الخطبة الأولى:

إنّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هاديَ له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ ــ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ: فاتقوا الله -عبادَ الله- حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

إخوة الإيمان: حديثي إليكم عظيم رحمة الله بنا ولطفه وإحسانه إلينا فربنا البر الرحيم وربنا الكريم الجواد وربنا الغفور الودود رؤوف بعباده يحب لهم النجاة والفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، دعوني -عباد الله- أعرض عليكم صورة من صور رحمته وبره ولطفه وجوده وإحسانه؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: «إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً"(رواه مسلم).

وفي هذا الحديث -عباد الله- دروس وهدايات منها:

أولاً: عظيم رحمة الله ولطفه بعباده فهو سبحانه يريد لهم النجاة والسلامة وحياة الهناء والسعادة، تأمل قوله -سبحانه-: « إِذَا هَمَّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيِّئَةً وَاحِدَةً"؛ فالسيئة إنما تكتب على العبد في حالةٍ واحدةٍ إذا عملها العبد، والعجيب أن العبد إذا هم بسيئة ثم تركها لأجل الله فإن الله يكتبها حسنة؛ فما أعظم رأفته ورحمته بنا، ومن عظيم لطفه سبحانه أن يكتب الحسنة عشر حسنات ويكتب السيئة سيئة واحدة؛ فما أعظم لطفه ورأفته ورحمته بنا وصدق الله: (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ).

إن هذا -يا عباد الله- يدعونا إلى محبة ربنا -سبحانه- والإقبال عليه -جل وعلا- وتعلق القلوب به محبة ورغبة.

ثانياً: أن الله يأمر عباده بالحسنات ويحب من عباده أن يعملوها، وينهى عن السيئات ويكره ويبغض من عباده أن يعملوها، وعلامة صدق محبة العبد لربه أن يطيع أمره ويحب ما يحب، ويجتنب نهيه ويكره ما يكره.

ثالثاً: أن الله وكل بالعبد ملائكة يكتبون حسناته وسيئاته (كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)؛ قال السعدي -رحمه الله-: "وقد أقام الله عليكم ملائكة كراما يكتبون أقوالكم وأفعالكم ويعلمون أفعالكم، ودخل في هذا أفعال القلوب، وأفعال الجوارح، فاللائق بكم أن تكرموهم وتجلوهم وتحترموهم"؛ فمن يهم بالحسنة فيتذكر ذلك الملك فيبادر إلى عمها ويفرح بها ومن يهم بالسيئة يتذكر ذلك الملك فوقره ويحجم عن عملها.

ومن رحمة الله أن الملك الذي يكتب السيئات يتوقف عن كتابتها طمعاً في استغفار العبد وتوبته منها عن أبي أمامة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو المسيء فإن ندم واستغفر الله منها وألقاها وإلا كتبت واحدة"(صححه الألباني)؛ فما أرحم الله وألطفه بنا، وحُق لربٍ هذه رعايته لعباده أن تقبل عليه القلوب محبة وشوقاً وطاعةً وعبوديةً وانقياداً.

رابعاً: أن الحسنات والسيئات تودع في كتب العبد وصحائفه صغيرها وكبيرها ثم تُبرز له يوم القيامة؛ قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)؛ فلنحرص -عباد الله- على الاستكثار من الحسنات ولنقلع ونتوب عن عمل السيئات، وقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اهدني لأحسن الأخلاق وأحسن الأعمال؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيئ الأخلاق والأعمال؛ لا يقي سيئها إلا أنت".

خامساً: من عظيم رحمة الله ولطفه بنا أن الحسنات بعد السيئات تذهب بها إلا الذنوب التي تتعلق بحقوق الآخرين؛ كالغيبة وأخذ أموال الناس وظلمهم فلا بد من التحلل منها في الدنيا، ومن أعظم الحسنات الماحية توحيد الله -عز وجل- وإخلاص العبادة له؛ فعن سلمة بن نفيل قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئا وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها فهل له من توبة؟، قال: " فهل أسلمت؟ "، قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله، قال: " نعم، تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن"، قال: وغدراتي وفجراتي؟، قال: "نعم"، قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى أعظمها الصلاة"(رواه الطبراني وصححه الألباني).

 ومن أعظم الحسنات المحاية الصلاة قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)؛ فلنستكثر -عباد الله- من الحسنات.

سادساً: ومن عظيم رحمة الله ورأفته ولطفه بنا أن العبد إذا تاب من السيئات يبدلها الله إلى حسنات؛ (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وفي الحديث السابق قال -صلى الله عليه وسلم-: "تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلهن"؛ فما أرحم الله بنا عباد الله وما أحوجنا إلى التوبة الصادقة له -سبحانه وتعالى-.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 أما بعد: عباد الله ومن دروس وهدايات حديث الحسنات والسيئات:

سابعاً: قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا، فَالْعَبْدُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً قَالَتْ أُخْرَى إِلَى جَنْبِهَا: اعْمَلْنِي أَيْضًا، فَإِذَا عَمِلَهَا، قَالَتِ الثَّالِثَةُ كَذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرًّا، فَتَضَاعَفُ الرِّبْحُ، وَتَزَايَدَتِ الْحَسَنَاتُ. وَكَذَلِكَ كَانَتِ السَّيِّئَاتُ أَيْضًا، حَتَّى تَصِيرَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً، وَصِفَاتٍ لَازِمَةً، وَمَلَكَاتٍ ثَابِتَةً، وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يُعَانِي الطَّاعَةَ وَيَأْلَفُهَا وَيُحِبُّهَا وَيُؤْثِرُهَا حَتَّى يُرْسِلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ تَؤُزُّهُ إِلَيْهَا أَزًّا، وَتُحَرِّضُهُ عَلَيْهَا ، وَتُزْعِجُهُ عَنْ فِرَاشِهِ وَمَجْلِسِهِ إِلَيْهَا، وَلَا يَزَالُ يَأْلَفُ الْمَعَاصِيَ وَيُحِبُّهَا وَيُؤْثِرُهَا، حَتَّى يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَيْهِ الشَّيَاطِينَ، فَتَؤُزُّهُ إِلَيْهَا أَزًّا، فَالْأَوَّلُ قَوِيٌّ جَنَّدَ الطَّاعَةَ بِالْمَدَدِ، فَكَانُوا مِنْ أَكْبَرِ أَعْوَانِهِ، وَهَذَا قَوِيٌّ جَنَّدَ الْمَعْصِيَةَ بِالْمَدَدِ فَكَانُوا أَعْوَانًا عَلَيْهِ.

ثامناً: من المستفيد من فعل الحسنات ومن الخاسر بفعل السيئات؟

قال تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)، وقال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، وقال تعالى: (يوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)؛ فاحرص -يا عبد الله- على الاستكثار من الحسنات والمسارعة إليها، وأحذر من السيئات وفر منها.

تاسعاً: للحسنة والسيئة ثمرات عظيمة؛ قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- إن للحسنة نورا في القلب، وزينا في الوجه، وقوة في البدن، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق. وإن للسيئة ظلمة في القلب، وشينا في الوجه، ووهنا في البدن، ونقصا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق".

عاشراً: علينا أن نحرص على الحسنات الجارية ولنحذر من السيئات الجارية قبل فوات الأوان؛ يقول الله -تعالى-: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ).

والناس على ثلاثة أصناف:

الأول: من يموت وتجري عليه حسناته وسيئاته، فمثل هذا يتوقف مصيره على رجحان أيٍ من الكفتين.

الثاني: من يموت وتنقطع سيئاته، وتبقى حسناته تجري عليه وهو في قبره، فيا طيب عيشه ويا سعادته.

الثالث: من يموت وتنقطع حسناته، وتبقى سيئاته تجري عليه دهراً من الزمان فهو في قبره ورصيده من السيئات يزداد يوماً بعد يوم، حتى يأتي يوم القيامة بجبال من السيئات لم تكن في حسبانه، فيا ندامته ويا خسارته "طوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة سنة ومائتي سنة أو أكثر، يعذب بها في قبره ويسأل عنها إلى آخر انقراضها"؛ قال تعالى: (يَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).