عناصر الخطبة
1/من نماذج بطر المعيشة والملل منها 2/خطر الملل من نعم الله 3/علاج الملل من نعم اللهاقتباس
إِنَّ مَنْ سأَلَ اللهَ الوَلَدَ سَعى للزَّواج. ومَنْ سأَلَ اللهَ الثَمَرَ سَعى للغَرْس. ومَنْ سأَلَ اللهَ المالَ سَعى لِلعَمَل. ومَنْ سأَلَ اللهَ الهدايةَ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ.. فَلْيَسْعَ...
الخطبة الأولى:
الحمد الله مسبغ النعم ودافع النقم ومحيي الرمم وموجد الناس من عدم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرأف ملك وأعدل من حكم، واشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الوری وقدوة الأمم صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة القمم وسلم تسليما.
أما بعد: فاتق الله -أخي المسلم- حيثما كنت؛ فمن اتقي الله وقاه ورزقه وكفاه.
حدثنا القرآن الكريم أن أمة سبأ كان في مسكنهم آية.. جنتان عن يمين وشمال.. أمة ممكنة في أرضها ترفل في خيراتها بطيب أرضها وتقارب أسفارها ومغفرة ربها (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)[سبأ:15] يسافرون بلا زاد، فطرقهم أشجار وثمار وظل وماء.. لكنهم قوم ملوا من تتابع النعم وحياة النعيم فأرادوا التغيير ولو إلى الأسوأ؛ فقال الله: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)[سَبَأٍ:15-19].
وحدثنا القرآن الكريم أن بني إسرائيل رزقهم الله المن والسلوى، لكنهم من فرط الترف والطغيان سئموا النعيم والملذات، وقالوا لنبي الله موسى عليه السلام: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)[البقرة:61]، وتحولوا من خير الأطعمة وأطيبها إلى ما هو أقل، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكانت نتيجة الملل والجحود، أن ضربت عليهم الذلة وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة..
وحدثنا الواقع الأليم أن فئة منا سئمت نعمة ربها بالبيوت الفسيحة المطمئنة، وترددت على الألسن عبارات (البيت ملل، والجلوس طفش) وذهبوا يحشرون أنفسهم في زاوية ضيقة في مطعم؛ ليخسروا مالا وليكسبوا إثما بغناء سمعوه ومنكر رأوه فلم ينكروه.
حدثنا الواقع الأليم أن فئة منا سئمت المآكل الطيبة، وصارت تتندر بمأكولات شائعة، فإذا ذكر أن الغداء أو العشاء أرز ولحم، تعالت الضحكات الساخرة، وذهبوا يبحثون عما هو أدنى في المطاعم والمقاهي؛ فيا عجبا لمن يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.
حدثنا الواقع الأليم أن فئة من نسائنا خلقهن الله في أحسن تقويم، فسئمن الجمال الرباني، وذهبن يبحثن عن الجمال المزيف بنمص وشفط ونفخ وتغيير لخلق الله، فاستبدلن الذي هو أدنى بالذي هو خير، فتشوهت الوجوه، وكثرت الأمراض، وبحثن عن رضا الناس بسخط الله فسخط الله عليهن وأسخط عليهن الناس.
حدثنا الواقع الأليم أن أناسًا سئموا حياة السكينة والاستقرار ونعمة العفة والحشمة والطهر فصاروا يتطلعون إلى حياة الكافرين وما عندهم من عادات وأعراف واختلاط، وحرية مطلقة للمرأة، فيتمنون مثل حياتهم، ناسين كثرة الانحلال الخلقي وجرائم الاغتصاب والقتل وتفكك الأسرة في تلك المجتمعات؛ (أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)[البقرة:61].
حدثنا الواقع الأليم أننا نسأل في الصباح أو المساء عن الحال فيكون جوابنا (لا جديد) وما ذاك إلا لأننا ألفنا النعم، وسئمنا دوامها، ورغبت النفوس تغيير الحال ولو بأسوأ منه.
عجبا (لا جديد؟) لا جديد، وقد أصبحنا في أمن وسلام، وربنا أخبرنا فقال: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ)[الْأَعْرَافِ:4] وأخبرنا عن ثمود أنهم باتوا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين، وكم سمعنا عن أمم في عالمنا نام أهلها وهم آمنون، وشملهم مجتمع، الأب مع أبنائه، والأم تحتضن أولادها، والزوجة مع زوجها ناموا وهم ناعمون فجاءهم بأس الله بياتاً وهم نائمون. فأحالهم جثثاً هامدة وصير بلدتهم خامدة. أصبحوا من بعد الجمع شتاتاً، وصارت البلاد خراباً يباباً.
لا جديد وقد استيقظتم في صحة وعافية، وقد رأيتم من بات تلاحقه نظرات العناية وأصبح أسيرا لأسرة العناية؛ فهل أنتم شاكرون؟!
لا جديد، وقد أصبحتم تنعمون برغد في العيش، وأمم من حولكم يبحثون عن كسرة خبز في النفايات، ثم نردد: لا جديد.
أفلا نكون كالمغيرة -رضي الله عنه- وقد سئل: كيف أصبحتَ يا أبا محمد؟ قال: "أصبحنا مُغْرَقِينَ في النعم، عاجزينَ عن الشكر، يتحبَّب إلينا ربُّنا وهو عنا غنيّ، ونتمقَّت إليه ونحن إليه محتاجون".
هذه صور من الملل من النعم والضجر من الواقع الجميل، والبحث عن التغيير ولو كان للأسوأ، صور شهدناها وتلبسنا بها يوم أن قل الشكر للمنعم، وبدل بعض الناس نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.
صور من الملل شهدناها حينما نظرنا إلى من هو أعلى منا ولم ننظر إلى من هو دوننا في النعم، فزهدنا فيما أنعم الله علينا، وتمنينا ما فضل الله به بعضنا على بعض وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنظروا إلى من هو فوقكم وانظروا إلى من هو دونكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم".
صور من الملل من النعم شهدناها حينما تأثرنا بالدعايات الكاذبة والتي يرود لها التائهون التافهون والمسمون بالمشاهير والمشهورات، والذين يرسمون للناس صورا للحياة أعلى مما يعيشون فزهدوهم في نعم الله عليهم، وجرأوهم على التطلع لما في أيدي الآخرين ولو كان على حساب الدين والشرف.
أو ما علمتم أن هؤلاء يستسمنون من ورم، ويظهرون بثوب العارية، ويلبسون ثوبي زور، ويبنون الثروات من كشف العورات وهدم الأخلاق والحياء ومحاربة الدين والمبادئ والقيم، ويوما ما سيظهر هؤلاء على حقيقتهم حينما ينكشف من وراءهم وتنتهي أدوارهم لتعلموا أنما هم بيوت من ورق، (وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 131].
صور من الملل والتضايق مما أنعم الله به علينا رأيناها في واقعنا؛ لأننا لم نتعب في تحصيل هذه النعم، ولم نعرف قدرها، ولم نعش مع من فقدوها وعانوا كثيرا في تحصيلها والوصول إليها، ولأننا لم نفكر في الموجود وإنما شغلنا بالتفكير في المفقود.
إن الملل من نعمة الله آفة عظيمة قد يخسر العبدُ بسببها ما هو فيه، ويصبح في حال يتمنَّى لو أن قد رضي بما كان عليه، يقول ابن القيم -رحمه الله- متحدثًا عن هذه الآفة: "مِنَ الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه، واختارها له، فيملها ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم -لجهله- أنه خير له منها، وربه -برحمته- لا يُخرجه من تلك النعمة، ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذَرْعًا بتلك النعمة وسَخِطَها وتَبَرَّمَ بها واستحكم ملله لها سلبه اللهُ إياها، فإذا انتقل إلى ما طلبه ورأى التفاوتَ بين ما كان فيه وما صار إليه اشتد قلقُه وندمُه وطلب العودةَ إلى ما كان فيه، فإذا أراد الله بعبده خيرًا ورشدًا أشهده أن ما هو فيه نعمة عليه، ورضَّاه به، وأوسعه شكرَه عليه".
وما أسوأ أن يكون المرء في نعمة من الله وفضل فإذا به يمل النعمةَ ويبطرها، يقول ابن القيم -رحمه الله: "وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله، فإنه لا يراها نعمة، ولا يشكره عليها، ولا يفرح بها، بل يَسْخَطُها ويشكوها ويُعِدُّها مصيبةً، هذا وهي من أعظم نعم الله عليه، فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم، ولا يشعرون بفتح الله عليهم نعمه، وهم مجتهدون في دفعها وردها، جهلا وظلما، فكم سعت إلى أحدهم من نعمة وهو ساعٍ في ردها بجهده، وكم وصلت إليه وهو ساعٍ في دفعها وزوالها بظلمه وجهله، قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الْأَنْفَالِ: 53]".
أقول هذا القول..
الخطبة الثانية..
أما بعد: إن الملل من نعم الله الموجودة وإلفها والتطلع إلى نعم مفقودة هو صورة من صور جحود النعم وكفرها، وهو أمارة على عدم إجلال الله وقدره حق قدره، وهو سوء ظن بالله في حكته وتدبيره واختياره..
إن ربي لطيف بعباده فلا يمنع بخلا ولا عجزا تعالى الله وإنما يحرم ليرحم، ويمنع ليدفع، وإذا كنت تتطلع إلى مال موجود عند غيرك فثق أن صاحب المال يتطلع إلى عافية عندك، وتأمل في نفسك وما حولك ومن حولك ستجد أنك ترفل في نعم عظيمة يفتقدها أصحاب الدثور فكن بالله راضيا وله حامدا شاكرا، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم..
إن السآمة من النعم الموجودة والتطلع إلى التغيير مؤذن بعقاب من الله، كما فعل الله بقوم سبأ وبني إسرائيل؛ فلنحذر من أن نستجلب غضب الله بالملل من نعم الله
لقد أورث الملل من النعم حسدا وبغضاء وعداوات، وبعدا عن الله وطاعته؛ فلنحارب الملل بالتقرب إلى الله والعمل بطاعته وكثرة الحمد والشكر لله على كل نعمة مهما صغرت في عيوننا.
ما بالُ أقوامٍ يَمَلُّون النعمةَ التي هم فيها، ويستصغرونها ويتطلعون إلى مَنْ فُضِّلَ عليهم في الدنيا، وقد يؤدي بهم الحالُ إلى حسد غيرهم، حتى يقول أحدهم: لماذا كان فلان أفضل مني؟ ولِمَ أكون أقلَّ من غيري؟، وإذا ظفر بنعمة واستمتع بها زمنا، قال مُستَقِلًّا لها مزدريا: "ما عندنا شيء غير هذا؟"؛ قد مل ما هو فيه من النعمة؛ فلا يشكر مولاه، ولا يقنع بما آتاه، أين هؤلاء من النظرة الحقيقية لمتاع الدنيا.
ادفعوا الملل من النعم بسؤال الله ودعائه قائلين: "اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
ادفعوا الملل بتقليب البصر والبصيرة في أحوال من حولكم لتدركوا كم أنتم في نعيم لا يجارى ورغد لا يبارى.
ادفعوا الملل بالقناعة، فهي كنز لا يفنى والعبد حُرٌّ إن قَنِعَ، والحُرُّ عَبْدٌ إِنْ طَمِعَ.
ادفعوا الملل بتذكر الدنيا وزوالها والآخرة ودوامها وللآخرة خير لك من الأولى.
ادفعوا الملل بالبعد عن متابعة التافهين التائهين من مشاهير برامج التواصل والذين زهدوا الناس في النعم وجرأوهم على التمرد على القيم فعباد الرحمن إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وإذا مروا باللغو مروا كراما.
حاربوا الملل بكثرة الحمد والشكر لله على نعمى التي تترى (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النحل:53] يوم أن يتخلى الناس عن شكر النعم والثناء على منعمها حينها يمسك الله رحمته، فتنقلب النعم نقمة وعذابا.
وبالشكر تدوم النعم (لئن شكرتم لأزيدنكم) ويمتنع العذاب ويرتفع البلاء (مَا يَفعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُم إِنْ شَكَرتُم وَآمَنتُم وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)[النساء: 147] يوم أن يتخلى الناس عن شكر النعم والثناء على منعمها حينها يمسك الله رحمته، فتنقلب النعم نقمة وعذابا.
وما أجمل موقف ذلك الرجل المبتلى كان أقرع الرأس أبرص البدن أعمى العينين مشلول القدمين واليدين وهو يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرا من خلقه وفضلني عليهم تفضيلا، فقال له رجل: يا هذا مم عافاك، فقال: ويحك يا رجل جعل لي لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وبدنا على البلاء صابرا.
فلله ما أعظم هذا الشكر وما أجمله، جعلنا الله من الشاكرين الذاكرين.
اللهم صل وسلم...
التعليقات