عناصر الخطبة
1/ علم الله تعالى بمصالح العباد 2/ حرمة بيع الغرر وبيان بعض صوره 3/ بعض البيوع المحرمة بسبب اختلال تحقق الرضا والملكية 4/ تحري الحلال واجب على كل مسلم 5/ من ورع الصحابة -رضي الله عنهم- في الكسب والمطعم 6/ مسائل معاصرة في البيعاهداف الخطبة
اقتباس
من البيوع المنهي عنها كل بيع يتضمن غَرَرًا وجهالة؛ لما ورد في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الغرر. وأجمع العلماء على تحريمه، والحكمة من النهي عنه أن الله تعالى حرَّم أكلَ أموال الناس بالباطل، وهذا منها؛ إذ من شروط البيع معرفةُ المبيع، وبيع الغَرَر لا يتحقق فيه هذا الشرط، فجاء بطلانه لهذا السبب...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن لا أحد أعلم بما ينفع الناس من ربهم، ولا أعرف بما يُصلح الخلق من خالقهم، فهو العليم الحكيم واللطيف الخبير، خلق الخلق لعبادته، ودلهم على هدايته وما يسعدهم، وحذَّرهم مما يضرهم، شرع من الأخلاق أكملها، وقضى من الأحكام أعدلها.
أيها المسلمون: من البيوع المنهي عنها كل بيع يتضمن غَرَرًا وجهالة؛ لما ورد في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الغرر. وأجمع العلماء على تحريمه، والحكمة من النهي عنه أن الله تعالى حرَّم أكلَ أموال الناس بالباطل، وهذا منها؛ إذ من شروط البيع معرفةُ المبيع، وبيع الغَرَر لا يتحقق فيه هذا الشرط، فجاء بطلانه لهذا السبب.
من صور بيع الغرر -عباد الله- ما يذكره الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في مصنفاتهم من بيع الحمل في بطن أُمّه واللبن في الضرع، وبيع الحصاة، كأن يقول: أي شاة وقعت عليها هذه الحصاة فهي لك بكذا، أو بعتك هذه الأرض إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة حين أرميها.
وبيع الملامسة من الغرر، ومنه كذلكم بيع الجمل الشارد والطير في الهواء والسمك في الماء ونحو ذلك مما يمثّل به العلماء أو لم يذكروه مما فيه غرر وجهالة.
والحاصل أن من شروط صحة البيع أن يكون المبيع معلومًا والثمنُ معلومًا، فمتى جهل أحدهما لم يصح البيع.
أيها المسلمون: من قواعد البيع تحقق الرضا والملك، فمتى اختل أحدهما لم يصح البيع، فالرضا متعين لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء: 29]، وهذه الآية نص في النهي عن تعاطي الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال، وأما المتاجرة المشروعة فمباحة، ولكن بشرط الرضا من الطرفين: البائع والمشتري، فمن أُكره على بيع ملكه بغير حق فالبيع باطل، ولا يحل للمشتري أن ينتفع بالمبيع، بل الواجب عليه رده إلى صاحبه حتى تطيب نفسه ببيعه، ومن أُكره على إجارة ملكه بغير حقٍ فالإجارة باطلة، ولا يحل للمستأجِر أن ينتفع بالمستأجَر، بل الواجب عليه أن يتخلى عنه ويردّه لصاحبه، ولا يجوز أن يبيع المسلم شيئًا لم يملكه بعد؛ لما روى حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الرجل يأتيني يريد مني البيع ليس عندي، أفأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه عليه؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبع ما ليس عندك". وإذا اشترى شيئًا لا يجوز أن يبيعه حتى يستلمه ويقبضه؛ لأن بذلك يتحقق الملك، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه". وعليه فإنه يحرم ما تفعله شركات التقسيط حين تُبرم العقد مع المشتري ويوقع على سيارة معينة مثلاً قبل أن تشتريها الشركة.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- واستقيموا في عباداتكم ومعاملاتكم على شرع الله، واعلموا أن أقلَّ الحرام يُعمي البصيرة، ويضعف الدين، ويقسّي القلب، ويثبط الجوارح عن الطاعة، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلا من المتقين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد:
فإن طلب الحلال وتحريه واجب على كل مسلم، فلن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟! وفيم أنفقه؟!
جاء غلام أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- إليه بشيءٍ فأكله، فقال له الغلام: أتدري ما هو؟! تكهّنت في الجاهلية لإنسان وما أُحسن الكهانة، ولكني خدعته، فلقيني فأعطاني ذلك، فهذا الذي أكلت، فأدخل أبو بكر يده في فمه فقاء كل شيء في بطنه، ثم قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، ثم قال -رحمه الله-: "اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء". وشرب عمر -رضي الله عنه- لبنًا فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟! قال: مررت بإبل الصدقة وهي على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده في فمه فاستقاء.
كل هذا وهو داخل عليهم من غير علمهم ولا اختيارهم، فيا عجبًا لحال من تعمّد أكل الحرام، أو تساهل به، والتقط الفتاوى الشاذة في تحليل ما حرم الله ليملأ به جوفه وجوف أهله وأولاده.
معاشر المسلمين: كلنا نحفظ حديث الأشعث الأغبر الذي "يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام: فأنى يستجاب لذلك". لقد اجتمع في هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة والحاجة والفاقة والسفر ما يدعو إلى رثاء حاله، تقطعت به السبل، وطال عليه السفر، واغبرت قدماه، ثم رفع يدَ الذل والخشوع إلى مولاه يناجيه ويدعوه، بعد أن قطع كل العلائق الأخرى بغيره، ولكنه غَذَّى جسده على الحرام، فحيل بين دعائه والقبول، ورُدَّت يداه خائبتين.
ماذا يبقى للعبد إذا رده مولاه ورفضه وحيل بينه وبين الرحمة؟! وهذا ما حدا ببعض السلف أن يقول: "لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعتك حتى تنظر ما يدخل بطنك". وإن العجب كل العجب -أيها الإخوة- ممن يحتمي عن بعض الأطعمة الحلال مخافة المرض ولا يحتمي من الحرام مخافة النار!
أيها المسلمون: مسائل في البيع يحسن التنبيه عليها، من ذلكم ما يحصل من بيع السيارات بالأجل، المسمّى بالإيجار المنتهي بالتمليك، فقد درسته هيئة كبار العلماء في المملكة وأصدرت فيه قرارًا برقم 198، ورأوا أنه غير جائز لعلل ذكروها في الفتوى لمن شاء أن يراجعها.
المسألة الثانية: إذا استدان شخص سيارةً إلى أجل فيجب الانتباه إلى خمسة أمور:
أولاً: أن تكون السيارة مملوكة للبائع قبل الاتفاق على شرائها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تبع ما ليس عندك".
ثانيًا: أن يُعلم السعر والقسط الشهريّ واضحًا لا لبس فيه.
ثالثًا: أن يستلم المشتري السيارةَ وينقلَها قبل أن يبيعها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
رابعًا: أن لا يبيعها على من اشتراها منه، وهذه مسألة العِينة التي حذر منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
خامسًا: لو عجز المستدين عن السداد فلا يجوز لصاحب الدين أن يزيد في المال ريالاً واحدًا مقابل التأخير، وإلا يكون قد وقع في الربا.
المسألة الثالثة -أيها المؤمنون- هي التأمين، وقد قسمه العلماء إلى نوعين هما:
النوع الأوّل: التأمين التجاري، وهو عقد يلتزم المؤمِّن -أي: شركة التأمين- بمقتضاه أن يدفع إلى المؤمَّن له مبلغًا من المال في حال وقوع حادث عن عين مبيّنة في العقد مقابل قسطٍ سنوي يدفعه المؤمَّن له لشركة التأمين، وهذا محرم لما فيه من الجهالة وأكل أموال الناس بالباطل، ولأنه قرض جرَّ نفعًا.
والنوع الثاني: التأمين التعاوني وهو المباح، وصورته أن يجتمع عدة أشخاص مُعرَّضين لأخطار متشابهة، ويدفع كل واحد منهم اشتراكًا معينًا، وتخصّص هذه الاشتراكات لتعويض من يلحقه ضرر منهم، وإذا زاد المبلغ عن الحاجة كان للأعضاء حقٌّ في استرجاعه كل بحسب حصته، فهذا مباح لأن التبرع فيه محض وليس إلزامًا.
المسألة الرابعة: لو كان على شخص دينٌ مؤجل، ثم أغناه الله تعالى، فله أن يعرض على صاحب الدين أن يخفض له في المبلغ ويعجل له السداد، وهذا مباح لما فيه من سرعة إبراء ذمة المدين، وليس داخلاً في شيء من قواعد البيوع المنهي عنها.
وفقنا الله لما يرضيه، وجنبنا أسباب سخطه ومعاصيه.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك، ولا تجعل لكافرٍ ولا لفاسق علينا منةً...
التعليقات