اقتباس
وشيخنا يعقوب مع ضخامة صوته واضح الكلمات سليم الألفاظ صحيح المخارج قوي المعاني تُعبِّر طريقة نطقه عما يقصده من ألفاظه، وهذا من عوامل نجاح الخطيب، يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "النطق الحسن هو الدعامة الأولى للإلقاء الجيد، وإذا اعترى النطق ما يفسده ضاع الإلقاء...
ما إن تقع عينك على خطيبنا اليوم في جلبابه الأبيض ولحيته البيضاء الكثة الطويلة وعمامته البيضاء ذات الذؤابة ووجهه النضر الذي يكاد يشع نورًا وبهاءً حتى تكاد تظن أن الزمان قد عاد بك عشرة قرون أو أكثر إلى الخلف حيث سلف الأمة وصفوتهم، هو شيخ وقور قد جاوز الستين بل هو على مشارف السبعين من عمره، متئد ثبت واثق من كلماته متواضع في مشيته متأنٍ في أحكامه متزن في نظراته للأمور.
وهو خطيب مفوه مثل أبيه، عرف طريق المنابر منذ نعومة أظفاره، سلك طريق الدعوة إلى الله على بصيرة ونور وهدى.. هكذا نحسبه والله حسيبه.
لكن من هو خطيبنا اليوم؟
هو الشيخ محمد حسين يعقوب الذي ولد سنة 1375هجرية، الموافقة لسنة: 1956م بمحافظة الجيزة بمصر، وقد ورث حب الخطابة والدعوة إلى الله من والده الذي كان من مؤسسي "الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية" في قريته، والذي ظل يخطب الجمعة ويلقي الدروس في مختلف مساجد مصر طوال خمسين عامًا من عمره.
أتقن شيخنا حفظ القرآن الكريم كاملًا في كُتَّاب القرية، ومع أن شيخنا لم يتدرج في مراحل التعليم العليا، فقد اكتفى بدبلوم المعلمين، إلا أنه حرص على بناء نفسه بناءً علميًا قويًا صحيحًا، فحصل على إجازتين في كتب السنة النبوية الستة، وسافر مرارًا إلى المملكة العربية السعودية حيث تلقى العلم على يد عدد من العلماء الأثبات كالشيخ عبد العزيز بن باز ومحمد بن صالح العثيمين، وعبد الله بن جبرين، وعبد الله بن قعود، وعبد الله بن غديان، ومحمد المختار الشنقيطي، وعبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي، وعطية محمد سالم، وأبي بكر الجزائري، وعبد القادر شيبة الحمد..
أما في مصر فقد تتلمذ للشيخ الدكتور أسامة محمد عبد العظيم والشيخ رجائي المصري المكي، والشيخ عبد المحسن العباد، والشيخ أبي ذر القلموني، وكذا الشيخ محمد صفوت نور الدين رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية.
والمتتبع لدروس شيخنا وكتبه ومحاضراته يدرك أنه كذلك متتلمذ على يد الأئمة ابن الجوزي وابن تيمية، وابن القيم، والذهبي؛ فإنه وإن فصلت بينه وبينهم القرون الطوال فإنه كثير النقل عنهم والاستشهاد بكلامهم وشرح كتبهم...
وكعادتنا في هذه السلسلة نبدأ باستخراج بعض نقاط التميز والقوة في خطيبنا لنقتدي به فيها، ثم نتتبع نقاط القصور -إن كانت- لنتفاداها ونتجنبها، ونتناول كلًا من ذلك في قسم منفصل.
القسم الأول: نقاط القوة وعوامل التميز:
أولًا: بهاء الطلعة، وحسن السمت:
يقولون: "إن الخِطاب يتبين من عنوانه"، وإن أول ما تقع عليه أعين الناس من الخطيب هو مظهره؛ وممن لفتوا أنظارنا لذلك البراء بن عازب -رضي الله عنهما- والذي بهره مظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنقله إلينا قائلًا: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مربوعًا، بعيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئًا قط أحسن منه"([1])، وفي لفظ لابن ماجه: "ما رأيت أجمل من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مترجلًا في حلة حمراء".
وخطيبنا اليوم من المحافظين جدًا على حسن مظهرهم وروعة سمتهم؛ فتراه في الأغلب الأعم مرتديًا البياض، على رأسه العمامة البيضاء ذات الذؤابة من الخلف، وقد رفع ثوبه فوق كعبيه، وتجده وقد اعتنى بلحيته وبتصفيفها، مشرق الوجه بهي الطلعة...
واهتمام شيخنا بالبياض إلى جانب كونه سنة؛ لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "البسوا من ثيابكم البياض؛ فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم"([2])، فإنه دليل على تمام النظافة والعناية والنقاء والطهارة، يؤيد ذلك ما جاء في حديث سمرة بن جندب: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها أطهر وأطيب"([3]).
ثانيًا: فخامة الأداء، وضخامة الصوت، وبراعة الإلقاء:
فإذا كان المقام مقام حماسة أو غضب أحسست بالمسجد يرتج ارتجاجًا تحت وطأة صوته، وشعرت وكأن أعواد المنبر تهتز عاجزة عن حمله، وراعك تزلزل القلب من صوته الهادر.. فها هو يصدع بصوت قوي في خطبته "اثبت يا مسلم أمام الشهوات"([4])، فيقول في الدقيقة الخمسين: "ثم الثبات: اثبت، اثبت يا مسلم، اثبت فإنك جبل، اثبت الجبل لا تزعزعه الرياح، اثبت الجبل لا تزيحه العواصف، اثبت أمام زعازع الشهوات اثبت أمام فتن الشبهات، اثبت يا مسلم، اثبت يثبتك الله".
وقدوته في ذلك هو النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي قال عنه جابر بن عبد الله -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش"([5])، ووصف ابن عمر فعله -صلى الله عليه وسلم- في إحدى خطبه قائلًا: "صعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال: "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين..."([6])، ومعنى صوت رفيع: أي عال مرتفع([7]).
وشيخنا مع ضخامة صوته واضح الكلمات سليم الألفاظ صحيح المخارج قوي المعاني تُعبِّر طريقة نطقه عما يقصده من ألفاظه، وهذا من عوامل نجاح الخطيب، يقول الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله-: "النطق الحسن هو الدعامة الأولى للإلقاء الجيد، وإذا اعترى النطق ما يفسده ضاع الإلقاء، فضاعت معه الخطبة وأثرها، وفقد الخطيب ما يسمو إليه من وراء البيان، ولا شيء يذهب بالمعنى الجيد أكثر من النطق الرديء، وكثيرًا ما يفهم المعنى على غير وجهه؛ لأن النطق قَلَبَه، ولم يصوره تصويرًا صادقًا"([8]).
ويضع الشيخ محمد الخضر حسين قاعدة يفرِّق بها بين الإلقاء الجيد والرديء فيقول: "وجودة إلقاء الخطبة هي التي تجعل لسماعها فضلًا على قراءتها في صحيفة"، يقصد: إن لم يضف الإلقاء للكلمات جديدًا فهو إلقاء رديء.
ثم يبرهن قائلًا: "وكم من خطبة يحسن الرجل إلقاءها فيجد الناس في سماعها من الارتياح وهزة الطرب فوق ما يجدونه عندما يقرؤونها في صحيفة، أو يستمعون إلى من يسردها عليهم سردًا متشابهًا"([9]).
ويشهد لشيخنا بالبراعة في طريقة إلقائه قوله في الدقيقة الرابعة والثلاثين من خطبة: "يا ابن التراب": "إلى الذين يأنفون من التراب، إلى الذين يرفضون التراب، في النهاية يا ابن التراب، التراب في أنفك، التراب في عينك، التراب في فمك، التراب في يدك، ليس لك في النهاية إلا التراب، اجمع ما شئت فإنك تراب".
ثالثًا: إتقان وسائل لفت انتباه الجمهور:
فخطيبنا ممن يجيدون المحافظة على تركيز جمهورهم معهم، وعدم افتقاد انتباه سامعيهم، وشدهم إليهم شدًا، ووسائله لفعل ذلك متنوعة متعددة، منها:
ضرب الأمثلة التوضيحية: فتسمع شيخنا في الدقيقة الرابعة عشرة من خطبة: "أول ليلة في القبر"([10])، وهو يستدل أن الميت لن يستطيع الكذب أو المراوغة في الإجابة على سؤال الملكين، فيضرب لهذا مثالًا قائلًا: "ثم تجد هذا الطفل بإلهام الله وتوفيقه بتلقائية يبحث عن صدرها، يمص يرضع يشرب يبتلع يتنفس يخرج بدون أي إرادة أو شعور منه إلا بتوفيق الله وإلهامه، فكذلك الميت حين يُسأل لن يجيب إلا بتوفيق الله وإلهامه"، وقد فصلنا الكلام عن مهارة ضرب الأمثلة وأهميتها في مقال سابق([11]).
ومنها: إمساك شيء في يديه أو إخراج شيء من جيبه: فها هو شيخنا في خطبة: "اثبت يا مسلم أمام الشهوات"، وفي الدقيقة التاسعة عشرة، يخرج مصحفه من جيبه ويفتحه ويتصفحه وهو يقول: "إن الذي يدمن تلاوة القرآن يحبه ويكثر من تلاوته ويدمن النظر فيه، تصبح له تلاوة هذا القرآن شهوة حب..." ثم طوى مصحفه فأدخله ثانية في جيبه، فإلى جانب لفته لانتباه جمهوره بإخراج المصحف وتصفحه، فإنه أيضًا قدَّم قدوة عملية لكلامه؛ بحمله المصحف معه ومصاحبته له.
ومنها: الحرص على رفع جمهوره لأصواتهم بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- كلما ذكره في خطبته أو درسه، فكثيرًا ما يعاتبهم إن لم تلهج ألسنتهم وترتفع أصواتهم بالصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم- قائلًا لهم مداعبًا: "هل توقفتم عن الصلاة على النبي"، ثم يصلي هو عليه بصيغة مطولة شيئًا ما قائلًا: "اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم"، وما شابهها.
ومنها: مط الصوت ببعض الكلمات: وهذا كثير ملحوظ في خطبه.
ومنها: الإشارة بإصبعه إلى بعض أفراد جمهوره بأعينهم، وهو يقول: "أنت وأنت وأنت..." مع تركيز عينه في عين كل واحد منهم.
وهذه الوسائل وغيرها تضمن لك -أخي الخطيب- بإذن الله ألا يشرد منك جمهورك، ولا يخرجوا خارج المسجد بفكرهم وعقولهم وإن بقيت أجسادهم.
([1]) البخاري (3551)، مسلم (2337).
([2]) أبو داود (3878)، والترمذي (994)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن أبي داود: 3878).
([3]) النسائي في الكبرى (2034)، والترمذي (2810)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن النسائي: 1896).
([4]) هذا رابط الخطبة:
https://www.youtube.com/watch?v=aaHTERjPO54
([5]) مسلم (867).
([6]) الترمذي (2032)، وابن حبان (5763)، وصححه الألباني (صحيح وضعيف سنن الترمذي).
([7]) ينظر: مرقاة المفاتيح للملا علي القاري (8/3157)، ط: دار الفكر، بيروت - لبنان.
([8]) نقلًا عن "كتاب الخطابة" المنشور ضمن مناهج جامعة المدينة العالمية.
([9]) الخطابة عند العرب، للشيخ: محمد الخضر حسين (ص: 191)، ط: مكتبة دار المنهاج، الرياض - السعودية.
([10]) هذا رابط الخطبة:
https://www.youtube.com/watch?v=jbK9Z2xq5Yo
([11]) مقال: "فن ضرب الأمثال"، وهو جزءان:
رابط الجزء الأول:
https://khutabaa.com/index.php/ar/article/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D9%8A%D8%A8-%D9%88%D9%81%D9%86-%D8%B6%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AB%D8%A7%D9%84-21
رابط الجزء الثاني:
https://khutabaa.com/ar/article/%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D9%8A%D8%A8-%D9%88%D9%81%D9%86-%D8%B6%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D8%AB%D8%A7%D9%84-22
التعليقات