د. محمود بن أحمد الدوسري
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده:
اختلف العلماء في تحديد أوَّل مَنْ بنى الكعبة، وكم مرَّة بُنيت قبل الإسلام؟
والأدلة التي يوردها المفسرون والمحدثون والمؤرخون في بناء الكعبة، منها: ما يكون صحيحاً قطعياً فيُقْبَل، ومنها: ما يكون بخلاف ذلك فلا يُقبل؛ لأنها من مسائل الغيب، التي وقعت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تؤخذ إلاَّ بوحي، وليس للاجتهاد فيها نصيب[1].
قال الفاسي رحمه الله: (لا شكَّ أن الكعبة المعظَّمة بُنيت مرات، وقد اختُلِف في عدد مرات بنائها، ويتحصَّل من مجموع ما قيل في ذلك: أنها بُنيت عشر مرات، منها بناء الملائكة - عليهم السلام، ومنها بناء آدم - عليه السلام، ومنها بناء أولاده، ومنها بناء العمالقة، ومنها بناء جرهم، ومنها بناء قُصَي، ومنها بناء قريش، ومنها بناء الخليل - عليه السلام، ومنها بناء عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي - رضي الله عنهما، ومنها بناء الحجاج بن يوسف الثقفي)[2].
وقال علي بن عبد القادر الطبري[3] - رحمه الله: (وبُنيت الكعبة الشريفة إحدى عشرة مرة، أولها: بناء الملائكة، ثم بناء آدم هو وشِيث وصيُّ أبيه، ثم بناء إبراهيم الخليل، ثم بناء العمالقة، ثم بناء جرهم، ثم بناء قصي، ثم بناء قريش، ثم بناء ابن الزبير - رضي الله عنهما، ثم بناء الحجاج الثقفي، وفي عدِّه تجوُّز؛ لأنه لم يَبْنِ إلاَّ الجهة الشمالية، ثم بناء السلطان مراد خان)[4].
وفي أبيات منسوبة إلى علي بن عبد القادر الطبري - رحمه الله - قال فيها:
بَنَى البيتَ خَلْقٌ، وبيتُ الإلهِ
مدى الدهرِ مِنْ سابقٍ يُكرمُ
ملائكةٌ، آدم، ولده
خليلٌ، عمالقةٌ، جرهمُ
قصيٌ، قريشٌ، ونَجْلُ الزُّبير
وحََّجاجُ بَعدهمُ يُعلمُ
وسُلطاننا المَلِكُ المُرْتَجي
مُرادٌ هو الماجدُ الأعظمُ[5]
خلاصة ما ذُكِرَ في بناء الكعبة قبل الإسلام[6]:
1- بناء الملائكة - عليهم السلام.
2- بناء آدم - عليه السلام.
3- بناء شِيث بن آدم - عليه السلام.
4- بناء إبراهيم - عليه السلام.
5- بناء العمالقة[7].
6- بناء جُرْهُمَ.
7- بناء قُصي بن كلاب[8].
8- بناء عبد المطلب[9].
9- بناء قريش.
القول الرَّاجح في بناء الكعبة قبل الإسلام:
الثابت أن الكعبة بُنيت قبل الإسلام أربع مرات فقط[10]، وهي على النحو التالي:
1- بناء إبراهيم - عليه السلام، وهو أول بناء للكعبة المشرفة.
2- بناء العمالقة.
3- بناء جُرْهُم.
4- بناء قريش.
والقول ببناء الملائكة - عليهم السلام - للكعبة ليس عليه دليل صحيح[11]، وكذا بناء آدم - عليه السلام - لم يثبت فيه شيء، ولا يستطيع أحد أن يجزم به[12]، وكذا بناء شِيث بن آدم - عليه السلام [13]، وكذا بناء قصي بن كلاب - وإن ذكره بعض المؤرِّخين - إلاَّ أنه لا يُعتمد فيه على مُجَرَّد الذِّكر[14]، ولا يثبت أيضاً بناء عبد المطلب للكعبة[15].
التَّحقيق العِلمي للرَّاجح من بناء الكعبة:
أولاً: بناء إبراهيم - عليه السلام:
سبب البناء:
بنى إبراهيم - عليه السلام - الكعبة المشرفة بأمرٍ من الله تعالى، وكان بناؤه من الحجارة، وجعل ارتفاعها: (9 أذرع - أي: 5ر4م)، وطولها من الجهة الشرقية: (32 ذراعاً - أي: 16م)، ومن الجهة الغربية: (31 ذراعاً - أي: 5ر15م)، ومن الجهة الجنوبية: (20 ذراعاً - أي: 10م)، ومن الجهة الشمالية: (22 ذراعاً - أي: 11م)، ولم يجعل للكعبة سقفاً، وفتح لها بابين ملاصقين بالأرض بدون مصراع يُغلق، ونزل جبريل - عليه السلام - بالحجر الأسود، فوضعه إبراهيم - عليه السلام - في مكانه [16].
ومن خلال استقراء نصوص الكتاب والسنة نجد أنها تُشير إلى أنَّ إبراهيم - عليه السلام - هو أول مَنْ قام ببناء الكعبة المشرفة[17].
الأدلة:
1- قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة:127].
قال ابن كثير - رحمه الله: (فإن ظاهر القرآن يقتضي: أن إبراهيم أول مَنْ بناه مبتدئاً، وأول مَنْ أسَّسه، وكانت بقعته معظمة قبل ذلك، معتنىً بها، مشرَّفة في سائر الأعصار والأوقات)[18].
2- وقوله سبحانه: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ [الحج:26].
قال ابن كثير - رحمه الله: (ولم يَجِئْ في خبر صحيح عن معصوم، أن البيت كان مبنياً قبل الخليل - عليه السلام، ومَنْ تمسَّك في هذا بقوله: ﴿ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ [الحج:26]، فليس بناهض ولا ظاهر؛ لأن المراد مكانه المُقَدَّر في علم الله، المُقَرَّر في قدرته، المُعَظَّم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم - عليه السلام)[19].
3- ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعاً، والشاهد منه: قول إبراهيم - عليه السلام: «فإن اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا - وَأَشَارَ إلى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ على ما حَوْلَهَا - قال: فَعِنْدَ ذلك رَفَعَا الْقَوَاعِدَ من الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حتى إذا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جاء بهذا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ له، فَقَامَ عليه وهو يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولاَنِ: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾»[20].
ثانياً، ثالثاً: بناء العمالقة، وجُرْهُم[21]:
ذُكِرَ هذا البناء بروايات وطُرق مُتعدِّدة وصحيحة، ومنها:
1- ما جاء عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه، قال: (فمرَّ عليه الدهرُ فانهدم فبنته العمالقةُ، قال: فمرَّ عليه الدهرُ فانهدم فبنته جُرْهُمُ، فمر عليه الدهرُ فبنته قريشٌ)[22].
2- ما جاء أيضاً عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه، قال - بعد أن ذَكَرَ بناءَ إبراهيم - عليه السلام - للكعبة: (ثم انهدم فبنته العمالقةُ، ثم انهدم فبنته قبيلةٌ من جرهم، ثم انهدم فبنته قريشُ)[23].
وهذا الأمر ليس محلاً للاجتهاد والنظر، فلا يمكن أن يقوله عليٌّ - رضي الله عنه - دون أن يكون سَمِعَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم..
رابعاً: بناء قريش:
سبب البناء:
ذكرت كتب التاريخ: أنَّ امرأةً ذهبت تُجمِّر الكعبة، فطارت من مجمرتها شرارة، فاحترقت كِسوة الكعبة، ثم جاء سيل عظيم فدخل الكعبة، وصدَّع جدرانها، ففزعت قريش من ذلك، وعزمت على تجديد بناء الكعبة المشرفة، وكان ذلك السنة الخامسة قبل البعثة النبوية، واشترطوا: ألاَّ يُدخِلوا في بنائها مالاً حراماً، فقصرت بهم النفقة الطيبة عن إكمال البناء، فأنقصوا من جهة الحِجْر ستة أذرع وشبراً (أي: 23ر3م) أي: حوالي ثلاثة أمتار وربع[24]، وأداروا عليه جداراً قصيراً؛ ليطوف الناس من ورائه، وأحدثوا بعض التغيرات فيها، فزادوا ارتفاعها إلى: (18 ذراعاً - أي: 9م)، وسَقَفوها، ولم تكن من قبل مسقوفة، وجعلوا لها ميزاباً من خشب، وسدُّوا الباب الغربي، ورفعوا الباب الشرقي عن مستوى الأرض، حتى يُدخِلوا فيها مَنْ شاءوا، ويمنعوا مَنْ أرادوا، وقد شاركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البناء، فكان يحمل معهم الحجارة.
ولمَّا انتهى البناء، وأرادوا وضع الحجر الأسود، وقع بينهم نزاع شديد، كلُّ قبيلة تُريد أن تحظى بشرف وضْعِ الحَجَر في مكانه، ورضُوا بأن يَحْكُم فيهم أوَّلُ داخل إلى البيت، وكان الداخل هو النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ الحَجَرَ ووضَعَه على رداء، وأمَرَ كلَّ قبيلة أن تأخذ بطرفٍ منه فرفعوه، وقام صلى الله عليه وسلم بوَضْعِه مكانَه، وأنهى بهذه الحكمة السامية نِزاعاً كاد أن يُمزِّق وِحدتهم، ويودي بحياة عدد كبير منهم[25].
ذُكِرَ هذا البناء بروايات وطُرق مُتعدِّدة وصحيحة، ومنها:
1- ما جاء عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَوْلاَ حَدَاثَةُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَلَجَعَلْتُهَا عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنَّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَتِ الْبَيْتَ اسْتَقْصَرَتْ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا خَلْفًا[26])[27].
2- ما جاء أيضاً عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: (أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ)[28].
3- أمَّا مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا البناء، فهي ثابتة أيضاً، فقد جاء عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: (لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّّ صلى الله عليه وسلم وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: (أَرِنِي إِزَارِي) فَشَدَّهُ عَلَيْهِ)[29].
قال ابن كثير - رحمه الله: (والمشهور: أن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمره خمس وثلاثون سنة، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق - رحمه الله)[30].
ومن هذه الأدلة الصحيحة يتبيَّن أنَّ بناء قريش للكعبة ثابت، وأنَّ ذلك كان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات.
[1] انظر: بيت الله الحرام الكعبة، محمد بن عبد الله ثابت شبالة (ص73).
[2] شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، محمد بن أحمد الفاسي (1/ 175).
[3] مؤرِّخ شافعي مكِّي توفي في مكة عام 1070هـ (انظر: معجم المؤلفين، لكحالة 7/ 126).
[4] الأرج المسكي في التاريخ المكي، نقلاً من: تاريخ الكعبة المعظمة، لحسين باسلامة (ص55). وقد ذَكَرَ أنَّ كتاب الطبري مخطوط.
[5] انظر: المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
[6] انظر: بيت الله الحرام الكعبة، (ص80).
[7] العمالقة أو العماليق: نسبةً إلى جدِّهم عِمْليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكانوا من سكان اليمن. انظر: الكامل، لابن الأثير (1/ 61).
[8] هو الجد الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، واسمه: زيد. انظر: سيرة ابن إسحاق، (2/ 60).
[9] هو جدُّ النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه: شيبة الحمد. انظر: سيرة ابن إسحاق، (1/ 43).
[10] انظر: بيت الله الحرام الكعبة، (ص103).
[11] انظر: المصدر نفسه، (ص83).
[12] انظر: المصدر نفسه، (ص90).
[13] انظر: المصدر نفسه، (ص91).
[14] انظر: المصدر نفسه، (ص97).
[15] انظر: المصدر نفسه، (ص98).
[16] انظر: تاريخ الكعبة المعظمة، عمارتها وكسوتها وسدانتها: حسين بن عبد الله باسلامة، (ص70-75)؛ مكة المكرمة تاريخ ومعالم، محمود محمد حمو (ص43).
[17] انظر: المصدر نفسه، (ص92).
[18] البداية والنهاية، لابن كثير (2/ 298).
[19] المصدر نفسه، (1/ 163).
[20] رواه البخاري، (3/ 1229)، (ح3184).
[21] انظر: بيت الله الحرام الكعبة، (ص96،95).
[22] رواه الحاكم في (المستدرك)،( 1/ 629)، (رقم1684). وصححه، ووافقه الذهبي. والبيهقي في (شعب الإيمان)، (3/ 238)، (ح3991). و(دلائل النبوة)،(2/ 56). والأصبهاني في (دلائل النبوة)، (1/ 204)، (ح272). والذهبي في (تاريخ الإسلام)، (1/ 69).
[23] رواه الأزرقي في (أخبار مكة)، (1/ 62).
[24] انظر: الإيضاح والتبيان لمعرفة المكيال والميزان، لابن الرفعة، تحقيق: د. محمد أحمد
الخاروف (ص77).
[25] انظر: تاريخ الكعبة المعظمة، (ص87-94)؛ مكة المكرمة تاريخ ومعالم، (44).
[26] المراد به باب من خلفها، وقد جاء مفسَّراً في رواية: (وَجَعَلْتُ لها بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا) رواه مسلم، (2/ 969)، (ح1333). وفي الرواية الأخرى: (بَابَيْنِ أَحَدُهُمَا يُدْخَلُ منه وَالآخَرُ يُخْرَجُ منه) رواه مسلم، (2/ 970)، (ح1333). انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (9/ 89).
[27] رواه مسلم، (2/ 968)، (ح1333).
[28] رواه البخاري، (2/ 573)، (ح1506). ومسلم، (2/ 969)، (ح1333).
[29] رواه البخاري، (2/ 573)، (ح1505).
[30] البداية والنهاية، (2/ 300).
التعليقات