اقتباس
إن أغلب خطابات التحرير كانت موجهة للتغرير بالشعوب، واستغبائها، وتكديس عاطفتها الصادقة خلف مشاريع وهمية، لطالما روّجت لها تيّارات وأنظمة فضحت السنوات الأخيرة نفاقها وشرّها، فقد ظلّ...
تتعرض الأمة الإسلامية باستمرار وعلى مدى تاريخها الطويل إلى مخططات ماكرة؛ تهدف إلى ضرب وعيها العميق بقضايا الحياة، وشلّها عن أخذ دورها الحضاري في الاستخلاف وعمارة الأرض بالحق، وكان تزييف الوعي والحقائق من الوسائل التي استخدمها أعداء الحق والبشرية؛ لثنيّ المسلمين عن استئناف مسيرة الحضارة الإسلامية الراقية الزاهية، من خلال وضع الكثير من العراقيل، وبث الأوهام، وزرع مفاهيم لا تمت لدينهم الحنيف بصلة.
ومن أبرز المفاهيم التي لحقها: التزييف، مفهوم الحرية والتحرر والتحرير؛ حيث عمل المحتلون للعالم الإسلامي خلال الحقب الاستعمارية التي شهدها الحيز الجغرافي للمسلمين في القرنين الماضيين، على تبديد قيم النضال والجهاد ضد الظلم والطغيان؛ حرصا على بقائهم بعيدا عن التهديد الذي قد يأتي من عودة الروح لمعاني وقيم الحرية والإباء التي هي من صميم العقيدة الإسلامية، والتي يعني بعثُها في دنيا النّاس الرحيل الحتمي لقوى الشرّ والاستعباد عن مشهد الحياة، وظن الكثير من المسلمين أن اندحار المحتل عن الأراضي الإسلامية يعني بالضرورة نهاية هذه المعضلة والمشكلة، إلا أن الأيام أثبتت أن المستدمر لم يخرج من بلاد الإسلام حتى ضمن بقاء وكلائه وأذنابه الذين يشوهون الإسلام عقيدة وشريعة، ومن قرأ لمختلف الفرق المعاصرة الملحدة (بتعبير الخطاب القرآني) كالعلمانية وجد أن التحريف قد بلغ مداه، وأن محاولة إفراغ الإسلام من مضامينه الكبرى، وتسقيف آفاقه العليا لم تتوقف يوما، وهذه سنة من سنن الصراع، ونقصد بها ديمومة التدافع بين الحق والباطل.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الخطيب المسلم الذي يصعد منبرا قد صعده خاتم الأنبياء والمرسلين -عليه الصلاة والسلام-، مطالب اليوم بتقفي آثار المفسدين، وكشف مخططاتهم، وحيلهم ومكرهم للمسلمين عامتهم وخاصتهم، وهو المؤهل لأداء هذا دور، إن تسلح بقيم الرسالية، ولم تستلبه قيم المادية التي صارت تفتك بهذه الرسالة، التي يراد لها أن تصير مهنة وحرفة لمن لا مهنة له ولا حرفة.
وعطفا على ما جاء في هذه المقدمة فإن من أبرز القضايا التي استُغلت لضرب مفهوم الحرية الذي جاء به الإسلام: قضية تحرير فلسطين.
فلسطين أطول صفقة في التاريخ:
فلا يمر علينا يوم إلا ونسمع عن قضية فلسطين واسترجاعها من أيدي الصهاينة، حيث تعج الأخبار والنشرات بخطابات التباكي على ضياعها من المسلمين، والتنديد بجرائم الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني، وتقابلها خطابات تنسج أحلام الاسترداد والتحرير، وليت الأمر يقف عند هذين الأمرين وحسب، بل إنّ ما يثير الحسرة والغضب أنّ أغلب قضايا المسلمين دخلت أسواق المتاجرة الدولية، ومنها: قضية تحرير الأرض المباركة، حتى غدت مقولة: "فلسطين أطول صفقة في التاريخ" أصدق وصف للحالة التي آلت إليها القضية الأولى للمسلمين.
ومع كثرة الصخب الإعلامي حول تحرير فلسطين المحتلة تتراكم في الذهن أسئلة كثيرة، لعلّ من أهمّها: لماذا تروج المنظومات الوضعية لاسترداد فلسطين وعاصمتها القدس، وهي تمارس نفس سلوكات وسياسات الصهاينة؟ وهل هي (فعلا وواقعا) القضية الكبرى للأمة بعد أن صار امتهان الإنسان وبيع الأوطان ميزة خاصة بمنظومات الاستعباد والطغيان؟ أم أنّ كل ما في الأمر استغلال المستبدين للقضية المركزية للمسلمين، واتخاذها وسيلة لتخدير الشعوب المسلمة، والتلاعب بوعيها؟
التلاعب بقضايا المسلمين ودوره في تزييف الوعي تظهر الوقائع والأحداث التي عاشتها الأمة في العقود الأخيرة:
إن أغلب خطابات التحرير كانت موجهة للتغرير بالشعوب، واستغبائها، وتكديس عاطفتها الصادقة خلف مشاريع وهمية، لطالما روّجت لها تيّارات وأنظمة فضحت السنوات الأخيرة نفاقها وشرّها، فقد ظلّ العلمانيون والبعثيون والشيوعيون وأشباههم طيلة العقود الماضية، يلقون في الجماهير العربية خطبا ملتهبة، تتحدث عن الممانعة وإجلاء الصهاينة من الأرض المباركة، ولم يتوقف الأمر عند هؤلاء، بل وصل إلى متاجرة رافضة لبنان بالقضية الفلسطينية، واستغلالها لنشر المذهب الرافضي في العالم السني، حتى صدّق الكثيرون عنتريات المقاومة، لكن سنن الله في الكون لا تتبدل ولا تحابي أحدا.
فمن السنن الكونية التي وضعها الله -عز وجلّ- في هذه الحياة: أن ّكل عمل فاسد لابد وأن تنكشف حقيقته، مهما حاول أصحابه إخفاء نياتهم الحقيقية فيه، وإضفاء الشرعية عليه، يقول الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 81]، فمهما طال الزمن فإنّ النوايا الفاسدة المتسربلة بأقوال فاضلة لابد وأن تنكشف للناس، فالحقيقة تصعد إلى السطح عاجلا أم آجلا.
المتاجرة بقضايا المسلمين النظام النصيري والصفوي نموذجاً:
ويعد النموذج السوري والإيراني أبرز مثال لهذه الحالة؛ فقد خُدعت الأمة لعقود، وهي تعتقد أن سوريا الأسد وإيران الخميني، ومن معهم من يساريين وبعثيين وقوميين، صادقون في توجهاتهم وكلماتهم، لتكشف الأيام أن القوم كانوا حراسا لأعداء الأمة، وأنهم كانوا الحمار الذي يركبه أعداء الإسلام.
فقد كشفت الثورات العربية الحالية: أنّ هذه التيارات والأنظمة أصغر بل أحقر من أن تتحدث عن فلسطين والممانعة، فهي تتاجر في الدماء، وتنتهك الأعراض، وتبيع الحشيش والمخدرات، وتصدر العهر والعمالة، ثم تدّعي زورا وبهتانا دفاعها عن قضية المسلمين الأولى، بل إن أفعالها فاقت ما فعله الصهاينة بالأمة في ستة عقود.
وعليه فإنّ الشعوب المسلمة مدعوة إلى عدم الانجرار وراء الأنظمة العربية المستبدة التي تدّعي وقوفها ضد الصهاينة، وتبني قيم الحرية، بينما هي في حقيقة الأمر لا تختلف عن الكيان الصهيوني في التعامل مع المسلمين، والواقع خير شاهد على ذلك.
موقف الإسلام من احتلال الإنسان والأوطان:
لقد حرصت هذه الأنظمة خلال العقود الماضية على ترسيخ فكرة خطيرة مفادها: أن تحرير الأرض والإنسان مكانه أرض فلسطين فقط، وأنّ الواجب على المسلمين الالتفات إلى ممارسات الصهاينة فقط، بينما ممارساتهم تتساوى أو تتفوق على ممارسات الصهاينة، حتى صار من المعتاد أن يسمع المناهض لهذه الأنظمة ومثيلاتها قول النّاس: "من يريد التحرير فليذهب لقتال اليهود في فلسطين"، وهي المقولة التي تؤكد على أن تزييف الوعي وصل درجة خطيرة في الأمّة الإسلامية، فالمسلم لا يعادي الصهاينة بسبب ديانتهم ابتداءً، بل بسبب أفعالهم الإجرامية، وظلمهم وتجبرهم وطغيانهم، وهي الأفعال التي تتصف بها الكثير من المنظومات الحاكمة في العالم الإسلامي وعلى رأسها النظام الصفوي والنظام النصيري.
ومنهج الإسلام أنه لا يفرق بين المتماثلات، فهو يعادي من يحتل الأوطان، لكنه لا يسكت عمّن يحتل الإنسان، ويمتهن الأعراض، ويسعى في تحطيم الأجيال وحاضرها، ويرهن مستقبلها، ويناهض تبديد الثروات، وقتل العقول والقلوب، فهو دين الحرية والعدالة والكرامة.
ومن يتصور أن رسالة الإسلام تفرق بين المتماثلات والمتشابهات فما عرفه حق المعرفة، بل إن نظرة الإسلام للظلم والعدوان واحدة، وروحه السامية أعلى من أن ترضى ببيع القيم والحقوق تحت أي مسمى أو صفقة.
إن الإنسان المؤمن أقدس من أي أرض مهما بلغت قدسيتها، والإسلام واضح في ذلك، أخرج النسائي عن بريدة مرفوعا: "قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا"، وعند الطبراني في الصغير عن أنس -رضي الله عنه- رفعه: "من آذى مسلما بغير حق فكأنما هدم بيت الله"، وعن البراء بن عازب -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق" (رواه ابن ماجه)، قال المنذري: "وإسناده حسن"، وقال البوصيري في "الزوائد": "وإسناده صحيح، ورجاله موثقون" (ورواه البيهقي والأصبهاني)، وزادا فيه: "ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن؛ لأدخلهم الله النار"، وفي رواية للبيهقي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لزوال الدنيا أهون على الله من دم سفك بغير حق"، وعن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنه قال: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن؛ لأكبهم الله في النار" (رواه الترمذي)، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اجتمعوا على قتل مسلم؛ لكبهم الله جميعًا على وجوههم في النار" (رواه الطبراني).
وورد عن الكثير من الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- نحوه مثل: "لقد شرّفك الله وكرمك وعظّمك والمؤمن أعظم حرمة منك" إذًا حرمة المسلم نفسه وعرضه وماله وكرامته أعظم من أي شيء مقدس، ولو كانت الكعبة الشريفة نفسها.
إنه من غير الممكن أن تتحرر فلسطين ما دامت الأراضي الإسلامية خاضعة لسيطرة منظومات الاستبداد التي تعادي الإسلام عقيدة وشريعة، وتحتل الإنسان، وتفرّغه من قيمه، وتمسخ فطرته؛ لذلك يجب تحرير الإنسان من كل الصنميات التي صار عبدا لها وهو لا يدرك ذلك، بعد أن تم النيل من حراس التوحيد والحرية في ذاته وحياته، ومتى ما تحرر المسلمون من صنميات الاستبداد والظلم، تحررت الأرض كلها ومنها الشام المبارك بقلبه الطاهر القدس الشريف.
الحرية والتحرير رؤية إسلامية:
إن تحرير الأوطان والإنسان بالنسبة للإسلام عبارة عن استراتيجية متحركة ليس لها توقيت محدد، ولا يقيدها مكان، ولن يقيدها إنسان، فكما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة"، وكل ما يحرر البشر من الطغيان يكون داخلا في هذا الحديث، بل إن فضل الجهاد والنّضال بالكلمة والقلم لإخراج البشرية من دوائر الاستكبار والاسترقاق قد يفوق فضل الجهاد بالمال والبدن، وقد فضّل ابن القيم -رحمه الله- مداد العلماء على دماء الشهداء بعد أن عرض مقارنة موضوعية بين الأمرين؛ لأنّ العلماء هم وقود المسيرة الحضارية للمسلمين، وهم منارات تحرير البشر من الاستعباد، وهم مصباح الأمة في الظلام الحالك، وهم حرسها الأمين من لصوص الإسلام المحترفين، وهم وعيها النابض.
لقد أكّد الإسلام على مبدأ تساوي المسلمين في حرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فهي قضية واحدة لا تتجزأ، ولا يتجزأ معها مفهوم التحرير، بل أينما وجد الظلم والقهر والاستبداد والاغتصاب، انطلق النضال والتحرير والجهاد نحوه انطلاقة نهايتها العدل والحرية والكرامة.
ويمكن في نهاية هذه المقالة: أن نلخص ما سبق من خلال مقولة خالدة ربطت بين الإسلام وتحرير البشر من الظلم، يقول ربعي بن عامر -رضي الله عنه- يوم سأله رستم: "ما الذي جاء بكم؟" فأجابه ربعي ذلك الجواب المدوي في سماء الإنسانية: "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
لقد كان هذا الجواب أعظم من كل المؤلفات التي ألفها الغربيون بعد الثورة الفرنسية التي ادعوا فيها الأخوة الإنسانية والمساواة، ثم انطلقوا في حملات عسكرية مدمرة ودموية ومتوحشة، أفنت الأخضر واليابس، وأهلكت الحرث والنسل، وأبادت ملايين البشر، لقد كان مقولة ربعي بن عامر -رضي الله عنه- تجسيدا صريحا لحقيقة الإسلام الذي لا يفرق بين تحرير الإنسان والأوطان، بل الأخير من الأول، والأول من الأخير، ولا تفاضل بين متماثلين.
إنّ الرسالة الكبرى للإسلام إذًا تتلخص في تحرير الإنسان من مصيبة الإذلال والاستغلال والاستصغار، وإخراجه إلى رحابة التوحيد والكرامة والعدل والحرية، وأن يكون عبدا لله وحده لا شريك له، وهذا هو المفهوم الذي يتوجب على المسلم التمسك به والعمل على نشره وتحقيقه في الواقع.
التعليقات