عناصر الخطبة
1/ بعض الآثار السلفية في بذل المعروف والخيرية 2/ تفضيل السلف قضاء الحاجات على العبادات القاصرات 3/ صور واقعية من أفعال السلف في بذل الخير والإحسان إلى الناس 4/ وصايا وأقوال أثرية في بذل المعروف.اهداف الخطبة
اقتباس
كان زيد اليامي إذا كانت الليلة مطيرة، أخذ شعلة من النار، فطاف بها على عجائز الحيّ فقال: "أتريدون ناراً؟"، فإذا أصبح طاف على عجائز الحي فقال: "ألكم في السوق حاجة؟ أتريدون شيئاً؟ وعن معمر "أن طاووساً أقام على رفيق له مريض يخدمه حتى فاته الحج".. سل نفسك عن هذه المواقف والعبر، ما هي الدروس والدرر، هل مشيت في حاجة فقير أو إعانة مسكين أو شاب يريد الزواج أو مهموم ومكروب، أو مريض لعلاجه أو أخرق لدلالته، أو أعمى لمسيرته، أو مظلوم لشفاعته، أو قاطع لوصلته، أو متشاحن لإصلاحه أو ظالم لرده؟!...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العلي ذي الكرم الواسع الكريم واهب الحكم، ثم الصلاة والسلام ما جرى نبع الصفا وازدان مكحل النقا على النبي أحمد المختار خير الورى وزينة الأطهار وآله وصحبه ذو الهدى ومن بهديه تزكى واقتدى.
عباد الله: اتقوا الله جل في علاه فأعظم ما يكسب رضاه ويمنح هداه ويسعد العبد في دنياه هي تقواه سبحانه لا إله سواه.
أيها المسلمون: نحن مسافرون في هذه الدنيا وسوف نغادر الحياة بلا رجعة ترجى، نعم مسافرون، ومن شان المسافر التهيؤ والاستعداد وأخذ الحذر من المخاطر فهلا استعددنا لسفرنا لليوم الآخر بالعمل الصالح الطاهر.
أيها الناس: مضى معنا في الجمع الماضية بذل المعروف في صنائع المعروف، فمضى الحلقة الأولى صوره وأنواعه والحلقة الثانية آدابه وأخلاقه، ومعنا في هذه الجمعة الحلقة الثالثة "نماذج سلفية وصور واقعية وأقوال أثرية، اللهم اجعلنا من أهل المعروف الناهين عن المنكر والأمرين بالمعروف يا صاحب الجود والبر والمعروف.
فنأخذ من همم القوم ما نرفع الهمم واللوم؛ علها تكون لنا حافزة وللخيرات حائزة وللمعروف باذلة ولحب الخير للغير نافعة. فاستمعوا أيها المسلمون الآثار السلفية في بذل المعروف والخيرية.
جاء عن الحسن وابن سيرين أن فعل المعروف يؤجر عليه وإن لم يكن له فيه نية.
وسئل الحسن عن الرجل يسأله آخر حاجة وهو يبغضه فيعطيه حياء هل له فيه أجر؟ فقال: "إن ذلك من المعروف وإن في المعروف أجرا".
وقال ابن عباس -رضي الله عنه- "المعروف أيمن الزرع وأفضل كنز".
ومن الآثار السلفية في بذل المعروف للبرية ما قاله محمد بن المنكدر لما سُئل أي الدنيا أعجب إليك؟ قال: "إدخال السرور على المؤمن".
وقال محمد بن واسع: "مَا رَدَدْتُ أَحَدًا عَنْ حَاجَةٍ أَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا، وَلَوْ كَانَ فِيهَا ذَهَابُ مَالِي".
وكانوا يفضلون قضاء الحاجات على العبادات القاصرات، قال الحسن: "لئن أقضي لمسلم حاجة أحب إليَّ من أن أصلي ألف ركعة".
وقال طاووس" إذا أنعم الله على عبد نعمة ثم جعل إليه حوائج الناس فإن احتمل وصبر وإلا عرض تلك النعمة للزوال ".
إنَّ ابتداء العرف مجدٌ باسقٌ *** والمجد كلُّ المجد في استتمامه
إنَّ الهلال يروق أبصار الورى *** حسناً وليس كحسنه لتمامه
وكان يقال: "في كل شيء سَرَفٌ إلا في المعروف".
وإذا امرؤٌ أهدى إليك صنيعةً *** من جاهه فكأنًّها من ماله
وكان يقال "من أسلف المعروف كان ربحه الحمد والثناء المحمود"
ولم أر كالمعروف أما مذاقه *** فحلو وأما وجهه فجميل
وقال عبدان: "ما سألني أحد حاجة إلا قمت له بنفسي، فإن تمت وإلا قمت له بمالي، فإن تمت وإلا استعنت بالإخوان، فإن تمت وإلا استعنت بالسلطان".
الله أكبر بدون ملل ولا كلل ولا ضجر، همم عالية وقمم سامية عرفت أن حياته ليست في هذه الدار الفانية فباتت تدخر أعمالها للدار الباقية، قال ابن عباس: "إن لله عباداً يستريح الناس إليهم في قضاء حوائجهم وإدخال السرور عليهم أولئك هم الآمنون يوم القيامة".
وقال الضحاك في قوله في قصة يوسف (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) كان إحسانه إذا مرض رجل بالسجن قام عليه، وإذا ضاق عليه المكان وسع له، وإذا احتاج إلى جمع مال سأل له.
وقال وهب بن منبه: "إن أحسن الناس عيشاً من حسن عيش الناس في عيشه، وإن من ألذ اللذة الأفضال على الإخوان".
ولما تمثل رجل عند عبد الله بن جعفر بقول الشاعر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ***حتى يصاب بها طريق المصنع
فإذا اصطنعت صنيعة فاعمد بها *** لله ولذوي القرابة أودع
قال: هذان البيتان يبخّلان الناس، لا ولكن أمطر المعروف إمطاراً فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً وإن أصاب اللئام كنت له أهلا.
وما هذه الأيام إلّا معارة *** فما استطعت من معروفها فتزوّد
فإنك لا تدري بأيّة بلدة *** تموت ولا ما يحدث الله في غد
فاصنع في كل يوم معروفا وكن للخير باذلا مألوفا، قال بعضهم:
أيام المرء ما أغاث فيه المضطر، واحتسب فيه الأجر، وارتهن فيه الشكر، واسترق فيه الحر.
وقال المهلب: "عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه".
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمرد
وقال إبراهيم بن آدم: "ذهب السخاء والكرم والجود والمواساة، فمن لم يواسِ الناس بماله وطعامه وشرابه فليواسهم ببسط الوجه والخلق الحسن، لا تكونون في كثرة أموالكم تتكبرون على فقرائكم ولا تميلون إلى ضعفائكم، ولا تبسطون إلى مساكينكم".
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
وقال النضر بن شميل: "ما رأيت أرحم بمسكين من شعبة".
وقال الزبير بن بكار: "كان للعباس بن عبدالمطلب ثوب لعاري بني هاشم وجفنة لجائعهم".
وقال حسان بن أبي سنان: "لولا المساكين ما اتجرت".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لئن أعول أهل بيتا من المسلمين شهرا أو جمعة أو ما شاء الله أحب إليَّ من حجة بعد حجة".
وكانوا يخفون أعمالهم متاجرةً مع ربهم، فهذا عليّ بن الحسن يُبَخَّل، فلما مات وجدوه يقوت مائة أهل بيت بالمدينة!!
وآخر يوقف نفسه للحوائج طلبا ونيلا لتلك الجوائز، فكان عبد الله الواسطي قد وقف نفسه على مصالح المسلمين والمشي في قضاء حوائجهم.
وقال أبو عمر الزاهد: "ترك قضاء حقوق الإخوان مذلة، وفي قضاء حقوقهم رفعة، نعم الرفعة بالتعاون والتواصي والمعروف والمنعة، فهلا نأخذ درسًا في قضاء إخواننا وأخواتنا من ديون باهظة وفقر ومسكنة، وشفاعة ووساطة، وبذل وتضحية، وتوسعة وفرحة وبشاشة وابتسامة، سل نفسك ماذا صنعت لإخوانك، ماذا بذلت لمجتمعك، ماذا نفعت وعلمت، ونصحت وأرشدت، وذكرت ونبهت.
سل نفسك عن هذه المواقف والعبر، ما هي الدروس والدرر، هل مشيت في حاجة فقير أو إعانة مسكين أو شاب يريد الزواج أو مهموم ومكروب، أو مريض لعلاجه أو أخرق لدلالته، أو أعمى لمسيرته، أو مظلوم لشفاعته، أو قاطع لوصلته، أو متشاحن لإصلاحه أو ظالم لرده؟!
فاجعل هذه الصور وما سيأتي من عبر شاحذة لهمتك رافعة لسيرك باذلة لاجتهادك وعملك، ولا تقتصر على فعل المعروف للأفراد والأحياء، بل للمسلمين جمعاء من طرقات ومجمعات وعلوم شرعيات ومؤسسات بناءة ونوافذ نافعة في أمور الدنيا والآخرة على أنواع الأطياف والمستويات والتخصصات والحاجات والعاهات والإعاقات.
الأنبياء -أيها الأوفياء- أسرع الناس نفعا وأحرصهم دفعًا فإبراهيم بذل ماله ومنزله للضيفان وإطعام الإنسان، وموسى أخبر عنه الرحمن (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص: 23- 24].
وهذا عيسى يدعو ربه (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) أي نفاعًا للناس أينما اتجهت.
وهذا نبينا كان يقضي الحوائج حتى أرهقه التعب فكان يصلي قاعدًا تقول عائشة بعدما "حَطَمَهُ الناس" أي بكثرة حوائجهم، وكما شفع لمغيث عند زوجته بريرة بل حتى الحيوان لما رأى الجمل حينما ذرفت عيناه قال: "من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟" فجاء فتى من الأنصار فقال: "أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي مَلَّكَكَ اللهُ إياها؟ فإنه شكى إليَّ أنك تُجيعه".
تَرَاهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلّلاً *** كأنّكَ تُعطيهِ الذي أنتَ سائِلُهْ
ولو لم يكنْ في كفِهِ غيرُ روحِهِ *** لجادَ بها، فليتقِ اللهَ سائلُهْ
وصار على هذا المنهج وبذل المعروف أصحابه كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة الأكرمين الباذلين النافعين، فرضي الله عن الصحابة أجمعين وجمعنا بهم في أعلى عليين إنه سميع قريب مجيب دعوة الداعين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
ومن صور المعروف ونماذجه -أيها الإخوة- ما ورد عن عبد الله بن سلمة قال: كان سلمان -رضي الله عنه- "إذَا أَصَابَ شَاةً مِنَ الْمَغْنَمِ ذَبَحَهَا، فَقَدَّدَ لَحْمَهَا، وَجَعَلَ جِلْدَهَا سِقَاءً، وَجَعَلَ صُوفَهَا حَبْلا، فَإِنْ رَأَى رَجُلاً قَدَ احْتَاجَ إِلَى حَبْلٍ لِفَرَسِهِ أَعْطَاهُ، وَإِنْ رَأَى رَجُلاً احْتَاجَ إِلَى سِقَاءٍ أَعْطَاهُ".
وكان زيد اليامي إذا كانت الليلة مطيرة، أخذ شعلة من النار، فطاف بها على عجائز الحيّ فقال: "أتريدون ناراً؟"، فإذا أصبح طاف على عجائز الحي فقال: "ألكم في السوق حاجة؟ أتريدون شيئاً؟
وعن معمر "أن طاووساً أقام على رفيق له مريض يخدمه حتى فاته الحج".
ومن جميل المواقف والصدق والتآلف ما جاء عن ابن شبرمة أنه قضى حاجة كبيرة لبعض إخوانه، فجاء يكافئه بهدية فقال: "ما هذا؟ قال: لما أسديته إليّ" فقال: "خذ مالك عافاك الله، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها، فتوضأ للصلاة، وكبّر عليه أربع تكبيرات، وعدّه من الموتى".
ومن ذلكم -بارك الله فيكم وأسعد حالكم- قول عبدالله بن ربيعة: "لئن أخدم رجلاً من المسلمين على علة يومًا واحدًا أحب إليَّ من كذا وكذا ".
وعن إبراهيم بن مسعود قال: "كان رجل من تجار المدينة يختلف إلى جعفر بن محمد فيخالطه، ويعرفه بحسن الحال، فتغيرت حاله فجعل يشكو ذلك إلى جعفر بن محمد..
فقال جعفر:
فلا تجزع وإن أعسرت يومًا *** فقد سعدت في الزمن الطويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر *** لعل الله يغني عن قليل
ولا تظنن بربك ظن سوء *** فإن الله أولى بالجميل
قال: فخرجت من عنده وأنا أغنى الناس
ومن صور المعروف وإعانة الملهوف: ما كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يحلب لعجائز الحي أغنامهم، فلما استُخلف قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر: بلى وإني لأرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه –يعني الخلافة- عن شيء كنت أفعله"، فهمها علت رتبتك وعلا منصبك فلا تبخل بمعروفك وجودك.
كان عمر -رضي الله عنه- يتعاهد الأرامل فيجلب لهن الماء بالليل ورآه طلحة يدخل بيت امرأة فدخل إليها فإذا هي عجوز عمياء مقعدة فسألها ماذا يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت هذا له منذ زمن كذا وكذا يتعاهدنا يأتيني بما يصلحني، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة عثرات عمر تتبع؟!
وقال مجاهد: صبحت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني.
وكان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهم كل يوم يشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن.
ومن صور صنائع المعروف وبذل الخير والقطوف ما ذكر عن علي زين العابدين: فقد كان أناس من أهل المدينة لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل، ولما غسلوه وجدوا بظهره أثر مما كان ينقله بالليل إلى بيوت الأرامل.
وهذا عبد الله بن المبارك كان ينفق من ماله على الفقهاء، وكان من أراد الحج من أهل مرو إنما كان يحج من نفقته وكان يؤدي عن المديون دينه، ويشترط على الدائن ألا يخبر مدينه باسمه فيخرج من السجون بدون علم من سدد دينه.
قمة في الإخلاص، وعلو في التنافس والخلاص، كيف لو رأى من صنع ذرة من معروف فنشر اسمه وأذاع صيته ومن بعطيته وغضب لعدم ذكر معرفته.
ولما جاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها فأقبل الرجل يشكره، فقال له الحسن بن سهل: علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة؟ كما أن للمال زكاة ثم أنشأ الحسين، يقول:
فرضت علي زكاة ما ملكت يدي *** وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد وإن لم تستطع *** فأجهد بوسعك كله أن تنفعا
بل إن الأمر وصل بسلفهم وإخوانهم أن يقضوا حاجاتهم دون أن يلتقوا بهم حتى لا يحصل لهم ذل وحياء، وليكون أقرب للإخلاص والوفاء، فعن مطرف بن الشخير قال لبعض إخوانه: يا أبا فلان إذا كانت لك إلي حاجة فلا تكلمني، ولكن اكتب في رقعة، ثم ارفعها إلي؛ فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال.
لحمل الصخر من قمم الجبال *** أحب إليَّ من منن الرجال
يقول الناس لي في الكسب عار *** فقلت العار في ذل السؤال
وقيل:
تحسبن الموت موت البلى*** إنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا *** أخف من ذاك لذل السؤال
فهذه نماذج وصور ومواقف وعبر وكلمات ودرر ليست للتسلية أو قضاء الوقت ومجرد سرد قصص واقعية، بل للاقتداء والاهتداء والتأسي والعمل والسخاء، وختام ثلاث الحلقات والخطب والكلمات بذل المعروف في صنائع المعروف من أجل الأعمال وجميل الخصال وهمة الرجال، فاجعل شعارك وخلاصة ذلك فعل الخير للغير.
أسأل الله الكريم أن ينفعنا بما سمعنا وبما قلنا..
التعليقات