعوا أعلى قبة الصخرة صليباً كبيراً من الذهب، فتسلق بعض المسلمين الصخرة، وقلع هذا الصليب وألقاه على الأرض، وعندها صاح الناس كلهم صوتاً واحداً من داخل المدينة وخارجها مكبرين؛ المسلمون كبروا فرحاً وحمداً وشكراً لله عز وجل، والصليبيون صاحوا توجعاً وألماً على معبودهم الباطل، فكانت هذه الصيحة أعظم صيحة سمعت على وجه الأرض وقتها.
أول جمعة بالبيت
تم تنظيف المدينة، وطهرت من أنجاس عباد الصليب، غسلت الصخرة بماء الورد، وطهر المسجد الأقصى، وعاد له بهاؤه ورونقه، وأقيمت أول جمعة بالأقصى في 4 شعبان 583 هـ، وأحضر المنبر الذي صنعه القائد الكبير نور الدين محمود؛ ليوضع في المسجد الأقصى بعد فتحه، فكان ما بين صُنْعِه وفتحِ بيت المقدس عشرون سنة، وهذا من علامات رضا الله عز وجل عن نور الدين محمود، وقام الخطيب محيي الدين بن الزكي فخطب خطبة بليغة عظيمة: بدأها بتحميدات القرآن، وقد ذكر هذه الخطبة بطولها أبو شامة في تاريخ الروضتين.
ولنا أن نتخيل منظر الناس يوم أن رفع المؤذن الأذان لأول مرة في المسجد الأقصى بعد واحد وتسعين سنة من الأسر؛ فالعيون تبكي، والقلوب ترتجف، والألسنة تلهج بحمد الله وشكره، والجميع خاشع لله عز وجل فرحاً بهذا الفتح العظيم.
خاتمة لابد منها
((من هذا الفتح العظيم لابد أن نخرج بحقيقة هامة: وهي أن المسلمين وقتها -رغم ضعفهم، وتفرقهم، وسطوة عدوهم- لم يدخل اليأس إلى قلوبهم - رغم طول فترة الأسر الصليبي للقدس، فلم يعترف أي أمير أو ملك مسلم بالوجود الصليبي حقاً به، لطول احتلالهم له، ولم يضع أي أمير حاكم مسلم يده في يد الصليبين في معاهدة تقسم القدس بينهم وبين العدو والمحتل، بل ظلوا طوال الواحد والتسعين سنة يجهزون ويحضرون للفتح، ويقاتلون ويكافحون من أجل هذا الفتح العظيم، ونحن نقول هذا الكلام خصيصاً لمن يأس من طرد الصهاينة من نفس البقعة الطاهرة، وظن أن فترة الثلاث والخمسين سنة قد أعطتهم صك ملكية لتلك القطعة الغالية من قلب أمتنا؛ فلا يأس مع الإيمان، ولا قنوط من نصر الله عز وجل)).
المراجع:
1- أيعيد التاريخ نفسه
2- البداية والنهاية
3- المنتظم
4- الطريق إلى بيت المقدس
5- البرق الشامي
6- تاريخ دمشق
7- سيرة صلاح الدين لإبن شداد
8- النجوم الزاهرة
9- الكامل في التاريخ
10- الروضتين في التاريخ
11- التاريخ الإسلامي
التعليقات