في الحلقة الأولى ذكرنا أهمية العناية بأمر الخطبة، وكيف أن المنابر هي المؤثر الأول في توجيه الناس، وعرفنا أهمية الخطبة من مبدأ الشرع.
وذكرنا طريقة إعداد الخطبة (التقليدية) وتساءلنا: " هل الخطبة مختصة بهذه الطريقة ضرورة؟ وهل يجب أن يكون ما يطرح فيها مستوفى النقاط غير ناقص"؟
الجواب: يبدو أن ذلك ليس واجباً. وليست الخطبة مختصة بتلك الطريقة، بل هي طريقة من الطرق، ومن الجائز اتخاذ طرق أخرى غيرها، ما دامت خالية من أي محذور شرعي، والعلة في ذلك:
أن الخطبة لا يشترط فيها أن تكون درساً علمياً، يجب فيه الشرح والتفصيل والاستيفاء، بل قد تكون موعظة وتذكرة لا يشترط فيها إلا صحة الكلمة، وتحريك القلوب، لا يلزم فيها الاستيفاء والشرح، كما هو معلوم، فبالكلمة الواحدة والجملة والجملتين، قد تتحقق الموعظة ذات الأثر البالغ، ويحصل المقصود، وهذا مجرب معروف، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعظ في خطبه، كما كان يعلم، في كلمات معدودة، قصيرة لا تتجاوز بضعة دقائق، لكنها مؤثرة، محركة للقلوب، مقومة للسلوك، يلقيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بصوت مسموع مرتفع، يشتد، وتحمر عيناه، كأنه منذر جيش، يقول: (صبحكم، ومساكم). [مسلم، الجمعة، باب: تخفيف الصلاة]
فنحن الآن بين نوعين من الخطب: الخطب العلمية، والخطب الوعظية.
وكلاهما مهم، والناس بحاجة إليهما، الخطب العلمية لها طريقتها الموصوفة بالتقليدية -كما بينا آنفاً- والوعظية لا يشترط فيها ما يشترط في العلمية..
وبكلا النوعين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، وكانت خطبه تمتاز بالقصر، والكلمة الجامعة، ولم يكن يحرص على استيفاء نقاط ما يريد الكلام فيه، ولا اتباع طريقة الشرح والتحليل، بل كلمات معدودة جامعة.
إذن، إذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتبع في خطبه طريقة الاستيفاء والشرح المفصل، فهذا دليل على عدم اشتراط تلك الطريقة، وهذا هو المطلوب.
لكن ههنا سؤال وهو:
- أليست تلك الخطب التقليدية خلاف هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبه؟
- وأليس من السنة قصر الخطبة، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "قصر خطبة الرجل، وطول صلاته مئنة من فقهه" [رواه مسلم، في الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة]، ومعنى مئنة: أي دالة على فقهه؟
فالجواب:
أولاً: قصر الخطبة من المستحبات، بمعنى أن التطويل ليس محرماً، وقد خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بسورة ق.
ثانياً: المقصود بالخطبة هو الذكر والموعظة والتعليم، فإن حصل ذلك بخطبة قصيرة، وبكلمات معدودة، جامعة، يفهمها الناس، فهو الأولى والأحرى والأفضل، لموافقة الهدي النبوي، لكن:
ماذا لو أن الخطيب لا يملك الفصاحة والبلاغة، والقدرة على حصر المعاني واختصار ألفاظها؟
وماذا لو أن أذواق الناس وأفهامهم قد فسدت وتعطلت، حتى ما عادوا يفهمون إلا بالشرح والتبسيط؟..
يبدو أنه حينئذ لا مناص من الشرح والتفصيل والتبسيط، حيث إن المقصود من الخطبة هو حصول الموعظة والعلم، فإن كانت لا تحصل إلا بهذه الطريقة، فما حيلة المضطر إلا ركوبها، وعندئذ لا يبدو أن المطيل في خطبته، بالمقارنة بخطب النبي -صلى الله عليه وسلم-، مخالفاً للهدي النبوي، وذلك لأن الغاية والمقصود لا يتحقق إلا بها، وقد كانت الوسيلة في عهد النبوة الاختصار والقصر، لكون الناس على فهم صحيح، وخطيبهم أوتي جوامع الكلم، أما وقد تغير ذلك، فامتنع حصول المقصود من الخطبة إلا بالشرح والتفصيل، فلا أظن من الصواب تخطئة هذه الطريقة، خاصة إذا عرفنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة ق، والخطبة بها فيها شيء من الطول.
وتسويغ تطويل الخطبة عن الحد النبوي لا يعني التوسع في ذلك، بل ينبغي على الخطيب أن يجتهد في الاختصار قدر ما يمكنه، ويتخلص من داء التكرار المزعج، والشرح الممل حتى لما هو واضح.
ذلك من حيث قصر الخطبة وطولها، أما من حيث طريقتها، فإن الطريقة النبوية تقوم على طرح جزء من الموضوع والقضية المراد الحديث عنها، دون تقصٍ أو استيفاء، وهذا بخلاف الطريقة التقليدية القائمة على التقصي والاستيفاء.
- فهل هذه الطريقة كذلك تعد مخالفة للسنة؟.
الجواب أن يقال: الشارع لم يأمر باتخاذ طريقة معينة في إعداد الخطبة، لم يأمر بطريقة الاستيفاء، وكذا لم ينه عنه، ولم يأمر بطريقة طرح جزء من الموضوع، هو الأهم والمناسب للمقام والحال، ولم ينه عنه، بل أمر بإقامة الخطبة، وترك تحديد الطريقة، بحسب حال الخطيب، وحال السامعين، وقد كانت خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- قصيرة، ومن ثم لم يكن من الممكن بحال استيفاء الموضوع، وقد عرفنا أنه أوتي جوامع الكلم، والسامعون على قدر كبير من الفهم والإيمان والعلم، لكن الحال اليوم مختلف، الناس في قلة من العلم والإيمان، والناس محتاجون إلى معرفة كل ما يتعلق بالموضوع المطروح، لجهالتهم بكثير من أساسيات الدين، والمنبر كما أنه للوعظ كذلك هو للتعليم، فما الذي يمنع حينئذ من اتخاذ طريقة الاستيفاء؟
يبدو أنه لا مانع، خاصة وأنه ليس ثمة دليل يمنع من ذلك، غاية الأمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله، لظروف الحال في زمانه، حيث السلامة في الفهم والعلم والإيمان، فكان يكفيهم أن يذكرهم بأهم جزء في الموضوع بحسب المقام، لكن الناس اليوم بحاجة إلى طريقة الاستيفاء، كي يتعلموا ويتفقهوا، وبحاجة كذلك إلى طريقة العرض الجزئي لكيلا يملوا، فنحن إذن بحاجة إلى الطريقتين: طريقة الاستيفاء للتعلم، وطريقة العرض الجزئي للتذكرة ولفت الانتباه.
إذن الأمر واسع، وليس من السنة التضييق في شيء وسعه الله على العباد، ولم يأمر فيه بشيء.
قد عرفنا بما سبق أن الإعداد إما أن يكون بطريقة الاستيفاء، وإما بطريقة العرض الجزئي، وكل ذلك باعتبار أن الخطبة ذات موضوع واحد، لكن كيف لو كانت الخطبة أكثر من موضوع؟..
ذلك جائز وممكن، ولا يمكن فيها توفية كل موضوع حقه، ولا نستطيع أن نفاضل بين الخطبة ذات الموضوع الواحد وذات الموضوعات المتعددة، فنحن نحتاج إلى النوعين جميعاً، بحسب الأحوال والمقتضيات، فمرة قد يكون هذا أفضل، ومرة الآخر.
هذه الطريقة طريقة الإعداد: الاستيفاء، أو العرض جزئي. يحسن أن نسميها الطريقة العامة، وذلك لنفسح المجال لبيان الطريقة الخاصة للإعداد، وهي التي تصور شروط وأدوات إعداد الخطبة، كيف تكون؟
وأهم نقطة فيها هو:
- أن نفهم أن الإعداد الصحيح الجيد المؤثر المثمر، لا بد له من دافع يدفع إليه، ويغري به، ويعين عليه، بدونه تفقد الخطبة أثرها وتأثيرها، وتكون جسدا بلا روح.
هذا الدافع يقوم على فكرة: المعاناة.
ويفسرها المثل القائل: "ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة". [مجمع الأمثال لأحمد الميداني النيسابوري 2/200، المستطرف في كل فن مستظرف 69]
وأداتها: الملاحظة، والتأمل بعمق وتحليل، في الأخبار والحوادث والأحوال التي تمر بالخطيب، في كل مكان.
وشرح هذه الفكرة ما يلي:
إن الغرض من الخطبة هو: التأثير في القلوب والعقول، فمقصودها تحريك العاطفة وإعمال العقل.
والخطيب لا يمكن له أن ينجح في ذلك، ما لم ينفعل قبل بالأمر الذي يريد الحديث عنه.. لذا كان من الواجب عليه ألا يخطب إلا في أمر يشغل: قلبه، وعقله، ونفسه. حتى إنه ليتمثله في كل شيء يمر به، فيكون حديث نفسه، ونطق لسانه، فإذا كان ذلك فقد وضع قدمه على الطريق، وسهل عليه ما بعده.
قد يكون الخطيب مجيدا في اختيار الموضوع واستيفاء عناصره، لكن قد لا يكون لكلامه الأثر ما لم يعان موضوعه، ويعيش همومه وأحداثه، حتى ليمتنع لأجله من التمتع بالمباحات، لاشتغال الخاطر والذهن.
- لم كانت خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات تأثير فريد على القلوب والعقل؟
لأنه كان على يقين بما يقول، وعلى قناعة تامة بالدعوة التي عليها، وهمّ دائم لتحقيق هدف معين.
والإنسان إذا كان راسخ الإيمان بفكرة وعقيدة ما، فكل ما يصدر منه من كلام يشرح فيه فكرته وعقيدته، سيحمل معه سلطانه على القلوب، فيطرق أبوابها. لا، بل هي مفتحة تدخلها الكلمات بلا استئذان.
إن كلمات الواثق تزلزل قلوب الغافلين..
فليست العبرة بتنميق العبارات، إنما العبرة بالصدق والثقة، وذلك لا يكون إلا من قلب جرحته الحقائق، حتى تركت أثرها فيه مدى الدهر..
إن الجرح الغائر إذا كان في البدن لم يمكن إخفاؤه، فإن قدر على ستره، لم يقدر على كتم ألمه، فيبدو في وجهه وفي عينيه.. وكذلك القلب إذا جرح لم يمكن التكتم على ما فيه، ويستوي في هذا العامي والعالم، فهي ميزة تميز بها الإنسان خاصة، دون النظر إلى موقعه، ومنزلته، وشأنه..
ويستوي في أصله المجروح بحقائق الدنيا والمجروح بحقائق الآخرة، إنما يتميز المجروح بحقائق الآخرة بشرف ما جرح به، كالفرق بين من قاتل للمغنم، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فكلاهما مسّه القرح، لكن فاز المخلص لله بالثواب، فلم يذهب ألمه سدى، بخلاف المبتغي للدنيا، فلا دنيا نالها، ولا آخرة حصل ثوابها، والخطيب بمنزلة من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وليس بمنزلة من قاتل للمغنم، فهو أولى بالمعاناة، لشرف ما يحمل، ولأنه يعلم من الحقائق ما لا يعلمه غيره من عامة الناس، روى الترمذي بسنده عن أبي ذر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع، إلا وملك واضع جبهته، ساجدا لله، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله، لوددت أني كنت شجرة". [في الزهد، باب: لو تعلمون ما أعلم]
ونستكمل في الحلقة القادمة -بإذن الله- بقية الموضوع.
التعليقات