عناصر الخطبة
1/البركة في الأعمال والأمكنة والأزمنة 2/بركة وقت الصباح وبعض العبادات الواجبة والمستحبة فيه 3/ثمرات الاستيقاظ وقت الصباحاقتباس
أيها المسلمون: إن حسن استغلال أول النهار بالطاعة من إصابة الخير الذي ينبغي التهيؤ له ليلا بالعزيمة الصادقة، والنوم الكافي، والإتيان بأذكار النوم، وخير افتتاح لليوم وأساس بركته: أداء صلاة الفجر في وقتها جماعة في المسجد فإنه ذكر شريف لاسم المصلي عند الله حين ترفعه الملائكة إليه، وهو من...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الحميد، المبدئ المعيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم التسليم المزيد.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ)[البقرة: 278].
أيها المؤمنون: الإسلام دين عملٍ إيجابي مثمر، يعود بالنفع على العامل ومجتمعه في الدنيا والآخرة، ومن أخص ما نبَّه الدين على توخيه في العمل المثمر تلمُّس جوانب البركة فيه من حيث العمل نفسُه، وزمنُه ومكانُه؛ لتحل البركة فيه؛ فتُكسِبَه ثبوتًا مانعًا من الانقطاع، وزيادةً تحميه من النقص، وأثرًا محمودًا باقيًا، وأجرًا مُدَّخرًا، وذلك مما يقتصر فيه على ما ورد به النص الشرعي؛ إذ البركة أمر غيبي لا يثبت إلا بدليل شرعي.
هذا وإن من الأزمنة المباركة التي تعم بركتُها الأعمالَ الواقعةَ فيها وقتَ الصبح أولَ النهار، فذاك وقت عظيم أقسم الله به في موضعين من القرآن؛ كما قال سبحانه: (وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ)[المدثر: 34]، (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)[التكوير: 18]، والمعروف في أقسام القرآن أن تكون بالأشياء العظيمة الدالة على قدرة الله أو الأشياء المباركة.
وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمَّته بالبركة أول النهار، وكان ذلك الوقت وقت إنفاذه مهام الجهاد ذات الأهمية والأثر، روى صخر الغامدي -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهمَّ بارك لأمَّتي في بكورِها" قال: وكان إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم أول النهار، وكان صخر رجلًا تاجرًا، وكان إذا بعث تجارة بعثهم أول النهار، فأثرى وكثر ماله"(رواه الترمذي وحسنه، وحسنه عبدالحق الإشبيلي).
بل ذكر أهل العلم أن حسن استغلال الصبح بافتتاحه بالطاعة مؤذن بامتداد بركته على اليوم كله، قال أبو ذر -رضي الله عنه-: "يومك جملك إذا أخذت برأسه أتاك ذَنَبُه" أي: إذا كنت في أول النهار بخير لم تزل فيه إلى آخره.
وقال ابن القيم: "ومن المكروه عندهم النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس؛ فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق، وحصول القَسْم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة، فينبغي أن يكون نومُها كنوم المضطر".
وكان عمر -رضي الله عنه- يقول للتُّجَّار: "اجعلوا أول نهاركم لآخرتكم، وما بعده لدنياكم"، وقال الغزالي: "وكان صالحو السلف يجعلون أول النهار وآخره للآخرة، والوسط للتجارة، ولم يكن يبيع الهريسة والرؤوس بكرةً إلا الصبيانُ وأهلُ الذمة؛ لأنهم كانوا في المساجد بعدُ".
أيها المسلمون: إن حسن استغلال أول النهار بالطاعة من إصابة الخير الذي ينبغي التهيؤ له ليلا بالعزيمة الصادقة، والنوم الكافي، والإتيان بأذكار النوم خاصة قول: "اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت"، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في جزائها: "فإن مت من ليلتك مت على الفطرة، وإن أصبحت أصبت خيرًا"(رواه مسلم).
وخير افتتاح لليوم وأساس بركته: أداء صلاة الفجر في وقتها جماعة في المسجد؛ فإنه ذكر شريف لاسم المصلي عند الله حين ترفعه الملائكة إليه، يقول النبي: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون"(رواه البخاري ومسلم).
وهو من أسباب حفظ الله لعبده، وقيامه بحاجته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء"(رواه مسلم).
وللذكر وتلاوة القرآن بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس مزية؛ ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يدعه، قال جابر بن سمرة -رضي الله عنه-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة، حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام"(رواه مسلم).
والمبادرة بالصدقة أول النهار من أسباب الظفر بدعاء الملائكة المجاب بالخلَف المبارك، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا"(رواه البخاري ومسلم).
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله... أما بعد: فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
أيها المؤمنون: بمفتَتح الصباح بأعمال البر يُنزِل الله على اليوم بركته، ويوفق عبده لحسن استغلاله، ويفتح الله عليه من فتوح الأعمال والأحوال والأرزاق ما تطيب به نفسه وتقر به عينه، ومن ذلك: انشراح الصدر، وطيب النفس، وقوة البدن ونشاطه؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة؛ فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".
قال ابن القيم: "وحضرت شيخ الاسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله -تعالى- إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليّ، وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي".
وفي افتتاح العبد يومه بأعمال البر إصباح منه على همّ الآخرة، وحضور لذكرها في قلبه، وقد وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من أصبح والآخرة همه بالبركة وتيسر الأمر وراحة البال وغنى النفس، يقول: "من كانت الآخرة همَّه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة"(رواه الترمذي وصححه ابن حبان).
وبركة الرزق وتيسره حاصلان إن طلب وقت البكور وقت ارتزاق الطيور؛ كما مر في حديث صخر الغامدي -رضي الله عنه- خاصة إن سُبق بأعمال البر مطلع النهار، رأى عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ابنًا له نائمًا نومة الصبحة، فقال له: قم؛ أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق؟!
قال ابن القيم: "نومة الضحى تشغل عن أمر الدنيا والآخرة"، فالصباح وقت الأرباح، قال ابن عبدالبر: "النجاح في البكور"، وقال حكيم: "إذا أراد أحدكم حاجة فليبكر إليها؛ فإن البركات في البكور".
بكِّرا صاحبيَّ قبل الهجير *** إن ذاك النجاح في التبكير
التعليقات