عناصر الخطبة
1/ الاعتبار بالأيام 2/ الاستعداد للموت 3/ الرصيد الحقيقي 4/ حقيقة الدنيا 5/ محاسبة النفس 6/ التعجيل بالتوبة 7/ التوبة النصوح 8/ مكفِّراتٌ للذنوب 9/ صيام المحرَّم 10/ صيام عاشوراءاهداف الخطبة
اقتباس
ونحن نودع عامًا ونستقبل عامًا جديدًا، ترى؛ ماذا أودع كل واحد منا في العام المنصرف من الأعمال الصالحات، ومن القربات النافعات، ومن الأعمال التي يخبئها المسلم بينه وبين ربه عز وجل، التي لا يطلع عليها أحد إلا الله سبحانه وتعالى؟! فيجدها أوفر ما تكون، وأعظم أجرًا، وأجزل ثوابًا يوم القدوم على ربه سبحانه وتعالى. ما المخالفات التي ارتكبناها في ذلك العام؟! ما الواجبات التي فرطنا فيها؟! ما ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل-، واعتبروا -رحمكم الله- بسرعة مرور الأيام والليالي والشهور والأعوام، إن هذه الأيام وهذه الشهور والأعوام تقربنا من مصيرنا المحتوم، وتدنينا من محطتنا الأخيرة في الدنيا وهي ساعة الاحتضار والفراق، والانتقال إلى حياة البرزخ، ومن ثم إلى يوم القيامة.
إن عمر الإنسان -أيها الإخوة المسلمون- مهما طال في هذه الدنيا فهو مراحل يقطعها يومًا بعد يوم، ومن كانت الليالي والأيام مطاياه فعما قريب سيصل إلى منتهاه.
أيها الإخوة المسلمون: إنه يحسن بالمسلم وهو يودع عامًا ويستقبل عامًا آخر أن يتذكر بعض الأمور والحقائق، أن يتذكر أولاً بهذه الأيام وسرعة مرورها أن عمره مهما طال فسينتهي، فهل استعد للقاء الموت؟! هل استعد لتلك اللحظة الرهيبة؟! هل استعد لذلك الموقف العظيم؟!
إن من أكبر المصائب على العبد أن يفْجأَهُ الموت في ساعة من ليل أو نهار وهو قد عاش مُصِرًّا على معصية ربه، غارقًا في بحر التسويف والإهمال، مضيعًا للفرائض، مفرطًا في السنن، مجترئًا على الحرمات، لم يستعد للموت بأعمال صالحة، ولا قربات نافعة.
إن الندامة الحقيقية هي تلك الندامة التي يشعر بها المطَّالون والمسوِّفون، إن الندامة الحقيقة هي تلك الندامة التي يشعر بها اللاهون واللاعبون الذين شغلتهم دنياهم عن آخرتهم فأنستهم ربهم ولقاءه يوم يفجؤهم الموت على غرة من غراتهم وغفلة من غفلاتهم في ساعة من ليل أو نهار، يوم يود الواحد منهم لو يمهل في هذه الدنيا ولو ساعة واحدة يتوب فيها توبة نصوحًا خالصة، فيحال بينه وبين ذلك: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].
إنه لا رصيد ولا جاه يلاقي به المسلم ربه كرصيد الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والخوف من ذي الجلال والإكرام؛ لا رصيد أنفع -بعد رحمة الله وفضله- من الأعمال الصالحة، والقربات النافعة؛ لا رصيد أنفع للمسلم -بعد رحمة الله وتوفيقه- من أن يلقى ربه بقلب سليم، قلب مملوء بمحبة الله وخوفه وإجلاله، والخشية منه، وتعظيمه، والرهبة منه، والرغبة إليه.
وما أشد فرح المسلم الذي قضى حياته في طاعة مولاه وخوفه وتعظيمه مبتعدًا عن معاصيه! ما أشد فرحه حينما تحين ساعة الاحتضار وتتلقاه ملائكة الموت فتبشره بما يفرحه ويسره ويبهجه! (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ) [فصلت:30-32].
فَبَدَارِ -أيها الإخوة- إلى الأعمال الصالحة! بَدَارِ إلى القربات النافعة! سَعْيًا سعيًا إلى كل عمل صالح يرضى به ربنا عنا، ويؤهلنا إلى دخول جنته، والنجاة من نيرانه.
إخوة الإسلام: إن على المسلم أن يتذكر -ثانيًا- حقيقة هذه الدار الدنيا، وأنها دار الغرور، وأنها خداعة، تأمل -أيها المسلم- في هذا العام المنصرم، كم من إنسان كان صحيح البدن معافى مسرورًا بين أولاده ثم في لحظة واحدة أتى خبر نعيه وموته!
كم من إنسان كان يتمتع بجوارحه وحواسه ونشاطه ثم فَجَأَهُ حادثٌ من الحوادث العارضة فأقعده عن العمل وأصبح طريح الفراش لا يستطيع حراكًا، حيث تبدلت قوته ضعفًا، وصحته مرضًا، ونشاطه خمولاً.
كم من إنسان كان يعيش حياة رغد ورفاهية انقلبت عليه حياته فإذا هو في عداد الفقراء والمعوزين! وكم من بيت كانت السعادة تعمره، والسرور يغمره، فإذا بمكدرات الحياة تعكر صفوه، وإذا بالبؤس والحزن يحلان محل الفرح والسرور!
وكم وكم -أيها الإخوة المسلمون- من تقلباتٍ للدنيا وتغيرات! (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) [النازعات:26].
انظُرْ إلى الأَطْلالِ كيف تغيَّـرَتْ *** مِن بعد ساكِنِهَا وكيف تَنَكَّرَتْ
سَحَبَ البِلى أذياله برُسُـومِـها *** فتسـاقَطَتْ أحجارُها وتكسَّرَت
ومضَتْ جماعةُ أهلِها لـسبيلِهِمْ *** وتغيَّبَـتْ أخبـارُهـا وتبـدَّلَت
نَصَبَتْ لنا الدُّنْيَا زخارفَ حُسْنِها *** مَكْرًا بنا، وخديعـة ما افْتَـرَت
وهـي التي لم تَحْـلُ قطُّ لذائقٍ *** إلا تغيَّـرَ طعْمُـهَا وتَمَـرَّرَت
خدَّاعةٌ بـجمالـها إنْ أقْبَـلَتْ *** فجَّاعـةٌ بـزوالها إنْ أَدْبَـرَت
طُلاَّبُها في سَـكْرَةٍ مِـن حُبِّها *** غَدَرَتْ بِهِمْ وبِذاتِهِمْ قدْ غَـرَّرَت
هذه هي الدنيا التي يتنافس عليها المتنافسون، وتقطع بسببها أرحام ووشائج، وتمتلئ بسببها قلوبٌ عداوةً وبغضاء وشحناء، هذه هي الدنيا الفانية، هذه هي الدنيا الزائلة التي صدّت كثيرًا من الناس عن طاعة خالقهم، وصدق الله -عز وجل- إذ يقول في محكم كتابه: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20]، (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39].
فطوبى لعبد عمر دنياه بذكر الله وطاعاته! طوبى لعبد قضى حياته ملازمًا للتوبة والإنابة والاستغفار! يبكي على كل خطيئة تقع منه، ويطمع في رحمة ربه وفضله، طوبى لعبد عاش في دنياه مراقبًا لخالقه! مستحضرًا اطلاع الله عليه، وعلمه بسره ونجواه، طوبى لعبد يدرك يقينًا أن حياته الحقيقية هي الحياة الأخروية! طوبى لعبد يزداد كل يوم قربًا من ربه وخوفًا وخشية! طوبى لشاب لم يخدعه زخرف الحياة الدنيا ولا بهرجها، ولم تصده الملهيات أو تشغله الشواغل عما خلق من أجله، فنشأ شابًّا عفيفًا طائعًا في ظل طاعة الله -عز وجل-.
إخوة الإسلام: ونحن نودع عامًا ونستقبل عامًا جديدًا، ترى؛ ماذا أودع كل واحد منا في العام المنصرف من الأعمال الصالحات، ومن القربات النافعات، ومن الأعمال التي يخبئها المسلم بينه وبين ربه -عز وجل-، التي لا يطلع عليها أحد إلا الله -سبحانه وتعالى-؟! فيجدها أوفر ما تكون، وأعظم أجرًا، وأجزل ثوابًا يوم القدوم على ربه -سبحانه وتعالى-.
ما المخالفات التي ارتكبناها في ذلك العام؟! ما الواجبات التي فرطنا فيها؟! ما المحرمات التي تجرأنا على الوقوع فيها؟! إنه لسؤال ينبغي أن يسأله كل واحد منا لنفسه، نحتاج إلى محاسبة دقيقة، إلى مراجعة شاملة، فيطلع كل واحد منا على كشف حسابه وما فيه من الزيادة والنقص، أليس التجار يعمدون في نهاية كل عام إلى جرد حساباتهم ليعرفوا مظاهر الربح ومظاهر الخسارة؟! مظاهر الربح لينموها، ومظاهر الخسارة ليتداركوها ويتلافوها!!
إن الحسنات والقربات النافعة تمثل زيادة في رصيد المؤمن الذي يلاقي به ربه -عز وجل-، وإن السيئات والمنكرات القولية والفعلية والقلبية تمثل نقصًا في إيمان المسلم ورصيده يوم القدوم على ربه -عز وجل-.
ألا فلنبادر -أيها الإخوة المسلمون- إلى التوبة النصوح، لنبادر إلى التوبة الصادقة، والاستغفار الحقيقي من تلك الذنوب العظيمة التي ارتكبناها، والمعاصي العديدة التي لوثت صحائف أعمالنا وسجلات حسناتنا.
ما أحوجنا -أيها الإخوة المسلمون- إلى أن نخلّص أنفسنا من أسر المعاصي والشهوات المحرمة! ما أحوجنا إلى أن نرفع الظلم عن أنفسنا بما ارتكبناه من محرمات، وقصرنا فيه من واجبات!
إن الدعوة إلى التوبة تتكرر دائمًا في مثل هذا الوقت من كل عام، فهل يا ترى كان لها أثر في حياتنا وأعمالنا؟!
ليست القضية -أيها الإخوة المسلمون- تمني التوبة فقط، أو قولها باللسان، أو الرغبة فيها بلا عمل؛ إننا بحاجة إلى توبة حقيقية، إننا بحاجة إلى توبة فيها ندم وحسرة على ما مضى من عيوبنا وتقصيرنا وتفريطنا في حق خالقنا.
إننا بحاجة إلى توبة حقيقة فيها بكاء على خطايانا، وما أكثرها! وعلى إسرافنا في أمرنا، إننا بحاجة إلى توبة حقيقية فيها استحياء وذل من جرأتنا على عصيان ربنا فيما أسلفنا، إننا بحاجة إلى توبة تحمل عزمًا صادقًا، عزمًا قويًّا، عزمًا لا كذب فيه ولا التواء على عدم الرجوع إلى مبارزة الله بالمعاصي.
إننا -والله- محتاجون أشد الحاجة إلى استغفار حقيقي نغسل به أوزار الذنوب، وأوساخ المعاصي؛ أما أن تكون التوبة مجرد دعوة، والاستغفار مجرد نطق باللسان دون أن يشفع ذلك بعمل صالح؛ فإن ذلك لا يفيد ولا يجدي شيئًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التحريم:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر:3]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ عنهم شذّ في النار.
أيها الإخوة المسلمون: إن من رحمة الله -عز وجل- بعباده أن جعل الحسنات يذهبن السيئات، وأن جعل التوبة النصوح تهدم ما قبلها؛ بل إن التوبة النصوح يبدل الله -عز وجل- بها السيئات -مهما عظمت ومهما كبرت- حسنات؛ فضلاً من ربنا -عزّ وجل- ورحمة، وإن من الخير للعبد أن يمد الله في عمره ليقلع عن عصيانه ويجتهد في تكفير خطاياه.
إخوة الإسلام: علينا ونحن نودع العام أن نتذكر أن كثيرًا منا -إلا من رحم الله- قد ارتكب فيه مخالفات، وقصر في واجبات؛ ويحسن بنا أن نتلمس أسبابَ تكفيرِ هذه الذنوب والمعاصي، فنحرص عليها لنتخلص من تبعة تلك الذنوب والآثام ما دام في العمر فسحة، قبل أن يحال بيننا وبين ذلك.
وإن من أعظم أسباب تكفير الذنوب والخطايا: التوبة النصوح؛ إن ربنا العظيم الرحيم يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها. يقول الله -عز وجل- في الحديث القدسي: "يا عبادي: إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم"، (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء:110].
إن الذنب -مهما عظم وكبر- قابل للتكفير بالتوبة، حتى الكفر، وهو أعظم الذنوب، والله -عز وجل- يقول: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال:38]، ومن يظن أن ذنبًا لا يتسع لعفو الله فقد ظن بربه ظن السوء.
كم من عبد كان من إخوان الشياطين فمَنَّ الله عليه بتوبة نصوح محت عنه ما سلف من الذنوب فصار عبدًا لله صوامًا قوامًا قانتًا لله -عز وجل- ساجدًا!!
جاء في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَذْنَبَ رَجُلٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ: أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ رَبُّكُمْ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، قَالَ: ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ: أَذْنَبْتُ ذَنْبًا آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ رَبُّكُمْ: عَلِمَ عَبْدي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، قَالَ: ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ فَأَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ: أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ رَبُّكُمْ: عَلِمَ عَبْدي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ"، يعني: ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبًا استغفر منه غير مُصر عليه.
وإلى جانب التوبة والاستغفار هناك أعمال تكفَّر بها السيئات وتمحى بها الخطيئات، وهي أعمال يسيرة جدًّا: "مَن تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع له درجة"، و"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن؛ إذا اجتنبت الكبائر"، و"مَن توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى، وزيادة ثلاثة أيام".
يضاف إلى ذلك ما يصيب المسلم من البلايا في النفس والمال والولد، وما يعرض له من مصائب الحياة ونوائب الدهر، فهي كفارات للذنوب، ماحيات للخطايا، رافعات للدرجات.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله عنه بها، حتى الشوكة يشاكها"، وفي رواية: "إلا رفع الله له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة".
إخوة الإسلام: إن من الناس من يخدعه طول الأمل، أو نضرة الشباب وتوافر النعم وصحة البدن، والفراغ من الأشغال، والمال والعيش الرغيد، فيداوم على الخطيئة ويسوّف التوبة، ووالله! ما خدع المسكين إلا نفسه! لا يفكر في عاقبة، ولا يخشى من سوء خاتمة، وقد يجيء أمر الله بغتة فيحال بينه وبين التوبة: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ) [النساء:18].
ألا فاتقوا الله -عباد الله-، وأكثروا من الاستغفار، وجددوا توبتكم لربكم -عز وجل- لعلكم تفلحون، وابدؤوا عامكم هذا بأعمال صالحة تقربكم من ربكم -عزّ وجل-، وتوبة نصوح تجددون فيها العهد والميثاق مع الله -عزّ وجل-، تطلّقون فيها الذنوب والمعاصي بلا رجعة، وإذا حصل منكم بطبعكم البشري رجوع إلى الذنب أو المعصية فبادروا مباشرة إلى التوبة: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ) [آل عمران:135].
ألا وإن من أفضل الأعمال التي يعظم الله -عز وجل- الأجور لأصحابها (الصيام)، وبخاصة في الأزمنة الفاضلة، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صوم شهر الله المحرم، فأكثروا من الصيام في هذا الشهر المبارك؛ فإن الصيام فيه له مزية على غيره من الشهور والأيام.
أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً بالصوم فقال: "عليكم بالصوم؛ فإنه لا عدل له"، أي: لا مثل له في الأعمال الأخرى.
وقد صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا".
وفي الحديث الآخر، الحديث المشهور: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به".
فأكثروا من الصيام في هذا الشهر المبارك، وبخاصة صوم يوم عاشوراء، وصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، أو صوموا الأيام الثلاثة كلها؛ فـ"من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا".
نسأل الله -عز وجل- أن يأخذ بنواصينا جميعًا إلى البر والتقوى، وأن يوفقنا للأعمال الصالحة، وأن يختم لنا جميعًا بخير ما ختم به لعباده وأوليائه الصالحين.
نسأله -سبحانه وتعالى- أن يختم حياتنا على طاعة وعبادة، وعلى عمل صالح مبرور يرضى به ربنا عنا، إنه على كل شيء قدير.
هذا؛ وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك...
التعليقات