بمناسبة بداية الدراسة

الشيخ سعد بن عبدالرحمن بن قاسم

2024-09-30 - 1446/03/27
عناصر الخطبة
1/وجوب تعلم العلم النافع 2/ طلب العلم فريضة 3/أهمية العلم في نفع الفرد والمجتمع 4/الإمامة في الدين مورثة عن الصبر واليقين 5/إخلاص النية في طلب العلم النافع 6/الصبر على طلب العلم.

اقتباس

إن كل ما يجب على الإنسان العمل به، فيجب تعلمه كأصول الإيمان، وشرائع الإسلام، وما يجب اجتنابه من المحرمات، وما يحتاج إليه في المعاملات، ونحوُ ذلك مما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجبُ العلمُ به، بخلاف القدْر الزائد على ما يحتاج إليه المعين...

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمد لله الذي علَّم القرآن، ويسَّر حفظه وفهمه، خلق الإنسان علمه البيان، فيسَّر النطق على الخلق بتسهيل خروج الحروف من مواضعها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.

 

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المبعوث بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين تلقوا شريعته بالطاعة والانقياد، وكذا من تبعهم إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: أيها المسلمون: فإنه يلزم كلَّ فرد من أفراد المكلفين، ذكرًا كان أو أنثى تعلُّم ما يجب عليه من أمر دينه، فلا يُعْذَر أحدٌ منا بالجهل به؛ قال -تعالى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النحل: ٤٣]، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجواهر، واللؤلؤ، والذهب".

 

وقال أحمد -رحمه الله-: "يجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه، قيل له مثلُ أي شيء؟ قال الذي لا يسعه جهله، صلاته وصيامه ونحو ذلك". وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "إن طلب العلم فريضة، وإنه شفاء للقلوب المريضة، وإن أهم ما على العبد معرفته: دينه، الذي معرفته والعملُ به سببٌ لدخول الجنة، والجهلُ به وإضاعتُه سببٌ لدخول النار، أعاذنا الله منها".

 

أيها المسلمون: إن كل ما يجب على الإنسان العمل به، فيجب تعلمه كأصول الإيمان، وشرائع الإسلام، وما يجب اجتنابه من المحرمات، وما يحتاج إليه في المعاملات، ونحوُ ذلك مما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجبُ العلمُ به، بخلاف القدْر الزائد على ما يحتاج إليه المعين، فإنه من فروض الكفايات، وهو أفضل من قيام الليل وصيام النهار والصدقة بالذهب والفضة، مع صدق النية وحسن الاتباع؛ قال -تعالى-: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)[الزمر: ٩]، وقال -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)[المجادلة: ١١]، وقال أحمد -رحمه الله-: "تعلم العلم وتعليمه أفضل من الجهاد وغيره مما يتطوعُ به".

 

عباد الله: إن العلم الشرعي هو الأصل والأساس، وأعظم العبادات، وآكد فروض الكفايات، بل به حياةُ الإسلام والمسلمين، والتطوعات إنما هي شيء مختصٌ بصاحبه، لا يتعدى إلى غيره، وهو الميراث النبوي ونور القلوب، وأهله هم أهلُ الله وحزبُه، وأولى الناس به وأقربُهم إليه، وأخشاهُم له وأرفعُهم درجات؛ قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[فاطر: ٢٨].

 

ولقد مثَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعث الله به محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من الهدى والعلم، أنه كالغيث أصاب الأرض الطيبة، ففي الصحيحين عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثلُ ما بعثني الله به من الهدى، كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشبَ الكثير، وكان منها أجادبُ أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منه وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلًا، فذلك مثلُ من فقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به".

 

وفي الصحيحين عن معاوية -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين".

 

فاحرصوا -رحمكم الله- على تلقّي العِلْم الموروث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه العلم النافع الذي يتواصى به الصالحون، فلقد سأل أبو القاسم المغربي شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية بأن يوصيه بما فيه صلاح دينه ودنياه، وأن يرشده إلى ما يعتمد عليه في علم الحديث وكذا في غيره من العلوم الشرعية.

 

وقد أجابه -رحمه الله- بما يشفي، ومما قاله في جوابه: "وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم فهذا بابٌ واسعٌ، لكن جماع الخير: أن يستعين بالله -سبحانه- في تلقي العلم الموروث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنه الذي يستحق أن يسمى علمًا، وما سواه إما أن يكون علمًا فلا يكون نافعًا، وإما أن لا يكون علمًا وإن سُمِّي به، ولئن كان علمًا نافعًا فلا بد أن يكون في ميراث محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يُغني عنه مما هو مثله وخيرٌ منه. ولتكن همته فهمَ مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه، فإذا اطمأن قلبُه أن هذا هو مراد الرسول، فلا يعدل عنه فيما بينه وبين الله -تعالى-، ولا مع الناس إذا أمكنه ذلك".

 

وقال -رحمه الله-: "ما خرج من العلوم العقلية عن مسمَّى الشرعية، وهو ما لم يأمر به الشارع ولم يدل عليه، فهو يجري مجرى الصناعات، كالفلاحة والبناية، والنساجة، وهذا لا يكون إلا من العلوم المفضولة المرجوحة".

 

فاتقوا الله -عباد الله- وتأملوا هذه الآيات، وهذه الأحاديث، وما في معناهما، وتأملوا كلام الأئمة في وجوب تعلُّم ما يجب تعلمه، واختيار العلوم الفاضلة وامتثلوا لذلك، ألا تحبون طريقًا يوصل إلى الجنة؟ ألا تحبون أن يستغفر لكم من في السماوات ومن في الأرض؟

 

روى أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًى بما صنع، وإن العالِم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء: ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".

 

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الجمعة: ٢ – ٤]، بارك الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله منير البصائر، العالِم بما في السرائر والظواهر، خلق فقدَّر، ودبَّر فيسَّر، فكلٌ إلى ما أولاه صائر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القادرُ على كل شيء، المحيطُ بكل شيء فلا تخفى عليه خافية، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فلا خير إلا ودلَّ الأمة عليه، ولا شرّ إلا وحذَّرها منه، -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه، خير من تعلم وعلم وامتثل، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: أيها المسلمون: فإن الإمامة في الدين مورثة عن الصبر واليقين؛ لقوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة: ٢٤]، فإن الدين كلَّه علم بالحق وعمل به، والعمل به لا بد فيه من الصبر، بل وطلب علمه يحتاج إلى الصبر؛ كما قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "عليكم بالعلم فإن طلبه لله عبادة، ومعرفتُه خشية، والبحث عنه جهاد، وتعليمهُ لمن لا يعلم صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يُعرَفُ الله ويُعبَد، وبه يُمجَّد الله ويُوحَّد، يرفع الله بالعلم أقوامًا يجعلهم للناس قادة، وأئمة يهتدون بهم، وينتهون إلى رأيهم، فالعلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، ولا ينال الهدى إلا بالعلم، ولا ينال الرشاد إلا بالصبر".

 

وقال علي -رضي الله عنه-: "ألا إن الصبر، من الإيمان: بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا انقطع الرأس بان الجسد، ثم رفع صوته فقال: ألا لا إيمان لمن لا صبر له".

 

أيها المسلمون: أخلصوا لله العمل، ولتكن دراسةُ العلوم الشرعية لفهم شريعة الله والامتثال لها، احذروا أن تكون للوظيفة، أو المعيشة، أو غير ذلك من الأهداف الباطلة، روى أبو داود بإسناد صحيح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-؛ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن تعلَّم علمًا مما يُبتغَى به وجهُ الله -عز وجل-، لا يتعلمه إلا ليصيب غرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" -يعني ريحها-.

 

وقد جاء الوعيد الشديد لمن تعلَّم العلم رياءً، روى مسلم وغيره عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في أول الناس يُقضى عليه يوم القيامة، ويُلقى في النار؛ قال فيه: "ورجل تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نعمَه؛ فعرفها؛ قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، فأُمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار".

 

أيها المسلمون: احذروا من التوجيهات الخاطئة، ومن ذلك أن يجعل الاختيار للعلوم الهواية، كما قال بعضهم: "السعادة أن يكون عملك هوايتك وهوايتك عملك"، فهذا مخالف لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"؛ حيث جعل هوى نفسه مقدمًا على ما جاء به رسول الله، وأخطأ حيث جعلها هي السعادة، بل يخشى أن يكون قد جعل الله هواه.

 

وما أكثر مَن يفتي بغير علم في هذه الأزمان، لقد وقع ما أخبر به -صلى الله عليه وسلم-، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-؛ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالمًا اتخذ الناسُ رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".

 

اللهم أيقظ قلوبنا، وارزقنا من يوجهنا التوجيه الصالح، اللهم اهدنا الصراط المستقيم، وأعنَّا على سلوكه يا أرحم الراحمين.

 

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات
زائر
01-10-2024

يعطيك العافية

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life