عناصر الخطبة
1/بعض فضائل شهر الله المحرم 2/دلالة اختيار الهجرة تأريخا للأمة الإسلامية 3/قصة التأريخ الهجري 4/فوائد وعبر من قصة يوم عاشوراء 5/بعض وجوه الشبه والمشاكلة بين قصة يوم عاشوراء وقصة الهجرة النبويةاقتباس
كَمْ مِنَ المناسَبةِ والمشاكَلةِ بينَ قصةِ نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- مع قومه وحاله في هجرته، وبينَ قصة أخيه موسى -عليه السلام- مع فرعون وقومه، في كثيرٍ من فصولِ قصتِه وأحداثِها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي فضل بعض خلقه على بعض تفضيلًا، وفصل أحكام شريعته في كتابه تفصيلًا، وجعَل سُنَنَه الكونيَّةَ برهانًا على قدرتِه ودليلًا؛ (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)[فَاطِرٍ: 43]، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ شهادة مقر بها عقيدة وامتثالًا وقيلا، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، شهادة من ارتضاه نبيًّا ورسولًا، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه ومن اتخذه نهجهم إلى ربه سبيلًا.
أما بعدُ: فأوصي نفسي وإيَّاكم بوصية الله للأولين والآخرين، قال سبحانه في كتابه المبين قولًا سديدًا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا)[النِّسَاءِ: 131]؛ التقوى ميزان الكرامة، ومجمع الفضائل، ومفتاح البركات، ومطية السائرين إلى رب العالمين.
إخوةَ الإيمانِ: إنَّ هذا الشهرَ المحرَّمَ هو مستهلّ السنةِ ومفتَتحُه، ومشرقُ شمسه ومطلعه، وإننا حين نستهلّ العامَ الهجريَّ بشهر الله المحرَّم لَتعودُ بنا الذاكرةُ إلى حادثةٍ حوَّلَت بُوصَلةَ الحضارةِ، وأدارَتْ إليها وجهَ الزمانِ؛ ألَا وهي حادثةُ الهجرةِ النبويَّةِ الميمونةِ، خَطَتْ تلك الخطواتُ النبويَّةُ فخطَّت قصةَ حضارةٍ غيَّرت مجرى التاريخ، بل كانت مقدمةً له حين أرَّخ المسلمون بها، وكأنَّ ما قَبلَها قد التَحَفَ بظلام الجاهليَّة، أو غاب في تلافيف الزمان واختفى في مجاهله، فلا عجبَ أن يطَّرِد بعدَها التاريخُ وتتسارَع أحداثُه.
لقد أرَّخ بها المسلمون منذُ ريعانِ عُمُرِ هذه الأمةِ وبواكيرِ نشأتِها، فكان التأريخُ بها مِنْ أسنى مفاخرِ هذه الأمةِ، وأسمى مظاهرِ تميُّزِها عن سائرِ الأممِ؛ لِمَا فيه من إحياءٍ لذكرى حادثةِ هجرةِ نبيِّهم -صلى الله عليه وسلم-، واعتزازٍ بهُوِيَّةِ أمتِهم وأصالتِها، واتصالٍ بجذورها الممتدَّة في أعماق التاريخ الإنسانيّ.
أما قصة التأريخ الهجري -مَعشرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ- فإنَّ الفاروقَ عمر -رضي الله عنه-، حين شاوَر الصحابةَ -رضي الله عنهم في التأريخ، في حادثة من الحوادث زمنَ خلافته الراشدة- اتفقوا على أن يكون مَبدأُ التأريخِ من عام الهجرة النبويَّة؛ فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: "ما عدُّوا من مَبعَثِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ولا من وفاته، ما عدُّوا إلا مِنْ مَقدَمِه المدينةَ" انتهى.
وحادثة الهجرة وإن وقعَتْ في شهر ربيع الأول إلا أنهم أرَّخُوا بالمحرم؛ لأن ابتداءَ العزم على الهجرة كان في المحرَّم الذي يَلِي حادثةَ بيعةِ العقبة الثانية، التي وقعَتْ في أثناء ذي الحجة من السنة الثالثة عشرة للبعثة النبويَّة، وتلك البيعة هي مُقِدِّمة الهجرة، كما تَذكُر كتبُ السير ومدوَّنات التاريخ، فكان أولُ هلال استهلَّ بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال المحرَّم، وفي قوله -جل شأنه-: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ)من قوله: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)[التَّوْبَةِ: 108]، إشارةٌ إلى صحة ما اتفق عليه الصحابةُ مع عُمَرَ -رضي الله عنهم- أجمعين؛ ذلك أن عامَ الهجرة هو الحين الذي عزَّ فيه الإسلامُ، وبسَقَتْ دوحته وارتفع مناره، وأشرقَتْ شمسُه، وامتدَّت أطنابُه، وعمَّت أنوارُه.
مَعشرَ المؤمنينَ والمؤمناتِ: لقد ابتدأ التاريخُ بمقدَمِه -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه المدينة الميمونة، والبقعة المبارَكة المصونة، التي اختارَها اللهُ من بين بقاع الدنيا مُهاجَرًا ومستقرًّا ومقامًا، حينما أطلَّ عليها إطلالةَ الشمس من نافذة الأفق، ثم امتدَّ ضياؤها بعدُ فبدَّد ظلام الوثنية، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "لَمَّا كان اليومُ الذي دخَل فيه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ أضاء منها كلُّ شيءٍ، فلمَّا كان اليومُ الذي مات فيه أظلَم منها كلُّ شيءٍ"؛ فتضوَّع بمَقدَمِه مَراحُها، وتعطَّرت بهجرته أرواحُها.
حتَّى النسيمُ إذا سرَى مِنْ رَبعِها *** يُثنِي مِنَ الروضِ الغصونَ ويُطرِبُ
حيَّا فأحيَا المستهامَ بِطِيبِهِ *** فَنُفُوسُنَا بِهُبُوبِهِ تَتَطَيَّبُ
يَا حَبَّذَا فِي رَبعِ طَيبةَ وَقْفَةٌ *** بَينَ الركائبِ والمدامعِ تُسكَبُ
ثم إنَّ هذا اليوم الأغرَّ من هذا الشهر المحرَّم يومٌ عظيمٌ من أيام الله؛ نجَّى اللهُ فيه كليمَه موسى -عليه السلام- وقومَه، وأغرَق فرعونَ ومَنْ معَه، وإنَّ نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- حين قَدِمَ المدينةَ من هجرته الميمونة وجدَهم يصومونه؛ وذلك في يوم عاشوراء من السنة التي تَلِي قدومَه إلى المدينة، أو أنهم كانوا يَحسِبون بحساب السنين الشمسية، فصادَف يومُ عاشوراء بحسابهم اليومَ الذي قَدِمَ فيه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قَدِمَ المدينةَ وجدَهم يصومون يومَ عاشوراء، يقولون: هذا يومٌ عظيمٌ، نجَّى اللهُ فيه موسى، وأغرَق آلَ فرعون، فصامَه موسى شُكرًا لله فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أنا أَولَى بموسى منكم"؛ فصامَه وأمَر بصيامه، قال ذلك -صلى الله عليه وسلم- لأن الدعوة واحدة وإن اختلفت ألسنة الرسل، والمقصد واحد وإن تعدد جهات السُّبُل؛ تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، وكأنَّ في ذلك الموقف الاتفاقيّ في مناسَبة صيامهم يومَ عاشوراء إلماحةً لطيفةً للنبي -صلى الله عليه وسلم- بحُسن العُقبى، كما كان منتهى أمرِ موسى -عليه السلام- مع فرعونَ، وإشارةً خفيةً إلى صِدْق وَعدِه جلَّ وتقدَّس في مثل قوله: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[غَافِرٍ: 51].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، وجعَل تقواه لنا عُدَّةً وجُنَّةً، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله أهل الحمد ومستحِقّ الثناء، مُسبِغِ العطاءِ ومسبِلِ الغطاءِ، حمدًا يصوب حياه، ويَعذُب جناه، ويلوح سناه، والصلاة والسلام على سيد الخلق وخاتم الأنبياء، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه الخيرة الأصفياء.
أمَّا بعدُ، إخوةَ الإيمانِ: فكم من المناسَبة والمشاكَلة بين قصة نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم- مع قومه وحاله في هجرته، وبينَ قصة أخيه موسى -عليه السلام- مع فرعون وقومه، في كثيرٍ من فصولِ قصتِه وأحداثِها؛ فقد خرج موسى -عليه السلام- من تلك المدينة خائفًا يترقب، قال ربي نجني من القوم الظالمين، كما خرَج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة متوجِّهًا تلقاءَ المدينة، طالبًا النجاءَ بدِينِه ورسالتِه من كُفَّار مكةَ؛ فقد جَرَتِ السننُ بذلك، قال ورقةُ بنُ نوفلٍ للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعدَ حادثةِ غارِ حراءَ: "لَيْتَنِي أكونُ حيًّا إذ يُخرِجُكَ قَومُكَ"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ !"، قال: "نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ".
ونالَه -صلى الله عليه وسلم- مِنْ صنوفِ البلاءِ من فرعونِ هذه الأمةِ؛ أبي جهل وقومه ما يُشبِه حالَ موسى -عليه السلام- مع فرعونِ مصرَ؛ ولذا كأنَّ الله -تعالى- عنايةً بحبيبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قدَّر ذلك التوافُقَ العجيبَ والتساوقَ الغريبَ في قصة صيامهم يومَ عاشوراءَ ومناسبتَه بعدَ مَقدَمِه -صلى الله عليه وسلم- المدينة ومفارقته مراتع صباه، ومرابع قومه تسليةً له، وتثبيتًا لفؤاده، كما وعدَه وعدًا حقًّا بقوله: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)[الضُّحَى: 1-8].
وتحقَّق ذلك الوعدُ الحقُّ بأَنْ أورَثَه مكةَ التي أُخرِجَ منها بعدَ استضعافِه وأصحابِه؛ حيث كانوا كما حكى الله عنهم بقوله: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[الْأَنْفَالِ: 26]، كما أنَّه -جل وعلا- قال في شأن موسى -عليه السلام- وقومه: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)[الْأَعْرَافِ: 137]، وهكذا تدور رحى الأيام، وتتقلَّب تصاريفُ الزمان؛ لتكونَ العاقبةُ الحميدةُ لأهل التقوى والإيمان، وكم في ذلك من مواقف الاعتبار؛ (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)[الْحَشْرِ: 2].
أيها المؤمنون والمؤمنات: إن هذا اليوم العظيم يوم الجمعة، تُندَب فيه كثرةُ الصلاة والسلام على سيدِ الخلقِ وأفضلِ الأنامِ -صلى الله عليه وسلم-، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنْ أفضلِ أيامِكم يومَ الجمعةِ، فأكثِرُوا عليَّ مِنَ الصلاةِ فيه؛ فإنَّ صلاتَكم معروضةٌ عليَّ".
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين، وخاتم النبيين ورحمتك للعالمين، سيدنا ونبينا محمد، عدد ما أحصاه كتابك وخطه قلمك ووسعه علمك، اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين السادة المهديين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عَنَّا واشملنا بعفوك ومغفرتك وفضلك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، ودمِّرْ أعداءَ الدينِ، واجعَلْ هذا البلدَ المبارَكَ آمِنًا مطمئنًا محفوظًا مصونًا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفِّق خادمَ الحرمينِ الشريفينِ ووليَّ عهدِه لِمَا تُحِبّ وترضى، وخُذْ بناصيتهما للبِرّ والتقوى، يا سميعَ الدعاءِ، اللهم وفِّقْهُما لِمَا فيه خيرُ العبادِ والبلادِ في الدِّين والدنيا، اللهم وفِّقْهُما لكلِّ خيرٍ وأَعِنْهُما عليه.
اللهم إنا نسألك أن تعفو عَنَّا وأن تغفر لنا وأن تتجاوز عن ذنوبنا في هذا اليوم المبارَك، يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ هذا البلد من كيد الكائدين، ومن شر الحاسدين، ومن مكر الماكرين، اللهم احفظ علماءه ورجال أمنه، اللهم احفظ حدوده واحم جنوده يا ربَّ العالمينَ، وعم بذلك رجاله ونساءه وشيبه وشبابه يا أكرم الأكرمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عبادَ اللهِ: استنزِلوا فضلَ ربكم بشكره، واحفظوا نعمته باتباع أمره، والهجوا بدعائه وذِكْرِه؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
التعليقات