عناصر الخطبة
1/ تأملات في سورة الفجر2/ تفسير آيات سورة الفجر 3/ أحوال الناس في الدنيا والآخرة.اهداف الخطبة
اقتباس
الإنسان الذي كان يظنّ أن كثرة ماله دلالة على إكرام الله له، الإنسان الذي مات وهو يحسب بأنه قد أحسن صنعًا عند الله، وبأن له الفردوس الأعلى، وبأن له الجنة، وبأنه لن يُعذّبَ أبدًا، الإنسان الذي أكل التراث أكلاً لمّا، وأحب المال حباً جمّا، الإنسان الذي لم يكرم اليتيم ولم يحض على طعام المسكين، هذا الإنسان إذا رأى الجحيم، إذا رأى الله -عز وجل- قد جاء لفصل القضاء، ورأى جهنم تزفر، فإنه يتذكر تفريطه ومعاصيه واحدة واحدة، لأن الأعمال تعرض عليه منسوخة (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، يتذكر وهل تنفع الذكرى؟ لا والله، قد مضى عهد الذكرى، كان عهد الذكرى في الدنيا، هذا في الدنيا أما في الآخرة فكل إنسان سواء كان بارًّا أو فاجرًا يتذكر (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) وكيف تنفعه الذكرى؟ وماذا ستنفعه هذه الذكرى؟ وقد فات أوانها وذهب زمانها.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون:
إخوة الإيمان: يقول ربنا الرحمن بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ، أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً، كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي) [سورة الفجر: 1- 30].
هذه آيات سورة الفجر، هذه السورة التي تتكلم عن عدد من الأشياء والأزمنة التي أقسم الله -سبحانه وتعالى- بها، والله -عز وجل- ربنا يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد من الخلق أن يقسم بغيره تعالى.
قال -عز وجل-: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) خمسة أشياء أقسم الله -سبحانه وتعالى- بها، أقسم بالفجر، الذي هو آخر الليل ومقدمة النهار، لما في إدبار الليل وإقبال النهار من الآيات الدالة على كمال قدرة الله -تعالى-، ويقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة يحسن أن يقسم الله بها، ولهذا أقسم بعده بالليالي العشر، وهي على الصحيح ليالي عشر رمضان أو عشر ذي الحجة، فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في غيرها.
ففي ليالي عشر رمضان ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي عشر ذي الحجة الوقوف بعرفة الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان. ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحب إلى الله من هذه الأيام" يعني: عشر ذي الحجة. فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".
وأقسم بالشَّفع، وأقسم بالوَتر، وأقسم بالليل.
(وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي هل فيما مضى من القسم عدة لذي لب وعقل، وسمى العقل حِجرًا لأنه يمنع الإنسان مما لا يليق به من الأقوال والأفعال.
(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) هل نتعظ بذلك القسم فنراعي الفجر، ونراعي الأيام العشر، ونراعي خلق الله -تعالى-، ونراعي الليل، تلك الليالي التي نعصي الله فيها، فهل ينتبه أولوا الألباب؟ وهل ينتبه العقلاء الفطنون أن الله -سبحانه وتعالى- ما جعل الليل والنهار إلا لكي نعبده فيهما.
(أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) يحكي الله -تعالى- عن مصارع أكبر الجبابرة وأعتى المفسدين الذين عرفهم التاريخ القديم، وهم عاد وثمود وقوم فرعون، يحكي الله -عز وجل- لنا قصتهم.
ألم تعلموا أيها التالون لكتاب الله (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) وعاد هي التي أهلكها الله -سبحانه وتعالى-، والتي ذكرها في غير ما موضع، وهي عاد إرم، وهي عاد الأولى، ونَسبُها ينتهي إلى نوح -عليه السلام-، تسكن في جنوب الجزيرة بين اليمن وحضرموت في مكان يسمى بالأحقاف لكثرة الكثبان الرملية فيها.
وكانوا بدواً ذوي خيام تقوم على عماد، وكانوا من أعتى القبائل ومن أشدهم بطشًا، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ) في ذلك الأوان، فأسكنهم الله -عز وجل- الجبال وزادهم في الخلق بسطة، وذلك من بعد نوح عليه السلام، فما شكروا نعمة الله -عز وجل- وإنما علوا واستكبروا (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ)[فصلت: 15]، فأرسل الله -عز وجل- لهم هودًا يذكرهم فقال لهم: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأعراف: 69] فكذبوه وعاندوه.
ويذكر -جل وعلا- لنا قوتهم حتى نعلم نحن الضعفاء بأننا لا نقوى على محاربة الله -عز وجل-، ولا نقوى على عصيانه وغضبه وسخطه، قال -تعالى-: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ) وهي مملكتهم التي كانت ذات أعمدة عظام، كانوا يسكنونها ويقتنونها (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر: 7- 8].
ثم قال -سبحانه وتعالى- بعد ذلك: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) [الفجر: 9]، وكانت ثمود تسكن بالحِجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام، وقد قطعت الصخر وشيّدته قصوراً، كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات، كما قال -عز وجل- عنهم: (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) [الشعراء: 149]، يخرقون الجبال فيجعلونها مغارات ومساكن، ومساكنهم معروفة في وادي القرى في مدائن صالح، فالجبل قد تحول إلى قصر، والجبل قد تحول إلى مغارة، وذلك من قوتهم وعظمتهم.
(وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ) وهي تلك البنايات العظيمة التي خلّفها الفراعنة من الأهرامات وغيرها التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان. وفرعون المشار إليه هنا هو فرعون موسى الطاغية الجبار.
هؤلاء هم ( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) اشتركوا في هذا أنهم جميعًا طغوا، وليس وراء الطغيان إلا الفساد، فالطغيان يفسد الطاغية، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء. كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة. والمرء إذا طغى ظنّ نفسه أعظم مما هو عليه، وانتقل من مكانة العبودية إلى مكانة الألوهية كما قال فرعون: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص: 38]، (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات: 24].
فهؤلاء (طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) [الفجر: 11- 12] من الشرك بالله، ومن قتل العباد، وسفك الدماء، فأكثروا فيها الفساد. فهل كان الله -عز وجل- عنهم غائبًا؟ بل كان -عز وجل- عليهم شاهدًا حاضرًا، فلما أكثروا في الأرض الفساد، كان العلاج هو تطهير وجه الأرض من الفساد (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) [الفجر: 13].
انظر إلى هذا التعبير القرآني: (صبّ عليهم)، يدل على الكثرة، (سوط عذاب) عذاب لاذع، فجمع الله -عز وجل- كثرة العذاب مع ألمه وشدته (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر: 13- 14].
إذا كان هذا عذاب الأمم الماضية، فماذا عن أحوال الأمم الآتية؟ وماذا عن الأمم الذين في زماننا الذين يسومون البشرية ويسومون المسلمين سوء العذاب، في فلسطين وفي بورما وفي إريتريا وفي بلاد الهند وفي بلاد الشام، ماذا عن اليهود؟ وماذا عن البوذيين؟ وماذا عن السيخ؟ وماذا عن النصارى الصليبين؟ قال الله -تعالى-: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) بالمرصاد للطغيان والشر والفساد، (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) يرى ويحسب ويحاسب ويجازي، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ بظاهر الأمور لكن بحقائق الأشياء. فالله -سبحانه وتعالى- يرصد أعمالهم ثم يحاسبهم بعد ذلك. (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) [إبراهيم: 42- 43].
بارك الله..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: نكمل التأملات في هذه السورة العظيمة:
قال الله -تعالى-: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) [الفجر: 15]، يخبر -تعالى- عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه جاهل ظالم لا علم له بالعواقب، يظن الحالة التي تقع فيه تستمر ولا تزول، ويظن إذا جاءه النعماء من كل جانب وأرسل الله -عز وجل- عليه خيرات الأرض، وكان في سعة من الولد والمال والأهل والعشيرة والبلد فإنه يغتر ويظن أنه مكرّم عند الله -عز وجل- ونسي أن الله -عز وجل- يعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين والآخرة إلا لمن يحب.
(فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فلولا ما أنا فيه من الخير لما فجّر الله لي خيرات الأرض، ولما كنت أغنى من غيري، فإني مكرّم وأنا على طاعة، ونسمع هذا من كثيرين يقولون: نحن على خير ولذلك فإن الله أعطانا هذه الأموال وجعلنا في أمن وأمان، ونسي هؤلاء أن الله يمكن أن يستدرج بالنعماء (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر: 15- 16]، وأما إذا ما اختبره وامتحنه فضيق عليه رزقه فجاءته المصيبة من كل مكان وجاءت البلايا وهو في طاعة وخير (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ).
وليس الأمر كذلك، فليس في سعة الرزق دليل على المكرمة، وليس ضيق الرزق دليل على المهانة، وإنما الله -سبحانه وتعالى- يقسم الأرزاق بين العباد (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ، كَلَّا) أي ليس حقًا هذا الظنّ (كلا) أيها الإنسان الذي تظن أن الله يمنع عنك المال لأنه أهانك، أو يعطيك المال لأنه أعزك وأكرمك، فهو يعطي الصالح والطالح، ويمنع الصالح والطالح، ولكن ما وراء هذا وذاك هو الذي عليه المعوّل، إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي، والمعول عليه هو نتيجة الابتلاء.
(كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) كلا: فليس بسط الرزق دليلاً على الكرامة عند الله، وليس تضييق الرزق دليلاً على المهانة والإهمال، إنما الأمر أنكم لا تنهضون بحق العطاء، ولا توفون بحق المال، فأنتم لا تكرمون اليتيم الصغير الذي فقد كافله حين فقد أباه. (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) أي لا يحض بعضكم بعضًا على إطعام المسكين، لا يأتي أحدكم إلى أخيه فيقول: يا فلان هناك مسكين في مكان كذا وكذا، وهناك محتاج، وهناك مسلمون يتضجرون جوعًا فأنفق من مالك، وإنما يتحاضون على الإمساك والشح والبخل.
ومع ذلك: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر: 19- 20] يأتي إلى ميراث الضعفاء واليتامى الذين لا قدرة لهم، فيحوي هذا الميراث بغير حق، يجمعه ويلمّه لمّاً من كل جهة، فلا يلتفت إلى حرام أو إلى حلال، (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) حبًّا طاغيًا كثيرًا.
فيقول -تعالى-: (كَلَّا) أي ليس كل ما أحببتم من الأموال وتنافستم فيه من اللذات بباقٍ لكم، بل أمامكم يوم عظيم وهول جسيم، ما هذا اليوم؟ (إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) يوم تدك فيه الأرض والجبال وما عليها حتى تُجعل قاعاً صفصفاً لا عوج فيها ولا أمتا، ويجيء الله لفصل القضاء بين عباده في ظلل من الغمام، والملائكة من حوله تحف بعرشه -سبحانه وتعالى- في موكب عظيم رهيب، هؤلاء الملائكة يكونون صفاً بعد صف، وكل سماء يجيء ملائكتها صفاً يحيطون بمن دونهم من الخلق، وهذه الصفوف صفوف خضوع وذل للملك الجبار.
(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) تقودها الملائكة بالسلاسل، لها سبعون ألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك يجرونها (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ) الإنسان الذي كان يظنّ أن كثرة ماله دلالة على إكرام الله له، الإنسان الذي مات وهو يحسب بأنه قد أحسن صنعًا عند الله، وبأن له الفردوس الأعلى، وبأن له الجنة، وبأنه لن يُعذّبَ أبدًا، الإنسان الذي أكل التراث أكلاً لمّا، وأحب المال حباً جمّا، الإنسان الذي لم يكرم اليتيم ولم يحض على طعام المسكين، هذا الإنسان إذا رأى الجحيم، إذا رأى الله -عز وجل- قد جاء لفصل القضاء، ورأى جهنم تزفر، فإنه يتذكر تفريطه ومعاصيه واحدة واحدة، لأن الأعمال تعرض عليه منسوخة (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية: 29]، يتذكر وهل تنفع الذكرى؟ لا والله، قد مضى عهد الذكرى، كان عهد الذكرى في الدنيا، هذا في الدنيا أما في الآخرة فكل إنسان سواء كان بارًّا أو فاجرًا يتذكر (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) وكيف تنفعه الذكرى؟ وماذا ستنفعه هذه الذكرى؟ وقد فات أوانها وذهب زمانها.
(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) يقول متحسراً على ما فرط في جنب الله: ليتني عملت عملاً أدخره لهذا اليوم، فهذا اليوم هو الحياة، وقد ظننت أن الحياة هي الدنيا، ونسيت أن الدار الآخرة هي الحيوان، هي الحياة الحقيقية (وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 64].
يا ليتني قدمت لهذه الحياة الأبدية (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) يوم القيامة لا يعذب عذاب الله -سبحانه وتعالى- أحد، لا يستطيع أحد أن يعذب كعذاب الله، فعذاب الله -سبحانه وتعالى- قمة في الألم، وقمة في العذاب، كما أن نعيمه -سبحانه وتعالى- قمة في السعادة (لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ)، هل يستطيع أحد ممن يعذبون العباد في الدنيا أن يجعلوا لمعذبيهم جلودًا غير جلودهم؟
هل يستطيع أحد ممن يعذبون في الدنيا أن يعذب أحدًا عذابًا شديدًا على مدار الحياة كذلك العذاب الذي في الآخرة بدون موت؟ هل لأحد من أهل الدنيا الذين يعذبون العباد بغير حق يمتلك نار كنار الله -سبحانه وتعالى-؟ لا والله الذي لا إله إلا هو (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) لا يستطيع أحد في الدنيا أن يوثق وثاق الزبانية، زبانية العذاب الذين على جهنم (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 30- 32]، هل يستطيع أحد أن يفعل هذه الأفعال.
(وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) لم يحصل من قبل أن يوثَقَ أحدٌ مثل هذا الوثاق. شتان بين عذاب وعذاب ووثاق ووثاق. فليكن عذاب الطغاة للناس ووثاقهم ما يكون، فسيعذبون هم ويوثقون، عذاباً ووثاقاً وراء التصورات والظنون.
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) نداء إلى النفس الطيبة الطاهرة، نداء إلى هذه النفس التي صبرت في الدنيا (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) دعوة من الله -سبحانه وتعالى- لنفسِكَ الطيبة أن تدخل في عبادة الله (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) دعوة أن تكون عبدًا لله -تعالى-، فكثير من الناس ينسون أنهم عبيد لله، يتصرف في الدنيا وكأنه سيد على ماله، وكأنه سيد على بدنه، وكأنه سيد في هذا الوجود، ونسي أنه عبد لله (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) فإنه من دخل في عبادة الله دخل جنة الله.
هل تريد يا عبدالله أن تدخل هناك في جنة الله؟ ادخل هنا في عبادة الله (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل...
اللهم...
التعليقات