الشيخ ابن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله وأبناء أعزاء؛ للتواصي بالحق والتذكير به والدعوة إليه، والنصح لله ولعباده.
أسأل الله أن يصلح قلوبنا جميعًا وأعمالنا، وأن يمنحنا جميعًا وجميع المسلمين الفقه في الدين والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعًا في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يوفق حكام المسلمين جميعًا للتمسك بشريعته والحكم بها، وإلزام الشعوب بها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
تم أشكر إخواني القائمين على هذا النادي، وعلى رأسهم الأخ الكريم صاحب الفضيلة الدكتور راشد الراجح، مدير جامعة أم القرى ورئيس النادي، على دعوتهم لي لهذه المحاضرة وعنوانها: [حرمة مكة المكرمة ومكانة البيت العتيق، وما ورد في ذلك من الآثار].
أيها الإخوة في الله، لا يخفى على كل من له أدنى علم وأدنى بصيرة حرمة مكة، ومكانة البيت العتيق؛ لأن ذلك أمر قد أوضحه الله في كتابه العظيم في آيات كثيرة، وبينه رسوله محمد -عليه الصلاة والسلام- في أحاديث كثيرة، وبينه أهل العلم في كتبهم ومناسكهم، وفي كتب التفسير.
والأمر بحمد الله واضح، ولكن لا مانع من التذكير بذلك، والتواصي بما أوجبه الله من حرمتها والعناية بهذه الحرمة، ومنع كل ما يضاد ذلك ويخالفه، يقول الله عز وجل في كتابه المبين: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:96، 97].
أوضح الله سبحانه في هذه الآيات أن البيت العتيق هو أول بيت وضع للناس، وأنه مبارك، وأنه هدى للعالمين. وهذه تشريفات عظيمة، ورفع لمقام هذا البيت، وتنويه بذلك. وقد ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سأل النبي ﷺ عن أول بيت وضع للناس، فقال:-عليه الصلاة والسلام: المسجد الحرام قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت كم بينهما؟ قال: أربعون عامًا، قلت ثم أي؟ قال: حيثما أدركتك الصلاة فصل، فإن ذلك مسجد ويبين هذا المعنى قوله -عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورًا الحديث.
هذا البيت العتيق هو أول بيت وضع للناس للعبادة والطاعة، وهناك بيوت قبله للسكن، ولكن أول بيت وضع للناس ليعبد الله فيه ويطاف به هو هذا البيت، وأول من بناه هو خليل الله إبراهيم-عليه الصلاة والسلام، وساعده في ذلك ابنه إسماعيل.
أما ما روي أن أول من عمره هو آدم فهو ضعيف، والمحفوظ والمعروف عند أهل العلم أن أول من عمره هو خليل الله إبراهيم-عليه الصلاة والسلام، وأول بيت وضع بعده للعبادة هو المسجد الأقصى على يد يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم-عليهم الصلاة والسلام، وكان بينهما أربعون سنة، ثم عمره بعد ذلك بسنين طويلة سليمان نبي الله-عليه الصلاة والسلام، وهذا البيت العتيق هو أفضل بيت، وأول بيت وضع للناس للعبادة، وهو بيت مبارك لما جعل الله فيه من الخير العظيم بالصلاة فيه، والطواف به، والصلاة حوله، والعبادة، كل ذلك من أسباب تكفير الذنوب، وغفران الخطايا، قال تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125].
فالله سبحانه قد جعل هذا البيت مثابة للناس يثوبون إليه، ولا يشبعون من المجيء إليه، بل كلما صدروا أحبوا الرجوع إليه والمثابة إليه؛ لما جعل الله في قلوب المؤمنين من المحبة له والشوق إلى المجيء إليه؛ لما يجدون في ذلك من الخير العظيم، ورفع الدرجات، ومضاعفة الحسنات، وتكفير السيئات، ثم جعله آمنًا يأمن فيه العباد، وجعله آمنًا للصيد الذي فيه، فهو حرم آمن، يأمن فيه الصيد الذي أباح الله للمسلمين أكله خارج الحرم، يأمن فيه حال وجوده به، حتى يخرج لا ينفر ولا يقتل.
ويقول سبحانه: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97] يعني وجب أن يؤمن، وليس المعنى أنه لا يقع فيه أذى لأحد ولا قتل، بل ذلك قد يقع، وإنما المقصود أن الواجب تأمين من دخله، وعدم التعرض له بسوء.
وكانت الجاهلية تعرف ذلك، فكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يؤذيه بشيء حتى يخرج، فهذا البيت العتيق وهذا الحرم العظيم جعله الله مثابة للناس وأمنًا، وأوجب على نبيه إبراهيم وإسماعيل أن يطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود، أي المصلين، وقال في الآية الأخرى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]
والقائم هنا هو: المقيم وهو: العاكف، والطائف معروف، والركع السجود هم: المصلون. فالله جلت قدرته أمر نبيه إبراهيم وابنه إسماعيل أن يطهرا هذا البيت، وهكذا جميع ولاة الأمور، يجب عليهم ذلك. ولهذا نبه النبي ﷺ على ذلك يوم فتح مكة، وأخبر أنه حرم آمن، وأن الله حرمه يوم خلق السماوات والأرض، ولم يحرمه الناس، وقال: (لا ينفر صيده، ولا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، ولا يسفك فيه دم، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف) ويعني -عليه الصلاة والسلام- بهذا: حرمة هذا البيت.
فيجب على المسلمين، وعلى ولاة الأمور، كما وجب على إبراهيم وإسماعيل والأنبياء، وعلى خاتمهم محمد ﷺ أن يحترموه ويعظموه، وأن يحذروا ما حرم الله فيه من إيذاء المسلمين، والظلم لهم، والتعدي عليهم حجاجًا أو عمارًا أو غيرهم.
فالعاكف: المقيم، والطائف معروف، والركع السجود هم: المصلون. فالواجب تطهير هذا البيت للمقيمين فيه، والمتعبدين فيه، وإذا وجب على الناس أن يحترموه وأن يدفعوا عنه الأذى، فالواجب عليهم أيضًا أن يطهروا هذا البيت، وأن يحذروا معاصي الله فيه، وأن يتقوا غضبه وعقابه، وأن لا يؤذي بعضهم بعضًا، ولا أن يقاتل بعضهم بعضًا، فهو بلد آمن محترم يجب على أهله أن يعظموه وأن يحترموه، وأن يحذروا معصية الله فيه، وأن لا يظلم بعضهم بعضًا، ولا يؤذي بعضهم بعضًا؛ لأن السيئة فيه عظيمة، كما أن الحسنات فيه مضاعفة.
والسيئات عند أهل العلم والتحقيق تضاعف لا من جهة العدد، فإن من جاء بالسيئة فإنما يجزى مثلها، ولكنها مضاعفة بالكيفية.
فالسيئة في الحرم ليست مثل السيئة في خارجه، بل هي أعظم وأكبر، حتى قال الله في ذلك: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] ومن يرد فيه: أي يهم فيه ويقصد، فضمن يرد معنى يهم، ولهذا عداه بالباء، بقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ أي: من يهم فيه بإلحاد بظلم.
فإذا كان من هم بالإلحاد وأراده استحق العذاب الأليم، فكيف بمن فعله؟
إذا كان من يهم ومن يريد متوعدًا بالعذاب الأليم، فالذي يفعل الجريمة، ويتعدى الحدود فيه من باب أولى في استحقاقه العقاب والعذاب الأليم. ويقول جل وعلا في صدر هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] وهذا يبين لنا أنه محرم، وأنه لا فرق فيه بين العاكف وهو المقيم، والباد وهو: الوارد والوافد إليه من حاج ومعتمر وغيرهما.
وهذا هو أول الآية في قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ وبين جل وعلا عظمة هذا المكان، وأن الله جعله آمنًا وجعله حرمًا، ليس لأحد من المقيمين فيه ولا من الواردين إليه أن يتعدى حدود الله فيه، أو أن يؤذي الناس فيه. ومن ذلك يعلم أن التعدي على الناس وإيذاءهم في هذا الحرم الآمن بقول أو فعل، من أشد المحرمات المتوعد عليها بالعذاب الأليم، بل من الكبائر.
ولما فتح الله على نبيه مكة-عليه الصلاة والسلام، خطب الناس وقال: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، ولم يحرمه الناس، وأن الله جل وعلا لم يحله لي إلا ساعة من نهار، وقد عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب وقال: (إنه لا يحل لأحد أن يسفك فيه دمًا، أو يعضد فيه شجرة، ولا ينفر صيده، ولا يختلى خلاه، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد) أي معرف.
فإذا كان الصيد والشجر محترمين فيه، فكيف بحال المسلم؟ فمن باب أولى أن يكون تحريم ذلك أشد وأعظم وأكبر؛ فليس لأحد أن يحدث في الحرم شيئًا مما يؤذي الناس لا بقول ولا بفعل، بل يجب أن يحترمه، وأن يكون منقادًا لشرع الله فيه، وأن يعظم حرمات الله أشد من أن يعظمها في غيره، وأن يكون سلمًا لإخوانه يحب لهم الخير ويكره لهم الشر، ويعينهم على الخير وعلى ترك الشر، ولا يؤذي أحدًا لا بكلام ولا بفعل، ثم قال جل وعلا في سورة آل عمران: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران:97] فالله جعل فيه آيات بينات، وهي التي فسرها العلماء بمقام إبراهيم، أي مقامات إبراهيم، لأن كلمة مقام لفظ مفرد مضاف إلى معرفة، فيعم جميع مقامات إبراهيم، فالحرم كله مقام إبراهيم تعبد فيه، ومن ذلك المشاعر: عرفات، والمزدلفة، ومنى، كل ذلك من مقام إبراهيم، ومن ذلك الحجر الذي كان يقوم عليه وقت البناء، والذي يصلي إليه الناس الآن كله من مقامات إبراهيم.
ففي ذلك ذكرى لأولياء الله المؤمنين، ليتأسوا بنبي الله إبراهيم، كما أمر الله نبينا بذلك في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123] فأمر الله نبيه محمدًا ﷺ أن يتبع ملة إبراهيم الخليل أبي الأنبياء جميعًا. ونبي الله محمد ﷺ هو أفضل الرسل جميعًا، وأكملهم بلاغًا ونفعًا للناس، وتوجيهًا لهم إلى الخير، وإرشادًا لهم إلى الهدى، وأسباب السعادة.
فالواجب على كل مسلم من هذه الأمة أن يتأسى بنبيه ﷺ في أداء الواجبات، وترك المحرمات، وكف الأذى عن الناس، وإيصال الخير إليهم.
فمن الواجب على ولاة الأمور من العلماء أن يبينوا وأن يرشدوا، والواجب على ولاة الأمور من الأمراء والمسئولين أن ينفذوا حكم الله وينصحوا، وأن يمنعوا كل من أراد إيذاء المسلمين في مكة من الحجاج والعمار وغيرهم، كائنًا من كان من الحجاج أو من غير الحجاج، من السكان أو من غير السكان، من جميع أجناس الناس.
يجب على ولاة الأمور تجاه هذا الحرم الشريف أن يصونوه وأن يحفظوه، وأن يحموه من كل أذى كما أوجب الله ذلك، وأوجب نبيه ورسوله محمد-ﷺ.
ومن ذلك يعلم أن ما حدث في العام الماضي عام 1407هـ من بعض حجاج إيران من الأذى أمر منكر، وأمر شنيع لا تقره شريعة، ولا يقره ذو عقل سليم، بل شريعة الله تحرم ذلك، وكتاب الله يحرم ذلك وسنة الرسول ﷺ تحرم ذلك.
وهذا ما بينه أهل العلم وأجمعوا عليه من وجوب احترام هذا البيت وتطهيره من كل أذى، وحمايته من كل معصية ومن كل ظلم، ووجوب تسهيل أمر الحجيج والعمار وإعانتهم على الخير، وكف الأذى عنه، وأنه لا يجوز لأحد أبدًا لا من إيران ولا من غير إيران أن يؤذوا أحدًا من الناس، لا بكلام ولا بفعال، ولا بمظاهرات ولا بمسيرات جماعية تؤذي الناس وتصدهم عن مناسك حجهم وعمرتهم، بل يجب على الحاج أن يكون كإخوانه المسلمين في العناية بالهدوء والإحسان إلى إخوانه الحجاج وغيرهم، والرفق بهم وإعانتهم على الخير والبعد عن كل أذى.
هكذا يجب على الحجيج من كل جنس ومن كل مكان طاعة لله عز وجل، وتعظيما لبيته العتيق، وإظهارًا لحرمة هذا المكان العظيم، مكة المكرمة، وتنفيذًا لأمر الله، وأمر رسوله-ﷺ، وسيرًا على منهج رسوله، ومنهج أصحابه-رضي الله عنهم. هذا هو الواجب على الجميع، وهذا الأمر بحمد الله واضح لا يخفى على أحد، وإنما يؤذي الناس في هذا البيت العتيق من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، أو من يجهل أحكام الله أو يقصد ظلم العباد، فيكون عليه من الوزر ما يستحق بسبب إيذائه وظلمه.
وأما من آمن بالله واليوم الآخر إيمانًا صحيحًا، فإن إيمانه يردعه عن كل ما حرم الله في هذا المكان وغيره، فإن الإيمان يردع أهله عن التعدي على حدود الله وارتكاب محارمه سبحانه، وإنما يقدم العبد على المعصية لضعف إيمانه.
والواجب على ولاة الأمور إزاء المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة: العناية بحمايتهما، ودفع الأذى عنهما، وعن سكانهما، وعمن يقصدهما من العمار والحجاج، والزوار؛ طاعة لله ولرسوله، وتعظيمًا لأمر الله عز وجل، وأمر رسول الله-ﷺ، وعونًا للجميع على طاعة الله ورسوله، وتأمينًا لقلوبهم، حتى لا يذهلوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم، أو يقعوا في شيء مما حرمه الله عليهم، والله يقول سبحانه وتعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] ويقول سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] فلا بد من التواصي بالحق والصبر، والتعاون على البر والتقوى في هذا المكان وغيره، بل إن هذا المكان أعظم من غيره، وأفضل من غيره، فإن مكة المكرمة هي أفضل البقاع، وهي أحب البلاد إلى الله، وأفضل مكان وأعظم مكان، ثم يليها المدينة المنورة، ثم المسجد الأقصى، هذه هي المساجد الثلاثة التي خصها الله بمزيد التشريف على غيرها، وهي أعظم مساجد الله، وأفضل مساجد الله، وأولى مساجد الله بالاحترام والعناية.
وأعظم ذلك هذا البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، وواجب على أهله والوافدين إليه أن يعرفوا قدره، وأن يعرفوا فضله؛ حتى لا يقعوا فيما حرم الله، وهذا واجب الجميع من المقيم والوارد، ويجب على المقيمين فيه والساكنين فيه أن يعرفوا قدره وأن يعظموه، وأن يحذروا ما حرم الله، فإذا كان المريد فيه بذنب له عذاب أليم، فكيف بالفاعل؟ وليس الوارد إليه هو المخاطب بهذا الأمر، إذ المقيم أولى وأولى، لأنه دائم فيه.
والواجب عليه أن يعلم ما حرم الله، وأن يبتعد عن معصية الله، وأن يجتهد في طاعة الله ورسوله، وأن يكون عونًا لإخوانه في مكة وإخوانه الوافدين إليها في حج وعمرة، وأن يكون مرشدًا لهم في الخير.
وهكذا على سكان مكة أن يعينوهم ويوجهوهم إلى الخير، ويرشدوهم إلى أسباب النجاة، وأن يحذروا إيذاءهم بأي أذى من قول أو فعل، وأن يكونوا دعاة للحق. هكذا يجب في هذين المسجدين، وفي هاتين البلدتين، ويجب على المسلم في كل زمان ومكان أن يتقي الله وأن يعظم حرماته، وأن يتعاون مع إخوانه على البر والتقوى، وأن يبتعد عن كل ما حرم الله عز وجل، ويجب على ولاة الأمور الضرب بيد من حديد، على كل من خالف أمر الله، أو أراد أن يتعدى حدوده، أو يؤذي عباده؛ طاعة لله سبحانه وتعالى، وطاعة لرسوله-عليه الصلاة والسلام، وحماية للمسلمين من الحجاج والعمار والزوار وغيرهم، واحترامًا لهذا البلد العظيم، وهذا البلد الأمين، أن تنتهك فيه حرمات الله، أو يتعدى فيه على حدود الله، أو يؤمن فيه من لا يخاف الله ويراقبه على إيذاء عباده، وتعكير صفو حجهم وأمنهم بفعل سيئ أو بقول سيئ.
ونسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفق المسلمين في كل مكان لكل ما فيه رضاه، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم، وأن يرزقهم أداء حقه والبعد عن محارمه أينما كانوا، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفق ولاة أمرنا لما فيه صلاح البلاد والعباد، وأن يعينهم على أداء الواجب، وعلى حماية بيته العتيق ومدينة رسوله الأمين -عليه الصلاة والسلام- من كل أذى ومن كل سوء، وأن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا، وأن يشغلهم بأنفسهم عن إيذاء عباده، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم أينما كانوا، وأن يكفي المسلمين شرهم إنه جل وعلا جواد كريم وسميع قريب.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين[1].
محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في النادي الثقافي الأدبي في مكة مساء الأحد 26/ 11/ 1408. (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 3/ 377).
التعليقات